في جنوب شرقي ليبيا، تقع المنطقة المكناة بـ "مناجم الذهب الأسود" وعُرفت منذ الأزل باسم "الواحات الثلاث" التي تطل على ضفافها الوادعة ثلاث مدن صغيرة أكبرها حجماً وكثافة سكانية "جالو" وأصغرها "أجخرة" وأوسطها "أوجلة". يتشكل مكونها الديموغرافي من غالبية عربية، وحوالى الـ50 ألف نسمة من الأمازيغ. ويخوض الأهالي العرب والأمازيغ صراعاً منذ سنوات مع المؤسسة الوطنية للنفط والشركات التي تستثمر في عمليات التنقيب عن تلك المادة الحيوية وإنتاجها بسبب التلوث البيئي الذي يقولون إن هذه العمليات تسببت به لمناطقهم التي تسهم بأكثر من 65 في المئة من إنتاج النفط الليبي، وفق أرقام تقارير المؤسسة الوطنية الليبية للنفط.
واشتهرت منطقة الواحات تاريخياً في ليبيا بنشاطها الزراعي بخاصة في مجال زراعة التمور التي تُنتَج أجود أنواعه في ليبيا ومزارع الخضروات كما كانت تُعتبر منطقة تبادل تجاري للقوافل بين الشمال الليبي والجنوب وصولاً إلى بلدان أفريقية مجاورة في أزمنة غابرة.
واكتُشف النفط في ليبيا في أواخر خمسينيات القرن الماضي، وبدأ الإنتاج في بداية الستينيات وجُل هذه الاكتشافات كانت في منطقة الواحات والمناطق الصحراوية المجاورة لها التي أصبحت تنتج قرابة ثلثَي نفط ليبيا إضافة إلى كميات وافرة من الغاز الطبيعي. وقدّر آخر تقرير صادر عن "المؤسسة الوطنية للنفط" كميات الغاز المنتجة في حقول شركة الزويتينة في الربع الأول من العام 2018، بـ 251 ألف قدم مكعب من الغاز حيث أنتج الحقل "أ 103" 11 ألف قدم مكعب، والحقل "د 103" أنتج في الفترة ذاتها 240 ألف قدم مكعب.
وشهدت ليبيا في نهاية العهد الملكي نهضة تنموية مع اكتشاف "الذهب الأسود"، الذي استفادت مدن الشمال من عائداته أكثر من مدن الجنوب، بينما لم يُضف نص دستوري يحدد حصة المناطق التي استُخرجت من باطن أرضها الثروات النفطية، وحقوقها من المشاريع التنموية. وظلت مناطق الواحات تعتمد في اقتصادها بعد النفط كما قبله على الزراعة بشكل شبه تام.
بحار من النفط
وتضم "منطقة الواحات" في جنوب شرقي ليبيا، أكبر الحقول المنتجة للنفط حيث تملك "شركة الواحة" (بالشراكة مع أميركيين) 3 حقول وهي "الواحة" التي تنتج 150 ألف برميل يومياً، وحقل "جالو 59" الذي ينتج حوالى 133 ألف برميل في اليوم، فيما ينتج حقل "السماح" 42 ألف برميل يومياً.
وينتج حقل "آمال" التابع لشركة "الهروج" 32 ألف برميل يومياً وتشاركها شركة "الخليج" بحقل النافورة وحقل "أجخرة" التابع لشركة "فنتر شيل" الألمانية بـ 29 ألف برميل.
أما حقل "أبو الطفل" التابع لشركة "إيني" الإيطالية فيبلغ إنتاجه 70 ألف برميل يومياً، بينما تملك شركة "الزويتينة" الليبية 3 حقول بطاقة إنتاج تبلغ 50 ألف برميل يومياً إضافةً إلى حوالى 6.7 آلاف برميل تُستخرج على شكل "مكثفات"، يتم شحنها إلى ميناء الزويتينة لتخضع لعمليات فصل وتحسين، حيث يتم إنتاج غازَي البروبان والبوتان ومادة النافتا.
نفط داخل المخططات السكانية
مع بداية الألفية الجديدة وفي العقد الأخير لحكم نظام معمر القذافي للبلاد، بدأت تظهر بوادر تلوث بيئي ناتج من عمليات التنقيب عن النفط وإنتاجه في الواحات تمثلت بانتشار أمراض كالسرطان وأمراض التنفس والاضطرابات المعوية وحالات العقم والإجهاض وتشوهات الأجنة بين المواطنين نتيجةً لانبعاث الغازات والمخلفات من شركات النفط المجاورة لمدن جالو وأجخرة وأوجلة نظراً إلى عدم وجود رقابة حقيقية من قبل الدولة على هذه الشركات وعدم التزامها معايير السلامة البيئية.
ويقول أهل المنطقة إنهم رفعوا شكاوى عدة إلى المسؤولين في تلك الفترة، من دون جدوى، ما اضطرهم في العام 2006 إلى الاعتصام احتجاجاً على ما تتعرض إليه مناطقهم من تلوث للبيئة وإفساد للمحاصيل وإصابة الأهالي بالأمراض. فما كان من النظام السابق إلا أن فضّ هذا الاعتصام بالقوة ورفض التحقيق في مزاعم الأهالي.
إجهاض وسرطان وأمراض للنخيل
من جهة أخرى، قال رئيس مؤسسة الحفاظ على البيئة في الواحات، سليمان موسى إن "الضرر البيئي على المنطقة الناجم عن المخلفات النفطية كارثي وعدم مراعاة شروط السلامة البيئية من الشركات المنتجة وتجاهل الدولة نداءات سكان المنطقة. ولو لم يُعالَج كل ذلك فإن الكارثة ستتفاقم، مع زيادة معدلات التلوث يومياً".
وأرجع ارتفاع نسب التلوث إلى "جشع الشركات وتركيزها على الأرباح" قائلاً إن "بعض هذه الشركات تعمل بالمعدات ذاتها في حفر الآبار وإنتاج النفط منذ عشرات السنين ونتيجة لتهالكها وقدمها تحدث عمليات تسريب بشكل متواصل أثناء إجراء هذه العمليات"، لافتاً إلى أن "بحيرات من المخلفات النفطية باتت تظهر على السطح قرب المناطق السكانية نتيجة توالي عمليات التسريب".
كما اتهمت الجمعية "شركة الواحة" بعدم الالتزام بالمعايير المقبولة أثناء عمليات الإنتاج، حيث تضخّ الشركة المياه المصاحبة للنفط في برك سطحية مجاورة للحقول، بدلاً من حقنها في طبقات عميقة تحت سطح الأرض.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
انقراض حيواني
ويقول المهندس العامل في إحدى الشركات النفطية محمد المجبري إن "الأدخنة المتصاعدة من الحقول النفطية المجاورة للمناطق السكانية والمخلفات الناجمة عنها تضم كميات كبيرة من المواد المشعة والمعادن الثقيلة بخاصة في البحيرات والبرك التي تكونت أثناء عمليات استخراج النفط".
وأشار المجبري إلى أن "الغازات المنبعثة من الأدخنة تسببت في انقراض أنواع عدة من الحيوانات التي كانت تزخر بها المنطقة حتى أمد قريب. ولم تعد الذئاب والثعالب الصحراوية والطيور الجارحة وغيرها تظهر منذ سنوات".
وصرح المدير العام لـ "إدارة السلامة والبيئة والأمن والتنمية المستدامة" في المؤسسة خالد بوخطوة حينها أن "هذه الدراسة أُجريت استجابةً للتساؤلات التي تنتاب المجتمع المحلّي، ونظراً إلى أن أغلب المخاطر البيئية موجودة ومتراكمة منذ فترة زمنية طويلة، إلا أن توصيات الدراسة ستؤدي إلى توفير بيئة نظيفة في المنطقة". وأضاف بوخطوة "ستستمر المؤسسة الوطنية للنفط في دعم المبادرات الرامية إلى تحسين المستويات المعيشية في المنطقة، كجزء من برامج التنمية المستدامة التي تنفذّها في المناطق المجاورة لعملياتها".
وختم قائلاً "تظهر الدراسات التي قامت بها المؤسسة والتقارير الصادرة عنها أن الملوثات البيئية في المنطقة تقع في حدود المعايير الدولية المقبولة". كما أكّد عدم وجود أي أثر لنشاط إشعاعي داخل المنطقة، أو لتركيز للملوثات الجوّية يتجاوز المعايير الدولية، مشدداً على أن "المياه الجوفية في المنطقة لم تتأثر بالطرق المتبعة حالياً للتخلص من المياه المصاحبة المستعملة".
"الخصم والحكم"
وأثارت الدراسة وما خلصت إليه من نتائج غضب الأهالي والناشطين، الذين اعتبروا أن اللجنة شُكلت من قبل مؤسسة النفط وتعمل على توظيف مخرجاتها لمصلحة الأخيرة، مطالبين بلجنة محايدة دولية تُكلف بإجراء مثل هذه الدراسات.
وعلّق عميد بلدية أجخرة موسى عوام على هذه الدراسة بالقول إن "المؤسسة الوطنية للنفط تعهدت مطلع العام الماضي بدراسة الموضوع ومعالجته وشكلت لجنةً لهذا الغرض وللأسف كانت اللجنة تابعة لها وتعهدت بمنحنا تقارير تكشف نسب التلوث في مناطقنا وباشرت العمل على ذلك بالفعل، إلا أننا وحتى هذه اللحظة لم نستلم التقارير على الرغم من اطلاعنا على نتائجها التي كانت مخيبة لآمالنا وغير موضوعية ومن الطبيعي أن تصدر بهذا الشكل طالما أن الخصم الذي هو المؤسسة الوطنية للنفط هو القاضي أيضاً واللجنة المشكلة تابعة لها".
في السياق ذاته، أكد رئيس مؤسسة الحفاظ على البيئة في الواحات، سليمان موسى أنهم سيلجأون إلى جهات بيئية دولية محايدة لدراسة التلوث في مناطقهم. وقال "سنوجه دعوات في القريب العاجل إلى المنظمات البيئية الدولية للاطلاع على الجريمة التي تحدث في مناطقنا ومساعدتنا في الضغط على الدولة لمعالجة هذا التلوث. وسنطالب أيضاً بحقوق المنطقة في مشاريع تنموية مستدامة، فنحن نالنا ضرر النفط ولم ننعم بما يدرّه من خيرات تُستخرج من تحت أقدامنا وتذهب إلى غيرنا مخلفةً لنا الأمراض والتلوث".
يتراءى للمشرف على منطقة الواحات الليبية والمقبل عليها من بعيد تمازج بصري بديع بين ألسنة اللهب المتصاعدة من آبار النفط وأشجار النخيل الباسقة الممتدة على مد البصر، ولكن ما أن يغوص في الحقائق حتى يدرك أن هذا المزيج الساحر للناظرين للوهلة الأولى يخفي خلفه صراعاً محزناً بين الإنسان والبيئة أو ربما بين الإنسان ونفسه. وسيستمر هذا الصراع ما دام هناك نفط يدر ملايين الدولارات يومياً تبقيه منتصراً على البيئة وحماتها والسكان المتضررين من التلوث حتى إشعار آخر.