ملخص
يجري دفن ضحايا القصف الإسرائيلي على شمال غزة في الشوارع والمدارس والملاعب وحتى صالات الأفراح وتحت الأنقاض... إليكم تفاصيل أكثر
على بعد عدة أمتار من منزل وليد في مدينة غزة، أخذ يحفر بواسطة جاروف صغير في التراب، وبعد ساعة تمكن من صنع حفرة عرضها 60 سنتيمتراً، وطولها 1.7 متر، وسحب بتثاقل جثمان أخيه وأنزله في قبر لمواراته الثرى بطريقة عشوائية.
لم يتمكن وليد من الوصول إلى المقابر الرئيسة في الشق الشمالي من قطاع غزة بسبب كثافة الغارات الإسرائيلية وتوغل القوات البرية وانتشار القناصة على أسطح المنازل، واضطر إلى دفن أخيه بطريقة عشوائية في أول مكان خطر على باله.
من دون إكليل ورد
بسرعة انحنى وليد لطمر القبر على أخيه، وكانت دموعه تتساقط على التراب، إذ لم تتح له الفرصة لنقله إلى بيته حتى تودعه أسرته الصغيرة، وكذلك لم يتمكن من تكفينه أو الصلاة عليه، ولم يشيع في جنازة، وإنما حمله بنفسه، ووحده، نحو زاوية في الشارع.
في مشهد مؤلم، دفن وليد شقيقه وغادر دون أن يضع شاهداً على القبر، ولم يترك حتى إكليل ورد فوق الضريح، بألم وغصة في قلبه يقول "كانت وصية أخي أن أقيم له عزاءً كبيراً، لكن احتضنته التربة وحده من دون أية مراسم، حيث لا سبيل إلا لذلك".
في الواقع، بات دفن جثامين الضحايا في أي مكان، حال سكان مدينة غزة والشمال، الذين رفضوا النزوح انصياعاً لأوامر الجيش الإسرائيلي، وآيسوا على أنفسهم ومكثوا في بيوتهم على رغم تحول الجزء الشمالي من القطاع إلى ساحة حرب لا ترحم.
قبور عشوائية
واستمعت "اندبندنت عربية" إلى شهادات من أفراد ما زالوا في الشق الشمالي من القطاع اضطروا إلى دفن جثامين الضحايا بطريقة عشوائية في الشوارع والمدارس والملاعب وصالات الأفراح والأسواق، وبعضهم دفن ذويه في ساحة منزله ومحله التجاري، وآخرون أجبرتهم الظروف لمواراة أشخاص لا يعرفونهم الثرى قرب أي منزل لا يعرفون أصحابه، وإلى جانب ركام مبانٍ مدمرة.
فقدت إسراء زينو جميع أفراد عائلتها الأربعة، ونجت وحدها من القصف، وكان لزاماً عليها دفن ذويها، وقامت بذلك بمساعدة أحد الجيران، تقول "تأخذنا الحيرة عندما يسقط قتيل بسبب النيران الإسرائيلية، ونفكر كثيراً كيف سنجهز الجثة لدفنها، لا نجد أي كفن أو قطعة قماش نغطي بها جثماناً، وعندما ننتقل إلى مرحلة الدفن، فإننا نكون في موقف صعب للغاية، أين سنحفر قبراً". وتضيف "في ساحة ملعب معشب حفرت قبراً واحداً ودفنت فيه أحبابي الأربعة"، صمتت الفتاة لبرهة من الزمن فقد تذكرت الحادثة التي مضى عليها أسبوع، ثم واصلت "سحبت أخي بنفسي لمواراته الثرى، يا حرام، لم يجد أحداً يدفنه".
بعد أن تمالكت إسراء نفسها أوضحت أنها كانت ترغب في إقامة جنازة كبيرة لعائلتها، لكنها أكدت أنها لا تملك سوى أن ترضى بقضاء الله، وستعمل على فتح بيتاً لاستقبال التعازي بعد الحرب أو في أية هدنة إنسانية يكتب لها النجاح.
بحسب الجهاز المركزي للإحصاء الفلسطيني (مؤسسة حكومية)، فإنه ما زال يعيش قرابة 800 ألف نسمة في الجزء الشمالي من غزة، وهم عبارة عن 152 ألف أسرة، فيما نزح ما مجمله مليون فرد فقط إلى محافظات وسط وجنوب القطاع.
قرب بيت مدمر
ومن بين الأشخاص الذين ما زالوا في الشمال، وأدلوا بشهاداتهم حول دفن الجثث، كان سلامة سمور الذي اضطر لدفن ابنه بجوار منزل مدمر، يقول "طلبت مني الحديث بصدق وحقيقة، سأقول لكم ذلك، عندما سقط ابني القاصر ضحية، كانت الساعة تشير إلى الخامسة مساءً، وبسبب ظروف غزة بمنع الحركة بعد ذلك، نظرت حولي فوجدت حفرة أعتقد أنها بسبب غارة إسرائيلية، فحملت جثمان ابني وأنزلته فيها، وطمرت عليها بعض الرمال".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
عاد الأب سلامة لبيته يبكي بحسب ما أوضح، ويضيف في آخر حديث له قبل أن ينقطع الاتصال "لا نستطيع دفن من مات لنا في المقابر، من الأساس بصعوبة بالغة نواريهم الثرى، رأيت الجثت تتعفن، هذا ما وصلنا له".
لم يتمكن سلامة من توفير حجارة لتكون شاهداً يدل على مكان قبر طفله، وهذا يجعل من الصعب على أفراد أسرته بعد مرور الوقت من معرفة أو تمييز مكان ضريح الصغير.
دفن جماعي
في العادة، يتبع سكان غزة التقاليد الدينية عند وفاة أقاربهم، إذ ينقلون الجثة إلى المستشفى ليتم تكفينها، ثم إلى البيت لوداعه، وبعدها إلى المسجد للصلاة عليه، ويقيمون جنازة يشارك فيها الأصدقاء، ويسيرون جميعاً إلى المدافن، حيث يوارى الميت الثرى، وبعدها يقيمون عزاءً لمدة ثلاثة أيام يحضره المعارف، لكن هذه المراسم جميعها ألغيت في فترة الحرب.
يؤكد حازم البهتيني أنه دفن 10 جثامين في أماكن متفرقة لأشخاص لا يعرفهم، وجد جثثهم ملقاة في الشوارع، ويقول "الموت في غزة كالشبح يحاصر الكبار والصغار والرجال والنساء". ويضيف "في صالة أفراح دفنت ثلاث جثث، وفي شارع حفرت قبراً لشخصين، وقرب مدرسة وجدت ضحية فدفنتها في ساحة المرفق التعليمي، وكذلك في السوق الشعبية شاركت في صنع قبر جماعي لأشخاص لا أعرفهم، وطلب جاري مساعدته في حفر قبر لطفلته داخل محله التجاري".
وأخيراً، انتشرت مقاطع مصورة لمشاركة أشخاص في تحويل ساحة سوق مخيم جباليا شمال غزة، إلى مقبرة خاصة دفن نحو 10 جثامين جنباً إلى جنب، ووضعت الأعلام على القبور كشواهد.
انتهاك لحقوق الإنسان
عند اشتداد القتال في غزة دعت وزارة الأوقاف والشؤون الدينية إلى سرعة دفن ضحايا القصف الإسرائيلي، وأذنت بمواراتهم الثرى في مقابر جماعية بسبب الأعداد الكبيرة من القتلى وقلة المساحة المتاحة.
يبين مسؤول الاتصالات في وزارة الأوقاف رمزي النواجحة أن المقابر الجماعية تظهر حجم المأساة في غزة، والدفن العشوائي يعد جزءاً من واقع الحياة، لافتاً إلى أن هذه القبور ليست إلا مجرد تذكير بالمأساة التي يمر بها المواطنون في غزة.
وبحسب الهيئة المستقلة لحقوق الإنسان (مؤسسة شبه حكومية رسمية) فإنها رصدت أكثر من 120 مقبرة جماعية عشوائية تنتشر في أحياء سكنية وأفنية المنازل والطرقات وصالات المناسبات، وكان هذا الخيار بسبب استحالة الوصول إلى المقابر بفعل تقطيع الطرق.
يقول الباحث في الهيئة المستقلة أنس البرقوني "من منظور حقوقي فإن عدم السماح بالوصول إلى المدافن يعد عدم احترام لحقوق الإنسان، هذه الممارسات فيها انتهاك صارخ للكرامة الإنسانية، الحق في الدفن اللائق وتكريم الموتى هو حق أساس بغض النظر عن انتماءاتهم".