Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نحو خطاب ديني جديد

اليوم، في السعودية، ثورة فوقية لإعادة بناء الدولة وتجديد خلاياها من خلال برنامج إصلاحي طويل المدى

امرأة سعودية خلال فعاليات "منتدى مسك العالمي" في 15 نوفمبر2017 ( أ. ف. ب)

في كتابه الشهير "الاخلاق البروتستانتية والروح الرأسمالية" يرى عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر (1864 – 1920)، أن الإصلاح الديني الذي استهله مارتن لوثر (1483 – 1546)، كان له الأثر الأكبر في نمو النظام الرأسمالي وتطوره، إذ أعادت حركة الإصلاح تفسير المفاهيم المسيحية التي كانت سائدة، فقررت مفاهيم الفردية والسعي نحو الثراء، وغيرها من مفاهيم كانت تقف عائقاً أمام تطور الفرد والجماعة في فهمهما التقليدي. 

إعادة تفسير المفاهيم الدينية التقليدية بمعان جديدة، لم يخرج البروتستانتية من عبادة المسيحية، بل أعاد الحياة لدين احتكره الإكليروس حين جعلوا من أنفسهم الطريق الأوحد الى الله، وأن الدين لا يمكن ان يُفهم إلا من خلالهم، فكان جمود العصور الوسطى الذي امتد أكثر من ألف عام. بقي هذا الجمود مسيطراً على تلك البلاد التي لم تعتنق البروتستانتية، كإسبانيا وفرنسا، فيما انطلقت الى الحداثة البلاد التي اعتنقت حركة الإصلاح الديني، كألمانيا وانجلترا.

اليوم، في السعودية، ثورة فوقية لإعادة بناء الدولة وتجديد خلاياها من خلال برنامج إصلاحي طويل المدى، ترافق ذلك بداية خطاب اقتصادي واجتماعي وثقافي جديد يحاول التخلص من آثار خطاب قديم تكلَّس ولم يبقَ قادراً على استيعاب مفاهيم العصر الحديث، إذ إن مفاهيمه تنتمي الى واقع انتهى، ولم يعد لتلك المفاهيم أرض تستند إليها. ولكن مثل هذا الخطاب الاجتماعي والاقتصادي الجديد، لن تكتمل أركانه إذا لم يرافقه خطاب ديني جديد يعيد إنتاج مفاهيم دينية معينة على نحو يستوعب ما يجري من حراك اقتصادي واجتماعي وثقافي، وذلك بما يشبه ما حدث في أوروبا حين أدت حركة الإصلاح الديني الى إعادة إنتاج الخطاب الديني على نحو أفسح المجال للرأسمالية، صانعة العصر الحديث، ان تنطلق نحو آفاق أوسع. الخطاب الديني السائد في السعودية طوال الفترة الماضية، وهو الخطاب السلفي، لم يبقَ قادراً بمفاهيمه المتوقفة عند زمن معين، زمن اندرس وانتهى، أن يستوعب متغيرات العصر، وتالياً هو غير قادر على استيعاب ما يجري اليوم في المملكة من تحولات في مختلف النواحي.

كان الخطاب السلفي معبِّراً عن واقع معيوش في ما مضى ربما، ولكنه يقف اليوم عائقاً أمام عملية التجديد المتسارعة في المملكة بمفاهيمه التقليدية التي لم تعد تعبر عن أي واقع، كما كانت المفاهيم الكاثوليكية لا تعبر عن حراك المجتمع الأوروبي الذي كان يحاول الخروج من أسر العصور الوسطى. تطرح السلفية نفسها على أنها الممثل الأوحد للإسلام، أو هي الإسلام الصحيح، مثل ما فعلت الكاثوليكية في أوروبا، لكن الإسلام أوسع من كل مذاهبه التي تبقى مذاهب إسلامية، ولكن أياً منها ليس هو الإسلام ذاته.

ما يجري اليوم في المملكة هو تحول جذري يحتاج من الناحية الدينية إلى خطاب جديد يستوعب ويحفّز ما يجري، كما فعلت البروتستانتية في أوروبا، بل كما فعلت الدعوة الاصلاحية للشيخ محمد بن عبد الوهاب (1703 - 1791)، في القرن الثامن عشر مع بداية صعود الدولة السعودية الأولى. وقد يستغرب القارئ هنا، كيف يمكن مقارنة حركة السلفية بالبروتستانتية والسلفية نقيض التجديد؟ ظاهرياً تبدو المقارنة متناقضة، ولكن حين التعمق أكثر يزول التناقض.

المحتوى الفكري لحركة محمد بن عبدالوهاب مناقض للتجديد، اليوم، بعدما توقفت مفاهيمها عند واقع القرن الثامن عشر في جزيرة العرب. كانت الوهابية ثورة تجديدية في الدين حينذاك، مثلما كانت البروتستانتية ثورة دينية في أوروبا، حيث أدت إلى خلق واقع اجتماعي وسياسي جديد في جزيرة العرب، وكان محتواها الفكري التوحيدي هو الأساس الإديولوجي لنشوء ذلك الواقع الجديد في القرن الثامن عشر، لذلك يمكن اطلاق حركة تجديدية وقتذاك. وكما قيل آنفاً، فإن المحتوى الفكري لدعوة محمد بن عبدالوهاب اليوم يقف عائقاً أمام أي محاولة تجديد، وهذا ديدن أي فكرة تتحول إلى تنظيم يحاول الحفاظ على ذاته من خلال الحفاظ على مفاهيمه وإن تحجّرت أو تجاوزها الزمن.

ولكن ما يفوت البعض لدى الحديث عن حركة محمد بن عبدالوهاب هو روحها، إن صح التعبير، وروح الحركة وليس مضمونها، هو التجديد، حتى أنه يطلق على الشيخ محمد بن عبد الوهاب لقب "الشيخ المجدد"، وهو ما يعكس روح حركته الاصلاحية الدينية، وإنشاء خطاب ديني جديد في عصره، معبراً ومحفزاً للتحولات التي كانت تشهدها الجزيرة آنذاك. لذلك فإنه يمكن القول إن ما يجري في السعودية اليوم لا يتناقض مع روح الحركة وهو التجديد، وإن تناقض مع المضمون الفكري لدعوة الشيخ في القرن الثامن عشر.

لذلك حين يُقال إن الشرعية السياسية للدولة السعودية تستند الى الدعوة الإصلاحية الدينية للشيخ محمد بن عبد الوهاب، فإن ذلك يعني أنها تستند الى منهج التجديد، وليس بالضرورة الى فكر الشيخ وفهمه للدين، المرتبط بواقع ذلك الزمان، وما يجري في السعودية اليوم لا يخرج عن ذلك المنهج، أي منهج التجديد. بل واتساقاً مع هذا المنهج نحن بحاجة الى خطاب ديني يعكس واقع اليوم ويستوعبه، بعيداً من القوالب الجامدة والمفاهيم التي تعبّر عن واقع مضى، وأيام لم تعد هي الأيام.

في حديث نبوي صحيح، يقول نبي الإسلام الرسول محمد: " يبعث الله على رأس كل مائة عام من يجدد لهذه الأمة امر دينها". هذ الحديث الشريف يؤكد أن التجديد أمر ضروري، وأن الدين ثابت ولكن مفاهيمه بحاجة الى إعادة إنتاج من خلال إعادة الفهم والتفسير، فأحوال الناس في تغيّر مستمر، وهذا التغيّر بحاجة الى إعادة فهم من خلال تغيُّر الخطاب الديني من حين إلى آخر، وهذا ما أرجو ان يحدث في المملكة من أجل ان تؤتي التحولات أُكُلها، وكان الله في العون.

  

المزيد من آراء