بقدر تعدد واتساع بؤر التوتر الساخنة حول العالم وتعقد مساراتها، كان عام 2023 كاشفاً عن تحولات عدة أصابت موازين العلاقات الدولية المتقلبة أصلا خلال السنوات الأخيرة، بين القوى الكبرى حول العالم والقوى الإقليمية الساعية إلى أدوار أوسع ضمن محيطها الجغرافي.
في العام الحالي الذي أوشك على الانصراف، عادت وبقوة لغة السلاح والعسكرية لتحكم قبضتها على كثير من النزاعات الممتدة، فتزايد عدد الصراعات الدموية في أجزاء عدة من العالم، ودخلت في غالبيتها وبصورة غير مسبوقة الدول الكبرى والإقليمية الفاعلة، لتكمل ما بدأته روسيا في فبراير (شباط) من عام 2022 بحربها في أوكرانيا التي شهدت استقطاباً دولياً، جذرته لاحقاً حرب غزة بين إسرائيل والفصائل الفلسطينية، المندلعة منذ السابع من أكتوبر (تشرين الأول) الماضي، بحيث تعمق الشقاق بين ما يعرف بـ"الشمال والجنوب العالمي" بعد عقود من الهيمنة الأحادية الأميركية على الشؤون الدولية.
بتعبير وزير الدفاع الأميركي الأسبق روبرت غيتس، "تحدق بالولايات المتحدة الآن أخطار أمنية تفوق وطأتها كل ما واجهته منذ عقود أو ربما في أي وقت مضى"، مضيفاً في تحليل نشره أواخر أكتوبر الماضي حول قراءاته للمشهد العالمي وتوازنات القوة فيه أنه "في الواقع لم يحدث أبداً أن واجهت أميركا أربعة أعداء متحالفين في الوقت نفسه (روسيا والصين وكوريا الشمالية وإيران) يمكن أن تصل ترساناتهم النووية معاً في غضون بضعة أعوام إلى ضعفي حجم ترسانتها النووية تقريباً، إذ إنه منذ الحرب الكورية (1950/1953)، لم تضطر واشنطن إلى التعامل مع منافسين عسكريين أقوياء في أوروبا وآسيا معاً. ولا يستطيع أحد على قيد الحياة الآن أن يتذكر وجود خصم يتمتع بالمستوى نفسه من القوة الاقتصادية والعلمية والتكنولوجية والعسكرية الذي تحوزه الصين اليوم".
وبعدما هيمنت على العالم لعقود قوة الولايات المتحدة وثروتها ومؤسساتها وأفكارها وتحالفاتها وشراكاتها، بات كثيرون يعتقدون الآن بأن هذه الحقبة الطويلة أصبحت تشارف على الانتهاء، لا سيما أن العالم الذي تقوده واشنطن بدأ التحول نحو ما يسميه بعضهم "نظام ما بعد أميركا وما بعد الغرب وما بعد الليبرالية الذي يتميز بمنافسة القوى العظمى وصعود الصين الاقتصادي والجيوسياسي"، وفق ما تقول مجلة "فورين أفيرز" الأميركية، مما يطرح كثيراً من الأسئلة حول كيفية قراءة موازين العلاقات الدولية وديناميكيتها وتفاعلاتها، لا سيما وسط اتساع بؤر التوتر والصراعات الإقليمية والشراكات الاقتصادية المعقدة، وظهور لاعبين عالميين جدد أعادوا مرة أخرى مفاهيم الهيمنة للتمركز في طليعة العلاقات الدولية.
عام الصراعات والتقلبات العنيفة
برصد كثيف لبؤر الصراعات حول العالم، نجد أن نزاعاتها الدموية في أجزاء كثيرة منها تزايدت بصورة غير مسبوقة طوال عام 2023. فإضافة إلى هجوم حركة "حماس" في السابع من أكتوبر الماضي على إسرائيل والحرب الإسرائيلية على قطاع غزة، مع احتمالات اتساع الحرب في جغرافيا الشرق الأوسط، خصوصاً مع دخول "حزب الله" اللبناني فيها، وتصاعد حدة الهجمات المسلحة ضد القوات الأميركية المتمركزة في سوريا والعراق، فضلاً عن دخول الحوثيين على الخط، جاء ذلك بعد أكثر من شهر على تجدد الصراع في جيب ناغورنو قره باغ المتنازع عليه بين أذربيجان وأرمينيا في أواخر سبتمبر (أيلول) الماضي، حيث استولت القوات الأذرية عليه مما أجبر حوالى 150 ألف أرميني على الفرار.
وفي أفريقيا، احتدمت الحرب الأهلية في السودان، وعاد النزاع إلى إثيوبيا، وكان استيلاء جيش النيجر على السلطة في البلاد في يوليو (تموز) الماضي الانقلاب السادس في منطقة الساحل وغرب أفريقيا منذ عام 2020، وفي الوقت نفسه استمرت الحرب الطاحنة في أوكرانيا لعامها الثاني على التوالي.
وبينما ذكرت قاعدة البيانات لمواقع الصراع المسلح ومشروع بيانات الأحداث (ACLED) أن حصيلة الاشتباكات المسلحة التي شاركت فيها قوات الدولة أو الجماعات المتمردة لعام 2023 بلغت 8622 حدثاً وأن جزءاً كبيراً من العالم لا يزال غارقاً في شكل من أشكال الصراع، كشفت المراجعة السنوية للصراعات التي أعدها "المعهد الدولي للدراسات الاستراتيجية" عن وجود 183 نزاعاً مسلحاً إقليمياً في العالم عام 2023، وهو الرقم الأعلى منذ 30 سنة، مشيرة إلى أن عدد حوادث العنف ارتفع بنسبة 28 في المئة وعدد الوفيات بنسبة 14 في المئة، فيما حذر المحللون من أن بعض الزعماء أصبحوا ينظرون إلى الحرب مرة أخرى بوصفها "أداة سياسية مفيدة"، معتبرين أن العالم "تهيمن عليه الصراعات المستعصية والعنف المسلح على خلفية أعداد متزايدة من الجهات الفاعلة والدوافع المعقدة والمتداخلة والتأثيرات العالمية".
كذلك خلص تحليل حديث تناول بيانات جمعها "برنامج أوبسالا لبيانات النزاعات" وأجراه "معهد بحوث السلام في أوسلو" إلى أن عدد النزاعات في أنحاء العالم كله وشدتها وطولها في مستواه الأعلى منذ ما قبل نهاية الحرب الباردة، وسجلت الدراسة 55 نزاعاً نشطاً خلال 2022، استمرت في المتوسط نحو ثمانية أعوام إلى 11 عاماً، بزيادة كبيرة عن 33 نزاعاً نشطاً استمرت في المتوسط سبعة أعوام قبل عقد.
ومما يؤشر على تعقد مشاهد الصراعات، تشير مجلة "فورين أفيرز" الأميركية إلى أنه وعلى رغم زيادة عدد النزاعات في 2023، مر أكثر من عقد من الزمن منذ التوصل إلى اتفاق سلام شامل بوساطة دولية لإنهاء الحرب، إذ توقفت العمليات السياسية التي تقودها أو تساعد فيها الأمم المتحدة في ليبيا والسودان واليمن أو انهارت، فيما النزاعات التي تبدو مجمدة في بلدان مثل إثيوبيا وإسرائيل وميانمار تزداد حماوة بوتيرة تنذر بالخطر، مضيفة أنه "مع الحرب الروسية- الأوكرانية، عاد النزاع الشديد لأوروبا التي تمتعت سابقاً بعقود عدة من السلام والاستقرار النسبيين. وإلى جانب انتشار الحروب، حلت مستويات قياسية من الاضطرابات أصابت البشر"، وتابعت "في 2022، كان ربع سكان العالم (نحو ملياري شخص) يعيشون في مناطق متأثرة بنزاعات، بينما بلغ عدد النازحين قسراً في أنحاء العالم كله رقماً قياسياً وصل إلى 108 ملايين شخص بحلول بداية 2023".
المجلة ذاتها، وفي التحليل الذي كتبته إيما بيلز (مستشارة أولى في المعهد الأوروبي للسلام) وبيتر سالزبوري (أستاذ مساعد في كلية الشؤون الدولية والعامة بجامعة كولومبيا)، قالا إن الاستجابة الدولية من جانب الدول الأعضاء في الاتحاد الأوروبي والمملكة المتحدة والولايات المتحدة التي استثمرت كلها بكثافة في بناء السلام بعد الحرب الباردة، كانت تتلخص في تحويل أهداف "السلام" من حل للنزاعات إلى "إدارة النزاعات"، لكن الأحداث في الشرق الأوسط (حرب غزة) وأماكن أخرى ذكرتنا بأن النزاعات لا يمكن إدارتها إلا لفترات، مضيفين "مع اشتعال القتال في أنحاء العالم كله وبقاء الأسباب الجذرية للنزاعات من دون حل، تبدو الأدوات التقليدية لبناء السلام والتنمية غير فاعلة على نحو متزايد. والنتيجة هي أن فواتير المساعدات تزداد ويصبح اللاجئون مهجرين وتواصل المجتمعات الممزقة المعاناة. وثمة حاجة ملحة إلى نهج جديد لحل النزاعات وآثارها وإدارتها".
وأردف الكاتبان أن "النزاع المعقد المتعدد الأطراف أصبح القاعدة بعد انهيار الاتحاد السوفياتي، مما أزال المبدأ التنظيمي الثنائي للمنافسة الغربية - السوفياتية الذي شكل إطار عدد من الحروب السابقة"، موضحين أنه "في الآونة الأخيرة، أصبحت الصراعات ذات طابع دولي متزايد. وتنجر بانتظام بلدان إقليمية ودولية، سواء في صورة مباشرة أو غير مباشرة، إلى حروب خارجية، كما شوهد مراراً وتكراراً في نزاعات الشرق الأوسط وأفريقيا، وأنه كلما زاد عدد الأطراف المحلية والدولية المشاركة في نزاع، زادت صعوبة إنهائه، لا سيما في ظل الطبيعة المتغيرة للنزاع مع إمكان الأطراف المختلفة الوصول إلى الأسلحة المتقدمة نسبياً وغيرها من أشكال التكنولوجيا".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال فترة الحرب الباردة التي امتدت من أواخر الأربعينيات إلى أوائل التسعينيات بين الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي، شكلت ملامح السياسة العالمية على أساسها، إذ تميزت تلك الحقبة بالتنافس الأيديولوجي والحروب بالوكالة وسباق التسلح، وكل ذلك مدفوع بالسعي وراء الهيمنة والتأثير بين القوتين العظميين، وانقسم العالم حينها إلى كتلتين مختلفتين، تتنافس كل منهما على السيادة وتحاول تصدير أنظمتها السياسية والاقتصادية. أما الآن وبعد عقود من الهيمنة الأميركية على المشاهد، فبدأت تتجلى مؤشرات منذ أعوام إلى أن النظام الدولي يشهد مرة أخرى عودة المنافسة بين القوى العظمى وتحولاً في ديناميكيات القوة بصورة تزيد المخاوف، مع تجديد التركيز على مجالات النفوذ السياسية والاقتصادية، إضافة إلى العسكرية والتكنولوجية منها.
اتفاق وحربان عمقا تحول موازين القوة
من بين النزاعات والصراعات المتعددة والدموية التي شهدها العالم خلال 2023، بقيت السمة الأبرز الحاكمة لها تلك التحولات العميقة والتغيير في موازين القوى التي سادت العالم والمناطق الجغرافية المختلفة لعقود ما بعد الحرب الباردة أي منذ تسعينيات القرن الماضي، سواء على صعيد الاستقطاب بين الغرب والشرق أو الشمال والجنوب العالمي، بعدما كانت الحروب في السابق حكراً على بلدان الجنوب، في وقت يرى بعضهم أن "أخطر ما بات يميز النزاعات هذه المرة التي أمست بصخب أيديولوجي أقل توهجاً، أنها أكثر اعتماداً على التطورات التكنولوجية".
ومع ما أحدثته الحرب الروسية- الأوكرانية من تغير في مسار العلاقات الدولية منذ اندلاعها في فبراير 2022، بدا عام 2023 أكثر انكشافاً في هذا الشأن منذ أشهره الأولى. فإلى جانب الحروب والصراعات الكبرى التي ميزته، جاء الإعلان السعودي- الإيراني في مارس (آذار) 2023 برعاية صينية، عن استئناف العلاقات الدبلوماسية بين البلدين وإعادة فتح سفارتيهما وممثلياتهما، ليفسح المجال أمام التغير في موازين القوى والعلاقات حول العالم.
بتعبير وزير الخارجية الأميركي السابق ومستشار الأمن القومي الأبرز لبلاده الراحل هنري كيسنجر كان "من شأن بروز الدبلوماسية الصينية في مجال صنع السلام في الشرق الأوسط أن يغير قواعد اللعبة الدبلوماسية في هذه المنطقة والعالم"، وبنى كيسنجر، وفق ما نقل عنه ديفيد إغناشيوس في صحيفة "واشنطن بوست" الأميركية، رؤيته لدور الدبلوماسية الصينية على أساس أربعة افتراضات أساسية، الأول أن الولايات المتحدة لم تعد تلك القوة التي لا يمكن الاستغناء عنها، والثاني أنها لم تعد الدولة الوحيدة التي لديها من القوة ما يكفي للتوصل الى تسوية النزاعات سياسياً، والثالث أن بكين أصبح لديها من القوة ما يؤهلها للمشاركة في صنع نظام عالمي جديد، وأخيراً أن النظام العالمي الذي تريده الصين هو نظام متعدد الأقطاب يختلف عن نظام القطب الواحد الذي تريد الولايات المتحدة المحافظة عليه وأن الصين خطت الخطوة الأولى على طريق تحقيق ما تريد.
هذا التحول في مسارات العلاقات الدولية عمقته حرب غزة الأخيرة، لا سيما في منطقة الشرق الأوسط بين عالم الشمال والجنوب، بعدما بدا أن "الترتيبات والتفاهمات التي أعدتها الولايات المتحدة للمنطقة للتفرغ للمنافسة مع الصين لم تأتِ أكلها وعادت مرة أخرى بقوة للدخول في المنطقة" وفق ما كتبت "فورين أفيرز".
وفي التحليل الذي كتبته ماريا فانتابي وفالي نصر في المجلة الأميركية، قالا إنه "قبل السابع من أكتوبر 2023، بدا وكأن رؤية الولايات المتحدة للشرق الأوسط بدأت تتحقق أخيراً، إذ توصلت واشنطن إلى تفاهم ضمني مع طهران في شأن برنامجها النووي، أوقفت إيران بموجبه فعلياً أي تقدّم إضافي مقابل الحصول على إعانة مالية محدودة، واشتغلت الولايات المتحدة على إبرام اتفاق دفاعي مع السعودية. علاوة على ذلك، أعلنت واشنطن عن خطط لإنشاء ممر تجاري واسع النطاق يربط الهند بأوروبا عبر الشرق الأوسط، وبدا أن المنطقة في اتجاه إدارة شؤونها بنفسها، مما يسهم في إزالة هذا العبء عن واشنطن وإعطائها المساحة المطلوبة للتركيز على شؤون آسيا وأوروبا ومواجهة نفوذ الصين المتزايد".
ويضيفان أن "هجوم حماس على إسرائيل جاء ليدخل المنطقة في حال من الفوضى وقلب رؤية الولايات المتحدة رأساً على عقب. وأوضح الهجوم أن الوضع في الشرق الأوسط لا يزال غير مستقر وجاهزاً للانفجار في أي لحظة. وأثار ذلك الهجوم رد فعل عسكرياً شرساً من جانب إسرائيل، مما أدى إلى كارثة إنسانية في غزة مع سقوط أعداد كبيرة من القتلى ونزوح كثير من الفلسطينيين، وزاد خطر نشوب حرب إقليمية أوسع نطاقاً".
وعن تأثير تلك الحرب في القيادة الأميركية ذاتها حول العالم، أوضح الكاتبان أنه على رغم ما تتمتع به واشنطن من نفوذ في الشرق الأوسط، بيد أن دعمها المطلق للحرب الإسرائيلية أدى بالتأكيد إلى تقويض مصداقيتها في المنطقة، وعلى نطاق أوسع، أضر هذا الدعم أيضاً بمكانة واشنطن في الجنوب العالمي، خصوصاً أن ادعاء إسرائيل بالدفاع عن النفس تحول إلى عقاب جماعي للمدنيين الفلسطينيين، مما يعني أنه ستتعين على الولايات المتحدة صياغة استراتيجية جديدة للشرق الأوسط، تعترف ضمنها بالحقائق التي تجاهلتها منذ فترة طويلة".
ويردفان أن "انعدام الثقة المتزايد بالولايات المتحدة وعدم قدرتها على قيادة منطقة الشرق الأوسط نحو الاستقرار وغياب أي رؤية مشتركة يمكن الالتفاف حولها، تجعل مختلف الدول تسعى إلى تحقيق مصالحها الخاصة القصيرة المدى، متأثرة بالضغوط المتزايدة. ومن أجل تجنب الأسوأ، سيجب على واشنطن إعادة النظر في افتراضاتها الأساسية وتجديد التزامها تجاه الشرق الأوسط وصياغة رؤية جديدة للمنطقة".
وبحسب ما كتبه أستاذ العلاقات الدولية في جامعة هارفارد ستيفن وولت في مجلة "فورين بوليسي" الأميركية، "فإنه وكقاعدة عامة، ستكون لحرب غزة الأخيرة تأثيرات جيوسياسية واسعة النطاق"، موضحاً أنه "لكي نرى هذه العواقب الأوسع نطاقاً، من المهم أن نتذكر الحال الجيوسياسية العامة قبل السابع من أكتوبر الماضي، إذ كانت الولايات المتحدة وحلفاؤها في الناتو يشنون حرباً بالوكالة ضد روسيا في أوكرانيا. وكان هدفهم مساعدة أوكرانيا في طرد روسيا من الأراضي التي استولت عليها بعد فبراير 2022 وإضعاف روسيا. ولكن الحرب لا تسير على ما يرام، وبدا أن ميزان القوة العسكرية يتحول تدريجاً نحو موسكو، وتلاشت الآمال في أن تتمكن كييف من استعادة أراضيها المفقودة إما بقوة السلاح أو من خلال المفاوضات".
وتابع أنه "من جانب آخر، كانت الولايات المتحدة تشن أيضاً حرباً اقتصادية ضد الصين بهدف منع بكين من خطف موقع الريادة في إنتاج أشباه الموصلات والذكاء الاصطناعي والحوسبة الكمومية وغيرها من مجالات التكنولوجيا الفائقة، إذ ترى واشنطن أن الصين هي منافسها الأساسي على المدى الطويل، وكانت إدارة الرئيس جو بايدن تعتزم تركيز مزيد من الاهتمام على هذا التحدي... لكن انفجار الأوضاع في الشرق بدّل المشهد".
وبحسب وولت فإنه "باختصار لم تكن الحرب الأخيرة في الشرق الأوسط أخباراً سارة لتايوان، أو اليابان، أو الفيليبين، أو أي دولة أخرى تواجه ضغوطاً متزايدة من جانب الصين. ومع نشر حاملتي طائرات الآن في شرق المتوسط، فإن القدرة على الاستجابة الأميركية بفاعلية في حال تدهور الأمور في آسيا ستضعف حتماً"، ويقول إن "الصراع في غزة يشكل كذلك كارثة بالنسبة إلى أوكرانيا التي باتت تخوض حرب استنزاف طاحنة".
ووفق والت، فإن حرب غزة كذلك "كانت سبباً في إشعال الانقسامات الأوروبية من جديد، فتدعم بعض الدول إسرائيل بلا تحفظ، في حين أبدت دول أخرى قدراً أعظم من التعاطف مع الفلسطينيين... وكلما طال أمد الحرب، اتسعت هذه التصدعات وسلطت هذه الانقسامات الضوء أيضاً على الضعف الدبلوماسي الذي تعانيه أوروبا، مما يقوض الهدف الأوسع المتمثل في توحيد ديمقراطيات العالم ضمن تحالف قوي وفاعل".
ومن الحرب في غزة إلى سابقتها الحرب الروسية- الأوكرانية، كانت ولا تزال ترسم ملامح الاستقطاب حول العالم، إذ إنها وعلى رغم توحيدها الغرب ضد موسكو، إلا أنها كشفت عن فجوة بدأت تتسع مع بقية دول العالم، مما يؤشر إلى معالم نظام عالمي جديد آخذ في التشكل.
ونقلت صحيفة "ذا غارديان" البريطانية، عن أستاذ الدراسات الأوروبية في جامعة أكسفورد تيموثي غارتون آش ضمن دراسة حول شكل النظام العالمي الذي خلفته، قوله إن "الحرب الروسية- الأوكرانية التي تقترب من نهاية عامها الثاني، كشفت عن اختلافات جغرافية حادة في المواقف تجاه الحرب والديمقراطية وتوازن القوى العالمي، توحي بأن الهجوم الروسي على كييف ربما يكون نقطة تحول تاريخية تنبئ بظهور نظام عالمي ’ما بعد غربي‘"، مضيفاً أن "المفارقة في الحرب الأوكرانية أنها جعلت الغرب أكثر اتحاداً وأقل نفوذاً في العالم من أي وقت مضى".
ووفق الصحيفة ذاتها، "يتوقع كثيرون من خارج الغرب بأن يتخلى النظام الليبرالي الذي تقوده الولايات المتحدة عن الهيمنة العالمية خلال العقد المقبل وأن يصبح الغرب مجرد قوة ضمن قوى عالمية عدة".
مشهد أكثر ضبابية في 2024
بقدر التعقيد والتشابك بين الأطراف الدولية والإقليمية في الصراعات والنزاعات الكبرى التي تفجرت عام 2023، لم ترجح غالبية التنبؤات والقراءات في شأن موازين القوى ومستقبل العلاقات بين الدول الكبرى حول العالم، أن يكون العام الجديد أقل سخونة، في وقت تتوقع اشتداد المنافسة والمواجهة، لا سيما مع اتساع الهوة بين الشمال والجنوب العالميين.
عن تلك الهوة، تنقل صحيفة "فايننشال تايمز" البريطانية عن أحد كبار دبلوماسيي "مجموعة السبع" الصناعية من دون تسميته، بعد أكثر من شهر ونصف من حرب غزة، قوله "لقد خسرنا المعركة في الجنوب العالمي بكل تأكيد. لقد ضاع كل العمل الذي قمنا به مع الجنوب في ما يتعلق بأوكرانيا، إنسَ القوانين، إنسَ النظام العالمي... لن يستمعوا إلينا مرة أخرى. قد يكون هذا الرأي مبالغاً فيه، لكنه ليس خطأ".
هذه الحالة، يرى وولت أنها تمثل "أنباء سارة بالنسبة إلى روسيا والصين"، موضحاً أنه "من وجهة نظرهم، فإن أي شيء يصرف انتباه الولايات المتحدة عن أوكرانيا أو شرق آسيا أمر مرغوب فيه، خصوصاً عندما يمكنهم الجلوس على الهامش ومشاهدة الأضرار تتراكم".
وذكر وولت، في تحليل له بمجلة "فورين بوليسي" الأميركية أن "الحرب تمنح موسكو وبكين حجة سهلة أخرى للنظام العالمي متعدد الأقطاب الذي كثيراً ما دافعتا عنه، بدلاً من نظام تقوده الولايات المتحدة. كل ما تحتاجان إليه هو أن توضحا للآخرين أن الولايات المتحدة كانت القوة العظمى الأساسية التي تدير الشرق الأوسط على مدى الأعوام الـ30 الماضية، والنتائج هي حرب كارثية في العراق وقدرات نووية إيرانية كامنة وظهور تنظيم الدولة الإسلامية وكارثة إنسانية في اليمن وفوضى في ليبيا وفشل عملية أوسلو للسلام. وقد تضيفان أن هجوم حماس في السابع من أكتوبر يظهر أن واشنطن لا تستطيع حتى حماية أقرب أصدقائها من الأحداث الرهيبة".
وما يؤشر على مزيد من المنافسة والمواجهة، تراجع المؤسسات الأممية في أداء أدوارها في ما يتعلق بالسلم والاستقرار الدوليين، إذ كتب بيتر سالزبوري وإيما بيلز في مجلة "فورين أفيرز" الأميركية أواخر أكتوبر الماضي أن "الأمم المتحدة التي كانت ذات يوم الوسيط المفضل في النزاعات، جرى تهميشها. وأسهمت المنافسة الجيوسياسية بين الدول القوية في فقدان الأمم المتحدة لنفوذها. وعليه يتأثر مجلس الأمن التابع للمنظمة الأممية في صورة خاصة بهذه القوى"، وتابعا أن "مجلس الأمن ابتلي بمنافسات دولية متزايدة بين الولايات المتحدة وروسيا والصين، وبنهج تفاعلي على نحو متزايد في المجال السياسي الدولي، وأن الجمود في مجلس الأمن يعني أن الأمم المتحدة لا تستطيع عرض حلول أو توجيه اللوم على صعيد جرائم الحرب أو العدوان".