ملخص
هل كان اعتراض تاتشر على تحول المجموعة الأوروبية إلى تجمع سياسي موقفاً حكيماً؟
إن رحيل جاك ديلور هذا الأسبوع وقبل 18 شهراً من احتفاله بعيد ميلاده الـ 100، هو سبب يدفعنا إلى التفكير في أمور كثيرة، فموته ربما يشكل الرحيل لآخر من يمكن وصفهم بالجيل الأوروبي، أولئك الذين طبعت فترة شبابهم الحرب العالمية الثانية، وكانوا حملوا بعد ذلك لواء جان مونيه، وروبرت شومان في إصرارهم على العمل لتجنب وقوع حرب مماثلة من جديد.
ما كان قد بدأ عام 1950 كالمجموعة الأوروبية للفحم والصلب European Iron and Steel Community، تحول إلى السوق المشتركة Common Market ثم إلى المجموعة الاقتصادية الأوروبية European Economic Community فالمجموعة الأوروبية European Community ثم في النهاية الاتحاد الأوروبي، كما هو عليه اليوم.
وكرئيس للمفوضية الأوروبية خلال فترة حاسمة دامت عقداً من الزمن انطلاقاً من عام 1985، كان خلالها ديلور اللاعب الرئيس الذي قاد حركة التغيير التي صقلت غالبية من الدول الأوروبية في سوق تجارية موحدة، وأسس ذلك لدخول أوروبا إلى المسرح العالمي [ككتلة سياسية اقتصادية واجتماعية].
يروق لبعضهم أن يذكروا في بعض الأحيان أن ديلور كان أوروبياً أكثر من كونه فرنسياً، وهو بذلك كان شخصية استطاعت بمفردها أن تجسد ما كان سيتطور ليصبح الفكرة الأوروبية، وكان أحد الأدلة التي لطالما دعمت هذا الاعتقاد قراره بعدم الترشح للرئاسة الفرنسية بعد خروجه من رئاسة المفوضية الأوروبية عام 1995 على رغم مطالبات تحثه واستطلاعات رأي تؤيده، فهو فضل مواصلة حمل لواء الترويج لمصلحة [المشروع] الأوروبي.
إن ذلك الاجتهاد حقيقي ولكن إلى حد ما فقط، وكان ديلور قد ترأس المفوضية الأوروبية خلال فترة شهدت أكبر التحولات الجيوسياسية في القارة الأوروبية منذ الحرب العالمية الثانية، أي فترة تراجع وسقوط الشيوعية ثم انهيار الاتحاد السوفياتي وانتهاء الحرب الباردة.
ديلور لم ينجح في التأثير بصورة التركيبة المستقبلية للمؤسسات الأوروبية وحسب، بل ولا محالة وبفضله فلقد أخذت تلك المؤسسات شيئاً من الطابع الفرنسي إلى حد كبير.
وخلال تلك الأعوام التكوينية الأساس كان الاتحاد الأوروبي وبكثير من الأشكال مشروعاً يلائم فرنسا، وهي طوعته لخدمة مصالحها.
ولم تكن هناك حاجة إلى أن يكون ديلور أوروبياً قبل كونه فرنسياً، إذ لم يكن هناك أي اختلاف كبير بين الشخصيتين إذا أخذنا في الاعتبار المقاصد والمصالح كافة، وبالنسبة إلى بريطانيا فإن ذلك كان مسألة أخرى، فهي دولة انضمت متأخرة إلى المشروع الأوروبي الذي كان في طور متقدم من التحقق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لكن وإلى درجة كبيرة، أقله بالنسبة إليّ، إن موت ديلور والذكريات التي قد أججتها على جانبي القنال الإنجليزي تمنحنا الفرصة لإعادة تقييم ما كان يمكن حدوثه.
لا بد من أنه كانت لقوى التاريخ الخبيثة دوراً لنجاحها في ترقية شخصية جدية للغاية، ومجتهدة جداً، وأنا لا أبالغ لو قلت شخصية فرنسية جداً، كمدير لأرفع وظيفة في أوروبا، في وقت كانت رئيسة الحكومة البريطانية مارغريت تاتشر في أوج قوتها.
وبصورة مماثلة كانت [تاتشر] شخصية طموحة للغاية، وفي كثير من الأشكال إنجليزية كثيراً ومن خلفية عائلية متواضعة (فوالدها كان تاجراً صغيراً أما والد ديلور فكان ساعي بريد في البنك المركزي الفرنسي)، وكانت لدى تاتشر آراؤها حول ما يجب أن يكون عليه مستقبل أوروبا وأكثر من ذلك ما لا يجب أن يكون عليه ذلك المستقبل.
وحتى لا ننسى كان هناك حث مستمر من جانب جناح حزبها من المشككين بأوروبا، وهكذا ظهر وحشان سياسيان يؤمنان بتصورات وأفكار مختلفة لما يجب أن تكون عليه أوروبا.
وكان من الصعب أيضاً تخيل مدى الاختلاف الذي كان ليكون عليه مستقبل أوروبا لو أن شخصية أخرى كانت لتجلس في مقعد تاتشر أو ديلور.
كيف كان رئيس الوزراء البريطاني السابق هارولد ويلسون ليتفق مع ديلور أو مع توني بلير؟ وكيف كانت مارغريت تاتشر لتتعامل، ولنقل مثلاً، مع جاك سانتير (من لوكسمبورغ) كرئيس للمفوضية الأوروبية، أو حتى مع البرتغالي خوسيه مانويل باروسو؟ وهل يمكن اختصار الأمر بانتماء أحدهما إلى اليسار والأخرى إلى اليمين لتختلف نظرتهما للمشروع الأوروبي، أم أن السبب يعود بصورة أكبر لطابعهما؟
أم أن اختلافهما كان يعكس التجارب المختلفة تماماً لكل من بريطانيا من جهة وفرنسا ومعظم دول البر الأوروبي من الجهة الأخرى خلال الحرب؟
يمكننا أن نجادل أن هذا الاختلاف بحد ذاته أكثر من أي شيء آخر، خروج بريطانيا من الحرب كدولة منتصرة واهنة من دون أن تكون قد تعرضت لتجربة احتلال العدو لأراضيها أو تغييرات في الحدود الوطنية، هو ما قد ترك المملكة المتحدة بعيدة من الاتحاد الأوروبي، وفي النهاية ربما أدى ذلك إلى "بريكست".
وربما كانت كل تلك الاعتبارات لتدفع أي رئيس للوزراء في بريطانيا، وليس مارغريت تاتشر وحدها، إلى تفادي التوقيع على أي ما من شأنه أن يشكل اتحاداً أكثر تقارباً؟ أم أن السبب يعود لميل المملكة المتحدة لتصديق الأسطورة الوطنية بأن لديها حق مكتسب في القيادة مع بقاء سيادتها الوطنية مركزية في تعاملاتها، وهو ما من شأنه أن يعقد تحقيق أي أحلام مشتركة إضافية، وربما لم يكن الأمر مجرد مواجهة بين تاتشر وديلور، ولكن ربما كان الأمر كذلك.
إن الميزات الشخصية تلعب دوراً أكبر بكثير مما نعترف به عادة في العلاقات الدولية وخصوصاً بين الدول الجارة. تاتشر وديلور كانا ربما أسوأ ثنائي ممكن خلال تلك المرحلة بالذات من التاريخ الأوروبي، لكن هل يمكن أن يكون السبب أنه وعلى مدى أعوام التاريخ الطويلة التي شهدناها لم تكن اعتراضات تاتشر على مسألة تطور الاتحاد الأوروبي من مجرد تجمع للتجارة الحرة في الأساس إلى فدرالية اقتصادية وسياسية، في غير محلها في المحصلة النهائية.
إن التوسعة تماماً كما تنبأت تاتشر وتوقعت قد زرعت بذور الانقسامات، بدلاً من هدفها ترسيخ مزيد من الوحدة الاقتصادية والسياسية، وحالياً تلك الانقسامات غير ظاهرة إلى درجة كبيرة بسبب وحدة الصف التي تلت الاجتياح الروسي لأوكرانيا، لكن رأيها يصبح أصعب وأصعب.
تلك الانقسامات ربما سببها أن دوافع كثير من دول شرق ووسط أوروبا تختلف عن دوافع وأهداف من انضموا في الأساس إلى الاتحاد.
إن السوق المشتركة كانت في الأساس مشروع سلام والذي من أجله كان أعضاء تلك السوق مستعدين للتخلي عن نسبة (ضئيلة) من سيادتهم الوطنية. وبالنسبة إلى الآخرين وخصوصاً تلك الدول إلى الشرق من القارة، وخصوصاً أيضاً منذ بداية الحرب الروسية -الأوكرانية، فإن الاتحاد الأوروبي يشكل بالنسبة إليهم مشروعاً للازدهار والأمن تماماً كما هو الآن وبصورة واضحة بالنسبة إلى أوكرانيا.
وهناك تعارض أساس بين تلك الدوافع والتي تكشف عن نفسها من وقت لآخر في الخلافات التي تنشأ، وتحديداً مثلاً بين بروكسل وبودابست، وذلك قد يشكل السبب أيضاً وبصورة جزئية، لماذا قد تكون المخططات لانضمام أوكرانيا إلى الاتحاد الأوروبي أكثر صعوبة في التحقيق، مقارنة بالظاهر في الوعود المقطوعة اليوم.
قد تتحول أوكرانيا أيضاً إلى القشة التي قد تقصم ظهر البعير، وفي الأقل، من شأن انضمامها أن يمتحن الوحدة الأوروبية الهشة ويدفع قدرة التحمل فيها نحو حدودها القصوى.
هل تكون هذه هي النقطة التي يصل فيها مشروع ديلور لتحقيق اتحاد أكثر تماسكاً، ومن ضمنه الوحدة النقدية إلى نهايته؟
شخصياً أنا لا أتمنى ذلك، ولكنني قد أتمنى أيضاً في أن يعود الاتحاد الأوروبي للاعتراف، وكما هو حاله اليوم بأنه مشروع سلام، وأنه كان مشروعاً ناجحاً بصورة كبيرة وفق هذه الأسس.
إن الجيل الذي أنتمي إليه من البريطانيين قد ترعرع بوجود برامج للتبادل المدرسي وتعلم اللغات، وكان الألمان النازيون أعداء تحولوا إلى مادة ساخرة مقارنة بالألمان الحقيقيين الذين أصبحوا زملاء أوروبيين في الانتماء وأصدقاء. إن الفرنسيين والألمان والذين كانت عداوتهم قد كلفت هذا الكم من سيلان الدماء في أوروبا ولفترة طويلة، وقد باتوا يعيشون جنباً إلى جنب وبسلام منذ عام 1945، وأنا أستخدم هذه العبارة عمداً، وهي عبارة مألوفة أكثر من سلسلة عمليات السلام البائدة الآن في الشرق الأوسط.
إن عملية السلام في إيرلندا الشمالية التي تعرف بـ "اتفاق الجمعة العظيمة" قد نجحت في إرساء السلام، ولكنها فشلت في تحقيق الصلح في إقليم إيرلندا الشمالية.
ومن خلال اجتياحها لأوكرانيا لم تساعد روسيا الأوكرانيين فقط في زيادة الشعور الأوكراني بانتمائهم الوطني وحسب، بل خلقت عدواً مخيفاً لها ولأجيال مقبلة.
لقد أصبح الآن من الواضح إلى حد كارثي مدى بعد إسرائيل والفلسطينيين عن السلام، ناهيك عن المصالحة.
وأياً كان مستقبل الاتحاد الأوروبي فلا ينبغي لنا أن ننسى أصوله كمشروع سلام وناجح للغاية، وكان هذا هو الإنجاز الذي سعى ديلور إلى ترسيخه أولاً ثم تكريسه في المؤسسات المشتركة، وقد نجح في الأولى والثاني لا يزال قيد العمل.
© The Independent