تتيح رؤية أعمال الرسام السوري أنس البريحي في غاليري صالح بركات البيروتية تحت عنوانthe turn الدخول في حالة مصارحة نفسيّة تولّدها اللوحات المعروضة، والتي تبدو للوهلة الأولى كأنها لوحة واحدة أو رواية مقسّمة إلى أجزاء وتفاصيل، تكتمل باجتماعها في مكان واحد وتحت ثيمة واحدة.
فكرةُ المعرض هي استكمال لمشروع طويل يشتغل عليه البريحي منذ معرضه الأوّل. مشروع تتوضّح معالمه بعد معاينته عن كثب، بحيث تنطلق فكرته من أنّ الإنسان يكون حقيقياً جداً في حالة النوم. الإنسان بالدرجة الأولى عندما ينام ينتهي من قصّة القلق ويكون حراً جداً. يتساوى النائم والبريحي بهذه الحالة حين يرسمه يتحوّل معه وينجرّ إلى حالته النائمة والمسالمة.
الأفق المفتوح
الناظر إلى اللوحات يجد أمامه نافذة تطلُّ على أفق مفتوح. أفق لا يبقى رهين اللوحة أو الشخص النائم بل يتعداه إلى الفضاء الحر ذي الرحابة والطمأنينة. هذه الحالة الوجودية التي تدخلنا إليها اللوحات تبدأ بالغوص في عوالم النوم، حين يسلّم الجسد نفسه بالكامل. ينتقل بحالة النوم إلى رحلة من التسليم المطلق بعد الكدّ والتعب والعناء اليومي.
تبدو الضربات في اللوحات كأنّها ضربات مسافرة بريشة تائهة وغير منتظرة. تنقل صورة الأشخاص وحالاتهم وهشاشتهم وضعفهم. هي أشبه بمغامرة للعين التي تلعب بالمشهد وتقرره في ظلّ غياب الشخص في سباته. بدأ الشخص نائماً في غرفة في أعمال سابقة للبريحي، ليخرج منها لاحقاً، ليكون نائماً في شاحنات الهجرة المنتقلة بحثاً عن وطن بديل، أو مكان متخيّل، ليصل اليوم إلى النوم في اللامكان أو في الفضاء العام.
الأصل في لوحة البريحي هو اللّوحة الواحدة. اللّوحة الواحدة وأطيافها. الأشخاص الممدّدون في مخادعهم يبدون وكأنهم في بؤرة رحميّة. ظلال وأحجار وشوارع غير واضحة المعالم والمرجعيّات. فالمكان ليس مكاناً معروفاً. ما يجده المتفرّج فيه هو إيحاء لبحر، إيحاء لجبل إيحاء لصحراء ولا يقين. ما يجده أيضاً هو الشيء العام الذي يتلخّص بالأرض والسماء.
الشخصيات التي تظهر للمتفرج في لوحة البريحي لا يبان منها سوى وجهها. لا نعرف عنها أي تفصيل سوى أنّها نائمة ومستسلمة مليئة بالتلافيف والأغوار، تتحرّك داخل نفسها في متواليات بعيداً من الانفجار والتشظي كأنّها أنثى كبيرة، أنثى تبحث عن أنوثتها الهادئة والمغمورة، وتطرح علينا أسئلتها للتحرر من الرغبات والشوائب والرواسب وزحمة التفاصيل.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الشخوص بلا قناع في لوحة البريحي. شخوص هم عبارة عن لحظات أكثر مما هم من ألوان. لحظات راهنة مصقولة ببراعة وبأطياف مرتبة مستقرة وشبه أليفة. إذا أزلنا الإنسان من اللوحة تبقى اللوحة لوحة، هذا الإنسان وحده لا يكفي ليصنع لوحة. لو أزلنا العوالم من حوله يتحوّل كشخص إلى ثقب أسود. إنّها دعوة إلى الطبيعة والعودة إليها والانسجام معها والتماهي داخلها.
العودة إلى الطبيعة
ما يجده المتفرج أيضاً في الأعمال هو تغطيتها لمواسم عمر الإنسان عبر ألوان اللوحات المتعددة. البشر صاروا جزءاً من الطبيعة. وجود الرأس على الحد الفاصل بين السماء والسهل واقترانه بالأرض المحيطة وتجاوره الدائم معها، هي ما يُحيله جزءاً منها. هكذا حين تتحدث اللوحة تجسد فكرةً مفادها أنّ الحقيقة موجودة فقط في النوم وفي الحلم وكل شيء آخر يحتمل التصديق والتكذيب.
الأعمال الصغيرة المجاورة المشغولة على ورق، في السياق نفسه، إلا أن الخربشة هي التي تختلف. خيوط وضربات وريشة واضحة، في حين تغور في الأعمال الكبرى هذه المعالم. تتحول المخلوقات إلى كائنات صغيرة حتى تصل إلى نقطة سوداء تنصهر مع الطبيعة الأم. ما تعيشه كائنات البريحي هي حقيقة أحلامها وليس واقعها، تفتش عن الحقيقة وتجد نفسها نائمةً. النوم هو جزء من رحلة البحث عن الحقيقة.
لوحاتُ البريحي هي لحظة تتوق إلى المستقبل، حوار مع أصوات وصمت. بصمات مختلفة متقاربة ومتباعدة. لوحات تتحايل على الألوان لتحيلها إلى شبحيّة وطيفيّة.