ملخص
الرياض توسع خططها الإنفاقية وفق رؤية بعيدة المدى بحوافز استثمارية.
السعودية تتبع السيناريو المتحفظ عند بناء الموازنة، وخفض إنتاج النفط لن يكون له تأثير عليها.
تعكس الموازنة السعودية لعام 2024، استمرار الحكومة في سياستها التوسعية في الإنفاق بهدف تحفيز النمو الاقتصادي وتحقيق أهداف رؤية 2030 مع الحفاظ على استدامة المالية العامة على المديين المتوسط والطويل، وذلك من خلال تحفيز الاستثمارات وتنويع مصادر الدخل، مما يجعل الرياض أقوى وأكثر مرونة في مواجهة التحديات الاقتصادية العالمية.
وأفاد محللون اقتصاديون لـ"اندبندنت عربية"، بأن الموازنة الجديدة للسعودية تعتبر توسعية وتعكس حجم المشاريع الضخمة في كافة المجالات، والعجز المتوقع فيها مقبول في ظل حجم الإنفاق التريليوني والتوسع الرأسمالي لخدمة أهداف رؤية 2030، مشيرين إلى أن السعودية فضلت اعتماد موازنة توسعية وتسجيل عجز نظراً إلى أن لديها فسحة مالية تمكنها من الاقتراض من السوق الدولية بأسعار من بين الأكثر تنافسية.
وأقر مجلس الوزراء السعودي، الأسبوع الماضي، الموازنة العامة للدولة للعام المالي الجديد 2024 بعجز مقدر يبلغ 79 مليار ريال (21 مليار دولار).
وبحسب بنود الموازنة فقد بلغت الإيرادات 1.172 تريليون ريال (313 مليار دولار)، والمصروفات 1.251 تريليون ريال (334 مليار دولار).
وتتوافق هذه التوقعات مع التقديرات التي كشف عنها البيان التمهيدي لموازنة العام المالي 2024 الصادر عن وزارة المالية السعودية في أكتوبر (تشرين الأول) 2023.
وبحسب بيان وزارة المالية تقدر قيمة العجز بنحو 1.9 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي مع استمرار العمل على رفع كفاءة وفاعلية الإنفاق والضبط المالي واستدامة المالية العامة وتنفيذ الإصلاحات.
وتعد موازنة 2024 رابع موازنة تريليونية تقدرها الحكومة السعودية تاريخياً بعد 2019 البالغة 1.106 تريليون ريال (295.1 مليار دولار) وموازنة 2020 المقدرة حينها بـ1.020 تريليون ريال (272.2 مليار دولار) و2023 المقدرة بنحو 1.114 تريليون ريال (297.3 مليار دولار).
الجدعان: عجز الموازنة مخطط له ولا داعي للقلق
وتعليقاً على الموازنة السعودية، قال وزير المالية محمد الجدعان، إن العجز في الموازنة مخطط له ولا داعي للقلق، لافتاً إلى أن السعودية تأخذ السيناريو المتحفظ عند بناء الموازنة، وخفض إنتاج النفط لن يكون له تأثير عليها.
وأضاف الوزير في تصريحات في المؤتمر الصحافي الذي أعقب الموازنة، أنه قبل رؤية 2030 كانت الموازنة تعتمد بنسبة 85 في المئة على الإيرادات النفطية، مضيفاً "لن نزيد العبء الضريبي الإجمالي البالغ 18 في المئة من الناتج المحلي غير النفطي في إتباع مؤشر عالمي"، موضحاً أن النشاط الاقتصادي غير نفطي كان أفضل من التقديرات، فيما من المتوقع أن يسجل نمواً بنسبة ستة في المئة حتى نهاية 2030.
وذكر أن القطاع الخاص أضاف 1.122 مليون وظيفة للسوق بنهاية الربع الثالث من عام 2023، كما بلغ معدل مشاركة المرأة في سوق العمل 35.3 في المئة متجاوزاً مستهدف الرؤية في عام 2030، فيما سيتم مراجعة دورية لبرامج منظومة الدعم والإعانات الاجتماعية وتحسينها للوصول للفئات المستهدفة، كما أكد أنه لن يتم تخفيض ضريبة القيمة المضافة.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأشار الوزير إلى أن البنية التحتية في السعودية قادرة على استضافة "إكسبو 2030"، في الوقت نفسه كشف عن أنه سيتم تعزيز البنية التحتية لتستوعب 150 مليون سائح.
وأفاد: "قروضنا داخل السعودية عبارة عن صكوك، والديون من الخارج عبارة عن سندات، وإدارة الدين أصبحت عمل روتيني.. وخبر الاقتراض أصبح خبراً عادياً".
وكشف عن أن الناتج المحلي تضاعف من 2.5 تريليون ريال (667 مليار دولار) منذ إطلاق الرؤية 2016 بنسبة 65 في المئة إلى 4.1 تريليون ريال (1.09 تريليون دولار).
موازنة توسعية
في السياق ذاته، يرى المتخصص في الشؤون الاقتصادية، د. إحسان بوحليقة، أن موازنة السعودية للعام الجديد "توسعية"، وهي استمرار للميزانيات التريليونية السابقة وذلك رغم تسجيل عجز في الموازنة إلا أنه يمكن اعتباره عجزاً اختيارياً، من باب المفاضلة بين أمرين: إما الإنفاق وفق المتاح من إيرادات بحيث يكون هناك توازن تام بين الإيرادات والمصروفات، وعند اتباع هذا الخيار فلن تسجل الموازنة عجزاً أو الإنفاق وفق الحاجات التمويلية لبرامج تنموية واستثمارية حكومية تدعم تحقيق رؤية 2030 ومستهدفاتها، مؤكداً أن الخيار الثاني هو الذي فضلته الحكومة.
وكشف بوحليقة، عن أن هذه السياسة المالية أصبحت واضحة مع الأخذ في الاعتبار أن العمل يكون وفق متطلبات تحقيق رؤية 2030، وما يتطلبه الإنفاق على البرامج والالتزامات الجارية الأخرى، وليس وفقاً لما هو متاح من إيرادات واردة للخزانة العامة.
وأشار إلى أنه وفقاً للخيار المتبع، ففي حال نقص الإيرادات يكون اللجوء إلى الفائض أو إصدار صكوك وسندات الاستدانة، وهذه هي الممارسة السائدة في معظم بلدان العالم.
وقال بوحليقة، إن السعودية لديها فسحة مالية أو ما يعرف بـ"fiscal space" تمكنها من الاقتراض من السوق الدولية بأسعار من بين الأكثر تنافسية، وعادة تشهد الإصدارات تغطيات بأضعاف السقف المطلوب استدانته.
في ما يتعلق بالأداء الاقتصادي، أوضح أن السعودية كانت ضمن الأعلى نمواً في العام الماضي بنسبة نمو 8.7 في المئة، فيما شهد عام 2023 تحديات اقتصادية أبرزها تراجع إيرادات النفط، وذلك بسبب التخفيض الطوعي لإنتاج النفط السعودي، لينخفض نتيجة لذلك الإنتاج من أكثر من 10 ملايين برميل يومياً إلى 10 ملايين فقط.
وتوقع تجاوز نمو الناتج المحلي الحقيقي أربعة في المئة في عام 2024، مسجلاً نمواً مريحاً وقفزة عن النمو الحقيقي في الناتج المحلي الإجمالي عام 2023 الذي لم يتجاوز 0.3 في المئة، مرجحاً استمرار نمو الأنشطة غير النفطية، التي كان لها دور في تحصين الاقتصاد السعودي من الدخول في انكماش.
رؤية 2030
وذكر بوحليقة، أن أهم العوامل الداعمة تتمثل في مواصلة ارتفاع الإنفاق الرأسمالي، إذ من الملاحظ أن الارتفاع تبلغ نسبته 48 في المئة في موازنة 2024، وهذا يعكس التوسع في مشاريع البنية التحتية والمشاريع ذات الصلة بتحقيق رؤية 2030.
وأكد أن هناك انفتاحاً اقتصادياً واضحاً من خلال توفير عديد من الحوافز للمستثمرين الأجانب، والسعي دائماً للارتقاء بجاذبية بيئة الاستثمار المحلي والأجنبي، عبر تسهيل إجراءات تأسيس الأعمال وإصدار التشريعات، موضحاً -على سبيل المثال- أن إطلاق أربع مناطق اقتصادية متخصصة سعودية تشكل فرقاً في استقطاب الاستثمارات الأجنبية النوعية.
وأفاد بوحليقة، بأن القطاع النفطي يحتل أهمية واضحة في الاقتصاد السعودي، ولكن نمو القطاع غير النفطي بدأ يأخذ مساراً مستقلاً ويسجل نمواً صحياً أقل تأثراً بارتفاعات وخفوضات أسعار النفط، في الوقت نفسه هناك توجه نحو قطاعات جديدة تحقق التنوع وتعمق مساهمة القطاع الخاص، وفي الوقت نفسه لها أثر إيجابي على ميزان المدفوعات مثل قطاع السياحة، الذي بدأ يسجل فائضاً، بينما هناك بعض الأنشطة التي تحتاج مزيداً من الوقت لتثمر مشاريعها الجديدة، مثل قطاعي الصناعة والتعدين اللذين يشهدان تنفيذ مشاريع عملاقة ستظهر أثرها الإيجابية مستقبلاً.
عجز طبيعي
من جانبه قال المستشار الاقتصادي الرئيس التنفيذي لـ"مركز التنمية والتطوير للاستشارات الاقتصادية" الدكتور علي بوخمسين، إنه من الطبيعي أن تشهد موازنة السعودية لعام 2024 عجزاً بسبب عدة أسباب أبرزها خفض إيرادات النفط وسط تراجع الأسعار وضعف الطلب العالمي بشكل ملموس بعكس الحال لعام 2023 الذي شهدت مبيعات أعلى للنفط.
وأضاف بوخمسين، أنه مع وجود تنوع في قاعدة الإيرادات الذي نجحت السعودية في إيجادها وتطويرها منذ سنوات إطلاق الرؤية والذي نجحت فيه إلى حد بعيد في حماية استقرار موازناتها المالية السنوية لتحقق حالة استقرار وثبات جيدة، لتستطيع الاستمرار في تنفيذ مشاريعها التنموية الطموحة بعيداً من تقلبات أسواق النفط العالمية لذلك وجود عجز بمبلغ 79 مليار ريال (21 مليار دولار) سيكون مبرراً بالنظر لوجود إنفاق حكومي كبير موجه لتلبية متطلبات مشاريع الرؤية الطموحة وتطوير القطاعات الاقتصادية الهيكلية بشكل كبير وموسع بما يتطلب إنفاقاً حكومياً كبيراً ولتغطية هذا الطلب لا مناص من وجود عجز في ظل خفض حاد في الإيرادات النفطية.
أما بخصوص الأداء المالي الحكومي المتوقع للعام المقبل، أفاد بوخمسين، بأنه سيكون جيداً كما هو متوقع لأن هناك مشاريع للرؤية الوطنية بدأت تؤتي أكلها وهناك استراتيجيات تم تطبيقها أدت لتحسين هيكلية الإنتاج في عديد من القطاعات الاقتصادية مثل قطاع الترفيه والسياحة وقطاع الإنتاج الزراعي والثروة السمكية والصناعة وقطاع الخدمات اللوجيستية وغيرها من القطاعات الكبرى التي أدت لارتفاع الإيرادات الحكومية فضلاً عن سياسات الإصلاح المالي، والتي ما زالت مطبقة وتحقق دخلاً جيداً استطاعت الحكومة توجيهها كلها في تغذية متطلبات الإنفاق الرأسمالي والتشغيلي لمشاريعها الجديدة في مشاريع البنية التحتية ومشاريع التشغيل والصيانة بما عزز من معدلات كفاءة أداء الاقتصاد الوطني.
الاقتصاد غير النفطي
وحول الاقتصاد غير النفطي، قال بوخمسين: "هذا القطاع بدأ يأخذ دوره الطبيعي في تعزيز ملاءة السعودية المالية وأصبح مصدر توازن كبير إذ ارتفعت نسبة مساهمة بشكل كبير منذ إطلاق رؤية 2030، إذ من المستهدف أن يصبح نسبة مساهمة الصادرات غير النفطية في الاقتصاد الوطني إلى ما يزيد على 50 في المئة، وأن تصبح مساهمة القطاع الخاص بما يصل إلى 65 في المئة وهذا فعلاً ما بدأ يشهده الاقتصاد بشكل حقيقي لأنه هناك فعلاً نسب نمو ملموسة في نجاح الرؤية لتحقيق مستهدفاتها في هذا الشأن"
وتابع بوخمسين: أن "تذبذب أسعار النفط في الأسواق العالمية، وكذلك انحسار الطلب عليه لأي سبب كان سواء لأسباب جيوسياسية أو خفض معدلات نمو الطلب عليه في الأسواق العالمية للتضخم أو غيره كلها الآن أصبحت لا تمثل خطراً حقيقياً وضاغطاً على الاقتصاد الوطني لأنه هناك تنوعاً في قاعده الاقتصاد وتعدد لمصادر الدخل وأصبحت الاستدامة المالي السعودية أكثر ثباتاً وقدرة على تحمل الأخطار العالمية".
التوسع في الإنفاق الحكومي
من جانبه، أشار المحلل الاقتصادي فهد بن جمعة، إلى أن الموازنة السعودية للعام المقبل تنموية توسعية من خلال تركيزها بشكل استراتيجي على تعزيز النمو الاقتصادي من خلال التوسع في الإنفاق الحكومي، معتبراً أن تلك الموازنة هي مؤشر إلى قوة ومرونة الاقتصاد السعودي وقدرته على استيعاب الصدمات الاقتصادية العالمي.
وأضاف أن الإنفاق، الذي يركز على الأولويات مع رفع كفاءته، لا يزال في مساره التصاعدي على المديين المتوسط والطويل الأجل، وذلك نتيجة النظرة المستقبلية للحكومة بهدف مضاعفة العائد الاقتصادي ومن أجل أن يكون هناك نمو متكامل بين القطاعين الحكومي والخاص، لافتاً إلى أن الإنفاق على المشاريع الحالية بما في ذلك البنية التحتية، التي تخدم إقامة معرض "إكسبو الرياض" 2030 التي سيكون استثمار القطاع الخاص أهم ركائزها.
وأوضح فهد بن جمعة أن هذا المستوى من العجز لا يثير قلقاً في ظل المركز المالي القوي للمالية العامة، لذا هناك قدرة كبيرة على الاستمرار في السياسة المالية التوسعية والنظر في تسريع المشاريع ذات العائد الاقتصادي والاجتماعي والسعي لتحقيق مستهدفات رؤية السعودية 2030، مشيراً إلى أن الإيرادات غير النفطية ستتضاعف في 2030 وستعتمد عليها موازنة السعودية مما يعني مزيداً من النمو والتنوع والاستقرار المالي وتحقيق الاستدامة.