"عندما توقفت الطائرة، امتلأت المقصورة الخلفية فجأة بدخان أسود كثيف أثار الذعر بين الركاب في ذلك الركن، مع ما ترتب على ذلك من حركة سريعة للركاب إلى الأمام باتجاه آخر الممر.
"تعثر العديد من الركاب وانهاروا في الممر، ما أجبر الآخرين على القفز فوق مساند المقاعد باتجاه ركن المقصورة المركزية، التي كانت آمنة حتى وقت فتح المخرج الواقع عند الجناح الأيمن.
"نظر راكب من الصف الأمامي إلى المقاعد الواقعة إلى الوراء بينما كان ينتظر الخروج من الطائرة، وتنبه إلى مجموعة من الناس تشابكوا معاً وكانوا يعانون في القسم الأوسط، وبدوا غير قادرين على المضي قدماً. وقال إن 'الناس كانوا يصيحون ويصرخون'".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
هذه الرواية المروعة لمأساة تتكشف مأخوذة من التقرير الرسمي الذي تناول آخر حادث مميت تعرضت إليه "الخطوط الجوية البريطانية".
في 22 أغسطس (آب) 1985، سرعت طائرة من طراز "بوينغ 737" تخص شركة "الرحلات الجوية البريطانية" التابعة لـ"الخطوط الجوية البريطانية" ومتجهة إلى كورفو، سيرها على طول المدرج في مطار مانشستر. وأدى عطل في المحرك إلى نشوب حريق. قطع الطياران الإقلاع وأوقفا الطائرة وأمرا بإخلاء طارئ.
في الفوضى التي تلت ذلك، تمكن 83 فقط من الركاب والطاقم من الخروج أحياء. وتُوفِّي أحد الناجين الأوائل بعد ستة أيام، ما رفع عدد القتلى إلى 55 – معظمهم قتلهم مزيج من الغازات السامة.
يضيف التقرير الخاص بالحادث: "وصف العديد من الناجين من الصفوف الأمامية الستة من المقاعد عموداً من الدخان الأسود الكثيف يصل إلى السقف ويتحرك بسرعة إلى الأمام على طول المقصورة.
"عندما وصل عمود الدخان إلى الحواجز الأمامية الفاصلة بين المقصورة والمقصورة التالية، تجمع إلى أسفل، وبدأ في التحرك إلى الخلف، وانخفض وملأ المقصورة. وغرق بعض هؤلاء الركاب في الدخان على رغم قربهم من المخارج الأمامية.
"وصف الجميع تنفساً واحداً تنفسوه بأنه حارق ومؤلم، ما تسبب على الفور بالاختناق. ووضع البعض الملابس أو الأيدي على أفواههم في محاولة لحجب الدخان. وحاول آخرون حبس أنفاسهم. عانوا من فقدان الوعي والارتباك، وأُجبِروا على تلمس طريقهم على طول صفوف المقاعد نحو المخارج، بينما كانوا يتدافعون ويشقون طريقهم".
بعد ما يقرب من 40 سنة، في الثاني من يناير (كانون الثاني) 2024، سُمِح لطائرة تابعة لـ"الخطوط الجوية اليابانية" من طراز "إيرباص أي 350" بالهبوط على المدرج "34 آر" في مطار هانيدا الرئيسي بطوكيو. وطُلِب من طائرة صغيرة من طراز "داش-8" تابعة لخفر السواحل الياباني أن تنتظر بعيداً من المدرج – لكننا نعلم الآن من إصدار رسائل مراقبة الحركة الجوية – أنها ضلت طريقها ووصلت إلى المدرج.
"يبدو أن طيار الـ'داش 8' ركن من دون إذن"، وفق رولاند بورلي، وهو طيار سابق لطائرة من طراز "بوينغ 747" تابعة لـ"كاثي باسيفيك" قاد طائرته إلى هانيدا عدة مرات.
"فهمتُ أنه كان يقود طائرته على الأرض لمدة ساعة بالفعل، لذلك ربما كان يتوق إلى المغادرة – كان 'ميالاً إلى الطيران' بشدة. من الغريب أنه لم ينظر إلى الأعلى ويرى طائرة الـ'أي 350' الكبيرة هذه آتية وعلى وشك الهبوط فوقه.
"إنه لأمر محزن للغاية أن طياري الـ'أي 350' لم يريا في الليل هذا الرجل أمامهم.
"أستطيع أن أتفهم ذلك نظراً إلى وجود كثير من الأضواء حولهما؛ هي أضواء ساطعة للغاية، وثمة مدينة قريبة جداً وكذلك يوكوهاما [مدينة ساحلية كبرى] وما إلى ذلك، وبالتالي، سيكون ثمة الكثير من الالتباس بوجود الأضواء الأخرى حولهما".
اصطدمت طائرة الـ"أي 350" التابعة لـ"الخطوط الجوية اليابانية" بطائرة الـ"داش-8"، واشتعلت النيران في كلتا الطائرتين. نجا قبطان طائرة خفر السواحل، لكن زملاءه الخمسة قُتِلوا.
وتابعت طائرة الركاب سيرها براً لمسافة كيلومتر واحد على طول المدرج، وهي تشتعل. وكان على متن الطائرة 367 راكباً، من بينهم ثمانية أطفال دون سن الثانية، و12 من أفراد الطاقم. تعطل نظام مخاطبة الجمهور، ما اضطر طاقم الطائرة إلى الصراخ واستخدام مكبرات الصوت لطلب الإخلاء. لم يمكن استخدام سوى ثلاثة فقط من مزالق الطوارئ الثمانية بسبب الحريق الذي اجتاح كثيراً من الطائرة.
تحمل الظروف المحيطة بالحادث حتى الآن تشابهاً قوياً مع مأساة "الرحلات الجوية البريطانية" في مانشستر، لكن مع ما يقرب من ثلاثة أضعاف عدد الأشخاص المعرضين إلى خطر.
ومع ذلك، خرج الأشخاص البالغ عددهم 379 شخصاً جميعاً من الطائرة. على صعيد الإصابة الجسدية، لم يكن هناك شيء أسوأ من الكدمات؛ لا يمكن سوى تخيل الخسائر العاطفية الناجمة عن الدخول في تجربة الاقتراب من الموت.
ساعدت كارثة مانشستر في إنقاذ حياتهم. تتنافس شركات الطيران بشراسة – باستثناء ما يتعلق بالجانب الأكثر أهمية على الإطلاق: السلامة. تعتمد صناعة الطيران على التحقيق المفتوح والتعاوني. لا تكمن الضرورة في توزيع اللوم لكن في حماية الركاب في المستقبل من خلال التعلم من المأساة.
غيّر مقتل 55 شخصاً في ظروف فوضوية في مانشستر كثيراً من الأمور. الإضاءة الأرضية لتوجيه الركاب إلى المخرج باتت إلزامية. وعند تلك المخارج، يُوفَّر الحد الأدنى من المساحة والمقابض لطاقم الطائرة حتى يتمكنوا من مساعدة الركاب على النجاة.
في مانشستر، أدى طاقم الطائرة – بمن في ذلك مضيفتان شابتان قُتِلتا أثناء سعيهما إلى إنقاذ الأرواح – واجباته بطريقة مثالية. لكن تطوراً أصابه في مقتل: على متن طائرة مشتعلة، مليئة بالأبخرة القاتلة، أصبح الركاب محشورين معاً عند المخارج ولم يتمكن الطاقم من إخراج الناس فعلياً في الوقت المناسب.
وفي حين كان يمكن إجلاء الـ"بوينغ 737" في غضون 90 ثانية، لم تشبه الأحداث في مانشستر معايير الاختبارات.
لم يفهم الركاب العالقون في المخرجين الواقعين فوق الجناحين كيفية فتح فتحة الطوارئ، ولا ماذا يفعلون باللوح المعدني الثقيل عندما فُتِحت الفتحة الأخيرة. اليوم، سيتلقى كل من يستمتع بالمساحة الإضافية للأرجل التي زِيدَت في الطائرة محاضرة حول كيفية التعامل مع الجهاز – ويُسألُون عما إذا كانوا مستعدين لمساعدة الآخرين.
إن احتمالات تعامل أحد أفراد الطواقم النموذجيين مع إخلاء في حالات الطوارئ خلال حياته المهنية منخفضة للغاية. عمل كريس هاموند كطيار لمدة 43 سنة، أولاً لدى "شركة الخطوط الجوية البريطانية لما وراء البحار" التي تُعَد سلف "الخطوط الجوية البريطانية" وبعد ذلك كقبطان لدى "إيزي جت".
وهو يتحدث الآن باسم "جمعية طياري الخطوط الجوية البريطانية".
يقول القبطان هاموند: "ربما مررتُ بثلاثة أو أربعة حوادث كان من الممكن أن تتحول إلى إخلاءات إذا حدث خطأ. ولم يحصل.
"لم أضطر قط إلى الضغط على الزر الداعي إلى الإخلاء.
"هناك زر، نعم – هو موجود في وحدة التحكم العلوية. يبدأ زر الإخلاء في تشغيل أنواع صفارات الإنذار كلها وما إلى ذلك ويشير إلى طاقم الطائرة إلى أنهم يستطيعون وضع تدريباتهم موضع التطبيق.
"كنا سنعلن من متن الطائرة، إذا استطعنا، قائلين: 'معكم القبطان. هذه حالة طارئة. إخلاء، إخلاء'.
"ويمكن لطاقم الطائرة بدء عملية الإخلاء بأنفسهم. وإذا لم يسمعوا أوامر من الطرف الأمامي، قد يكون ذلك بسبب تعطل الطرف الأمامي، لذلك يقع من ضمن اختصاصهم إطلاق عملية إخلاء بأنفسهم".
ينصب تركيز طاقم الطائرة على مساعدة الركاب على النجاة من الحوادث التي يمكن النجاة منها.
الشخص اللطيف الذي سكب لكم مشروباً ومازحكم؟ يتحول فوراً إلى ضابط المدفعية هارتمان بطل فيلم "الرصاصة المصفحة".
هكذا يقول قبطان طائرة قديم حكيم يُعرَف باسم "كاي سي-10 درايفر" (الترجمة: طيار للنسخة العسكرية من طائرة "ماكدونيل دوغلاس دي سي-10"). نشر سلسلة منشورات على "إكس"، المعروف باسم "تويتر" سابقاً، تلخص عملية إخلاء طارئة. ويقول إن طاقم الطائرة مدرب على الصراخ بالركاب لإنقاذ الأرواح.
"على المرء أن يطيع. لا مجال للتساؤل: 'ماذا لو لم أفعل؟'. عليه أن يتحرك بسرعة، يستخدمون وسائل نفسية لجعله يتحرك. إذا توقف عند مزلق، لن يجروا محادثة معه. عليه أن ينزلق على المزلق وبسرعة. سيجلون الجميع في غضون 90 ثانية.
"قد ينتهي به الأمر مصاباً في أسفل المزلق، لكن هذا أفضل من الاحتراق".
لم يحترق الركاب وأفراد الطاقم البالغ عددهم 379 شخصاً، لكن طائرتهم التي تبلغ تكلفتها 100 مليون جنيه استرليني (127 مليون دولار) احترقت. يقول "كاي سي-10 درايفر": "نحب طائراتنا، لكنها موجودة لتنقلنا إلى وجهة.
"هي مصممة للتضحية بنفسها لحمايتكم إذا دعت الحاجة والسماح لكم بالنجاة بسرعة".
في صباح اليوم التالي للهبوط الكابوسي، لم يتبق شيء تقريباً من جسم الـ"إيرباص أي 350" الذي جرت التضحية به. جسم الطائرة مصنوع من مركب يستند إلى الكربون – يُستخدَم للحصول على القوة العالية والوزن المنخفض والمتانة. وللحصول على السلامة الإضافية، كما اتضح.
تفيد إدارة الطيران الفيدرالية الأميركية بما يلي: "سيذوب الألومنيوم عند 660 درجة مئوية في الحرائق الكبيرة. عادة، بالنسبة إلى المواد المركبة، تكون درجة حرارة التحلل التي تسبب الاحتراق 300-500 درجة مئوية، لكنها ستحافظ على السلامة الهيكلية أثناء الاحتراق".
ويبحث محققون الآن في البقايا بغرض العثور على "الصندوق الأسود" – مسجل صوت قمرة القيادة، الذي سيكشف كيف استجاب الطيارون. ربما بعد سنة من الآن، سيروي التقرير النهائي للحادث القصة الكاملة والمرعبة. وسيقرأها عن كثب مسؤولو السلامة في شركات الطيران في العالم.
يقول ناطق باسم "فيرجن أتلانتيك": "ستكون سلامة عملائنا وطاقمنا وأمنهم دائماً أولويتنا الأولى، ونراجع باستمرار إجراءاتنا بما يتماشى مع أفضل الممارسات والأحداث التي تحدث عالمياً في قطاعنا.
"وبمجرد إصدار مجلس سلامة النقل الياباني التقرير النهائي، سنراجع أي دروس، وإذا أمكن، سنطبق أي شيء تعلمناه".
لكن قبل ذلك، يجب أن يبدأ سلوك الركاب في التغيير، كما يقول كريس هاموند من "جمعية طياري الخطوط الجوية البريطانية". ويضيف أن الطيارين "سيؤكدون على ضرورة التدقيق في الملخص المتعلق بإجراءات السلامة" – ربما بأن يقولوا: "هذه الأشياء يمكن أن تحدث. إذا كنتم لا تصدقونني، تذكروا الرحلة اليابانية".
ومع ذلك، لم يكن بقاء جميع الركاب على قيد الحياة على متن الطائرة معجزة. بل كان إثباتاً على التدريب الصارم وثقافة أمان لا مثيل لها في أي صناعة أخرى. تتمتع الخطوط الجوية البريطانية بسجل سلامة متميز منذ كارثة مانشستر، ولم يتعرض منافسوها - فيرجن أتلانتيك وإيزي جيت وجيت 2 ورايان إير - لحوادث مميتة.
من المأساة تولد السلامة.
© The Independent