Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

لماذا استغرقت أميركا كل هذا الوقت لمواجهة تاريخها القاتم؟

تأتي محاولات فتح النقاش حول إرث الرق في زمن مليء بالتحديات التي تواجهها الدولة الاميركية في عهد دونالد ترمب

من معرض هاميلتون صورة تظهر المواجهة بينه وبين آرون بور معروضة في متحف البريد الوطني في سميثونيان (أ.ب.)

علمت شيري بور مؤخراً بوجود صلة عائلية شبه مؤكّدة تربطها بشخصية شريرة مشهورة من مسرحيات برودواي.

فبعد سنوات من التنقيب في الأرشيف خضعت بعدها لفحص الحمض النووي، إكتشفت أستاذة القانون الأميركية التي تتحدر من أصل أفريقي أنّها تنتمي على الأرجح إلى سلالة آرون بور. وإحتلّ بور الأبيض البشرة منصب نائب الرئيس الأميركي الثالث ولكن شهرته تُعزى إلى قتله أحد الآباء المؤسسين للولايات المتحدة الأميركية، ألكساندر هاميلتون، في مبارزة بالمسدسات خلال العام 1804 وهو مشهدٌ خلّدته لين - مانويل ميراندا في مسرحيتها الموسيقية التي لاقت نجاحاً باهراً ومفاجئاً.

خلال يومٍ مشمسٍ من عطلة نهاية الأسبوع الماضي، وبعد مرور 215 عاماً على إقدام جدّها الأكبر على قتل هاميلتون و12 شهراً على اعتراف جمعية آرون بور رسمياً بأنّه أنجب طفلين من امرأة سوداء البشرة عملت خادمةً له، إنضمت إلى حشدٍ قوامه 60 شخصاً اجتمعوا في فيلادلفيا من أجل إزاحة الستار عن شاهدٍ تذكاري لجون بيار بور، وهو واحد من أصل ولدين على الأقلّ أنجبهما نائب الرئيس خارج إطار زواجه.

وتقول بور أستاذة القانون في جامعة نيو مكسيكو وصدر لها كتاب عنوانه حياة معقّدة: سودٌ أحرار في فيرجينيا، 1619-،1865 " كان نهاراً جميلاً".

"حضر كاهنٌ ليبارك الشاهد. وغمرتني السعادة لأنّ جون بيار ناصر العدالة وأيّد حركة سكّة الأنفاق لتهريب العبيد".

وتحيي أميركا هذا العام الذكرى الـ400 لليوم الذي رسا فيه 20 عبداً أفريقياً على شواطىء مدينة جايمستاون في ولاية فيرجينيا شكّلوا الدفعة الأولى من أصل 380 ألف شخصٍ شُحنوا مباشرةً إلى الولايات المتحدة في إطار حملة اختطاف جرت عبر المحيط وطالت أكثر من 12 مليون شخص حسب التقديرات. وتوفّر احتفالية مدافن إيدن في الضواحي الغربية من ولاية فيلادلفيا لمحة مهمة عن صراع البلاد من أجل مواجهة الفصول القاتمة من تاريخها.  

وضمّ الجمع ذريّة بور من العرقين الأبيض والأسود، وأتيح لأحفاده أن يشهدوا بالتالي بأنفسهم على شرّ الرقّ وقساوته ولا إنسانيته، وهو نظام عبودية حقّقت أميركا بفضله استقلالها وبنت قوّتها وحازت مكانة أفسحت المجال أمام توماس جيفيرسون الذي كان هو نفسه مالكاً للرقيق أنجب أطفالاً من سيدة أفريقية اسمها سالي هيمينغز، ليعلن في العام 1776 أنّ "الناس يخلقون سواسية" مع أنهم لم يُعاملوا على هذا الأساس بالطبع.   

وقال ستوارت جونسون، وهو رجل أبيض البشرة يترأس جمعية آرون بور وشارك في احتفال إزاحة الستار عن الشاهد "ليس من الضروري أن يكون الانسان شديد الذكاء وافر العلم كي يعي شرّ نظام الرقّ وسوءه. وتطلّب القضاء عليه اندلاع حربٍ أهليةٍ دمويةٍ ورهيبةٍ".

لكن قلة هم مستعدون لهكذا اعتراف وحساب تاريخي واضح. وحين أعلنت كامالا هاريس السيناتور الأميركية من أصول أفريقية عن ولاية كاليفورنيا التي تسعى للترشح عن الحزب الديمقراطي في الانتخابات الرئاسية المقبلة، بحذرٍ عن دعمها لدراسة مسألة التعويضات لقاء فترة الاستعباد- قالت "عشنا أكثر من 200 سنة من الرق. حكمتنا قوانين جيم كرو لمدة قرنٍ من الزمن تقريباً. وكان التمييز والفصل العنصري قانونيين. وعلينا الاعتراف بأنّ البداية لم تكن على قدم من المساواة بالنسبة للجميع". ولكن هاريس واجهت موجة من ردود الفعل القويّة.

وتبرز هذه النقاشات خلال وقتٍ حافل بالتحديات تعيشه البلاد. وبغضّ النظر عن مستوى عنصرية دونالد ترمب مقارنة ببعض الرؤساء الذين سبقوه، يظلّ أكثر استعداداً منهم لاستخدام لغة عنصرية علناً. وشكّل وقع التصريحات التي أطلقها  القائد الأعلى مقروناً بقوّة وسائل التواصل الاجتماعي الهائلة، عاملاً مشجّعاً للكثيرين ممن يشاركونه هذه الآراء ولكن ربّما لم يعبّروا عنها بصراحة سابقاً.

وتقول كاساندرا نيوبي ألكساندر أستاذة التاريخ في جامعة نورفولك الحكومية التي تبعد 50 ميلاً عن مدينة جايمستاون حيث رست السفينة الحربية الانجليزية وايت لايون بحمولتها من البشر "كنا نسمع في السابق لغةً مبطّنة أصبحت الآن أكثر مباشرة. ويُطبق نظامٍ من خطوات محدّدة هدفه التشجيع على هذا النوع من العنصرية ولكنني أعتقد بأنه لن يؤثر سوى على ثلث الناس. فعدد الناس ذوي البشرة البيضاء غير الراضين عن هذا المستوى من خطاب الكراهية يفوق عدد من يقبلونه".  

وأحد العوامل الرئيسية التي تدفع بأميركا إلى رفض الإعتراف بماضيها- وهي ليست الوحيدة في ذلك بين الدول- هو أنّه "ماضٍ صعب" وفق تعبير الكاتبة رايتشل سوارنز.  فبعد مئتي عامٍ من انتهاج نظام عبودية تبعَها اندلاعُ حربٍ أهليةٍ ألهمَت بشكل من الأشكال عنصريين مشوّهين نفسياً مثل قاتل كنيسة تشارلستون ديلان روف، جاء الفشل المتعمَّد لحركة الإصلاح خلال حقبة إعادة الإعمار ثم حلّ نظام جيم كرو حين أعيد السود إلى موقع المواطنين من الدرجة الثانية وتعرّضوا للإعدام من دون محاكمة وللقتل والحرمان من حق العيش في مناطق معيّنة وحتى التصويت.

وما زالت المحاولات قائمةً بقوّة حتّى اليوم من أجل حرمان الأقليات من حق التصويت في ولايات كجورجيا في حين يميّز النظام الجنائي تماماً ضدّ غير البيض. ومنذ ثلاث سنوات، حين أعلنت مبادرة المساواة في العدالة التي مقرّها في ولاية ألاباما عن خطتها بإنشاء متحفٍ لتخليد ذكرى ضحايا الإعدامات من دون محاكمة، قدّرت المبادرة عدد وفيات الأميركيين من أصل أفريقي بهذه الطريقة بأربعة آلاف شخص، قتلوا في أغلب الأحيان أمام حشود كبيرة، بين العامين 1877 و1950.

وتقول سوارنز التي تضمّ مؤلفاتها كتاب خيوط البساط الأميركي: قصة أسلاف ميشيل أوباما السود والبيض ومتعدّدي الأعراق "هذا تاريخ صعبٌ، وهو يصعب على الأميركيين بوجه الخصوص لأنه يخالف الرواية التي نرويها لأنفسنا وهي كما تعلمون قصة الحرية والعدالة للجميع".

"أعتقد أنه من الأسهل بكثير اعتبار الاستعباد موضوعاً منفصلاً عنّا بالكامل، أي أنه حصل منذ وقت بعيد مثل روايات كتب التاريخ المملّة ولا صلة تربطنا به اليوم أبداً. غالباً ما يُعرف عنّا تجنّبنا النظر خلفنا".

وتضيف "إنّ تفهّم الدور الكبير الذي لعبه نظام الاستعباد في بلدٍ يعطي الدروس عن هذه المبادئ لأمرٌ شاقٌ للغاية على المستوى العام. أما على المستوى الشخصي، فأعتقد أنه يصعب على الناس ببساطة".

ومن الأمور التي كشفتها سوارنز أنّ مؤسسي جامعة جورجتاون في واشنطن العاصمة التي أنشأها الآباء اليسوعيون، امتلكوا بدورهم عبيداً. ودفع تقريرها الصادر في العام 2017 عدداً من جامعات الولايات المتحدة إلى التفكير بمساهمة نظام العبودية في إثرائها، وحذت حذوها العديد من الجامعات البريطانية ومنها جامعات أكسفورد وغلاسكو وبريستول وشرق لندن.

وفي وقت سابق من هذا العام، صوّت طلّاب جامعة جورجتاون لصالح دفع المزيد من الرسوم الدراسية بهدف المساهمة في إنشاء صندوق تستفيد منه ذرّية 272 عبداً باعتهم المؤسسة في العام 1838 من أجل إيفاء ديونها.

وتقول سوارنز الكاتبة المساهمة في صحيفة نيويورك تايمز، وأستاذة مساعدة في مادة الصحافة في جامعة نيويورك، إنّ هذه المبادرات تعطيها أملاً مثلما تحبطها في المقابل الحوادث المماثلة لمسيرة النازيين الجدد في مدينة تشارلوتسفيل خلال العام 2017.  وتلفت إلى أنّ هذا الانفصام وتأرجح التقدم في حل إرث الرق بين مدٍ وجزر، يشكّل أيضاً جزءاً من تاريخ الولايات المتحدة.

وتضيف "الحقيقة أنّنا مجبولون بكل هذه الأمور. وهذه هويتنا. وكل ما نتكلم عنه، أي الأمور الجميلة المشجّعة وتلك المخيفة أيضاً، تحدث لنا في الواقع. لكن عليّ أن أتفاءل وأعتقد أنّ الحديث يكبر عن الموضوع. فقد ناقش مجلس النواب مثلاً مسألة دراسة التعويضات عن حقبة الاستعباد كما تحدّث عنها مرشحون للرئاسة. لكن في الوقت ذاته، لدينا ذاك الرجل في إل باسو (المتّهم باغتيال أكثر من 20 شخصاً بعد مزاعم إطلاقه النار داخل متجر وال مارت الشهر الماضي) وذاك الرجل في بيتسبورغ (المتهم بإطلاق النار داخل كنيس "شجرة الحياة" في أكتوبر (تشرين الأول) 2018 وأردى 11 شخصاً). ونحن اليوم على هذا الوجه من التعقيد".

وكتبت كارول آندرسون استاذة الدراسات الأفريقية الأميركية في جامعة إيموري في ولاية أتلانتا عن ردّ الفعل في أوساط بعض الأميركيين من العرق الأبيض في أعقاب انتخاب باراك أوباما، الرئيس الأميركي الأول والأوحد من أصل أفريقي. فظهور ناشطي حزب الشاي من جديد وإعاقة عمل الكونجرس جزء من نمط يعود إلى زمن الحرب الأهلية وإقرار التعديل الثالث عشر للدستور الذي أنهى العبودية رسمياً.

وتقول في كتابها سخط البيض: الحقيقة غير المعلنة عن الفجوة العنصرية، إنه في كلّ مرّةٍ يحرز الأميركيون من أصل أفريقي تقدّماً، تأتي ردة فعل البيض لتتسبب بتراجع متعمّد. مثلاً، بعد انتهاء الحرب الأهلية وبداية إعادة الإعمار، حلّت حقبة نظام جيم كرو، وفي أعقاب إصدار المحكمة العليا قرارها في قضية براون ضدّ مجلس التعليم أغلقت المدارس في الجنوب، أمّا المعارضة الدامية لقانون حق التصويت من العام 1965 فأدت إلى استحداث ردة فعل جديدة مبطّنة بواسطة ما يسمى الاستراتيجية الجنوبية و"الحرب على المخدرات" التي انتزعت حق التصويت من ملايين السود فيما ساعدت ريتشارد نيكسون ورونالد ريغان على دخول البيت الأبيض.  

تشرح آندرسن للاندبندنت أنّ الولايات المتحدة منقسمة حالياً بين الولايات التي تريد توسيع قاعدة الناخبين وجعلهم أكثر تنوعاً وتلك التي تحاول حصر القدرة على الاقتراع من أجل تقليص عدد الناخبين من الأقليات.

وتقول آندرسن "المشكلة الكبرى (في عدم اعتراف أميركا بماضيها) هي أنّ العديد من الناس لا يعتقدون بأنّهم اقترفوا أيّ ذنب. ويختار بعض الأشخاص ألّا يعرفوا بما جرى. وعندما تحتاج للحفاظ على صورة "تلك المدينة الفاضلة البراقة في الأعالي"، تبدو سنوات بيع العبيد وتنشئتهم ووسمهم كالسّلع غير متناسبة مع هذه الرواية".

يؤمن بعض الأميركيين بضرورة عدم إحياء ذكرى أحداث العام 1619 على الإطلاق. عندما أعلنت مجلة نيويورك تايمز عن نيّتها تخصيص عدد كامل لذكرى وصول أول الأفارقة المستعبدين والتاريخ الذي تلى قدومهم، تصاعد صوت يتّهم الصحيفة بتذكية التوتر العنصري.

وغرّد نيوت غينغريش، رئيس مجلس النواب الجمهوري السابق والحليف القريب من ترمب، قائلاً "يجب أن يتبنى مشروع 1619 الذي تطبّقه نيويورك تايمز شعار "كل الدعاية التي نسعى لغسل أدمغتكم بها".

لكن بور، الكاتبة والأكاديمية من ولاية نيو مكسيكو التي اكتشفت صلتها بنائب الرئيس الأميركي الثالث فتقول العكس. وحسب تعبيرها، لا يسع الأميركيين الحديث بما فيه الكفاية عما حدث آنذاك وعما يحدث الآن.

وتضيف "لا يتكلم الناس عن العبودية لأنهم لا يريدون نبش الماضي. ولا يريدون تحمّل المسؤولية".

"يجب اماطة اللثام عن تفاصيل كل الأحداث التي مرّ بها أولئك الأفارقة الأصليون وما حصل بعدها أيضاً وتحليله. يبقى عدد الأشخاص الذين سيُطلعون على رواية الذكرى الـ400 غير كاف مهما كان وتظل كمية الخطابات عن المناسبة، أقل من المطلوب، مهما كانت".

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات