ملخص
هل خسرت الولايات الأميركية الحس الدبلوماسي الواقعي برحيل من جسّد سياستها الخارجية لمدة أعوام طويلة؟
تبدو المشهدية اليوم وكأنها مناسبة جداً، لا بل شاعرية إلى حدّ ما. إذ إن هنري كيسنجر، الرجل الذي جسّد لفترة طويلة السياسة الخارجية الأميركية، يُتوفَّى عن عمر مئة سنة والعالم يتخبط في نزاع يثبت بطرق كثيرة تراجع القدرة الدبلوماسية الأميركية.
تزامن مسار حياة هنري كيسنجر، بدءاً من الخدمة في الجيش الأميركي وهو لاجئ جاء من ألمانيا النازية، ومروراً بدوره الرئيسي كوزير للخارجية خلال انفتاح الرئيس نيكسون على الصين، ومساهمته في محادثات باريس التي أنهت حرب فيتنام، ودوره في التفاوض على تسوية لحرب يوم الغفران عام 1973 كرست أول سلام دائم بين إسرائيل والبلدان العربية المحيطة بها – مع بروز الولايات المتحدة إذ أصبحت القوة العظمى المهيمنة، ومن ثم الوحيدة، على خلفية الحرب الباردة.
لقد أصبح كيسنجر شخصية مهيمنة، من خلال خطاباته وكتاباته، ومن خلال نصائحه التي واصل الرؤساء التماسها، ومن خلال طول عمره الكبير، إلى درجة يصعب معها تصديق أن حياته المهنية الحكومية بدأت حقاً بعد أزمة الصواريخ الكوبية وانتهت عام 1977، قبل فترة طويلة من سقوط جدار برلين وانهيار الاتحاد السوفياتي. حين لم يكن ناشطاً في الدبلوماسية عند الخطوط الأمامية، كان صوته لا يزال مسموعاً وصمد نفوذه.
كان لديه ما يقوله عن الحرب التي تلت غزو روسيا لأوكرانيا – شيئان، في الواقع. كان موقفه الأول يتلخص في نظرة قاتمة إلى مطالب أوكرانيا وبعض من حلفائها الغربيين حول وجوب التحاقها بحلف شمال الأطلسي، معتبراً أن العلاقات المتنامية بين الحلف وأوكرانيا منذ عام 2014 كانت قد أسهمت في النزاع. وتمثّل موقفه الثاني في دعم طلب أوكرانيا الانتساب إلى الحلف، فهو جادل بأن ذلك هو الطريقة الوحيدة التي يمكن من خلالها ضمان أمن أوكرانيا.
وفي يونيو (حزيران) الماضي، قبل أقل من ستة أشهر من وفاته، كما تبين، ذهب إلى بكين استجابة إلى دعوة شخصية وجهها إليه الرئيس شي جينبينغ. يمكن تقديم ذلك جزئياً كاعتراف متأخر بالذكرى الخمسين لزيارة نيكسون، التي مهدت الطريق لها دبلوماسية كيسنجر السرية. لكن زيارة كيسنجر كانت بالتأكيد أكثر بقليل من حجة لبكين لكي تحاول جس بعض النبض الأميركي في وقت تتزايد المنافسة والتوتر حيث قد تبدو القنوات الدبلوماسية الرسمية محكومة بالفشل.
من منظور اليوم، وربما أيضاً من المنظور الأطول للتاريخ، سيُذكَر كيسنجر كواقعي متشدد على صعيد السياسة الخارجية، والأهم، كواقعي متشدد يمثل البلاد ذات القوة الأكبر والأطول باعاً في العالم، عسكرياً واقتصادياً معاً.
قد يصعب اليوم تقدير الانفتاح على الصين، لكن الخطوة مثلت قلباً كاملاً للسياسة الأميركية إزاء الصين – أو بدلاً من ذلك قلباً كاملاً لغياب أي سياسة أميركية إزاء الصين – وهو موقف لم يكن قد تبدل منذ استولى شيوعيو ماو تسي تونغ على السلطة هناك عام 1949. كانت خطوة دراماتيكية، نبعت من الإقرار بأن الصين كبلد منغلق قد تشكل خطراً أكبر مقارنة بها في حال العثور على طريقة للتحدث إليها بما يتجاوز الانقسام الأيديولوجي العميق.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وعكست جهود كيسنجر الدورية لإنهاء حرب فيتنام أساساً منطقياً مماثلاً، اختلف كثيراً عن النهج الشديد الأيديولوجية للمؤمنين المتشددين بالحرب الباردة. لم تستبعد واقعيته فائدة الحروب بالوكالة، مثل تلك التي كانت تدور رحاها في أميركا الوسطى وأجزاء من أفريقيا، وكان يمكن أن تستدعي اتهامات بعدم الاتساق، ذلك أن المصالح الوطنية للولايات المتحدة – كما كانت تُرَى من واشنطن – كانت لها الأسبقية على محاربة الشيوعية بأي ثمن.
وتردد صدى هذا النوع من الواقعية في وقت لاحق في انفتاح رونالد ريغان على ميخائيل غورباتشيف في روسيا، إذ استبدلت واشنطن – بين ليلة وضحاها تقريباً – بتسمية روسيا باسم "إمبراطورية الشر" العبارة الرائجة "ثق، لكن تحقق" التي وسمت نهج الحد من التسلح وغير ذلك كثير.
وراء واقعية كيسنجر في السياسة الخارجية كانت تكمن الأهمية التي علقها على فهم كيف يفكر الطرف الآخر وكيف يبدو العالم من مكان آخر – أو محاولة اكتشاف ذلك. قد يجادل البعض بأن ذلك جانب من جوانب فن الدبلوماسية يختفي إلى حد ما منذ خرجت الولايات المتحدة، والغرب عموماً، من الحرب الباردة منتصرين. لقد انتصر الأسلوب الغربي وخسرت الشيوعية: لقد انتهت المبارزة الأيديولوجية التي خِيضَت.
لكن هذا لم يعنِ أي تلاقٍ جديد للأفكار – أو ليس لوقت طويل إذا حصل. وبقدر ما احتلت المصالح القومية يوماً المرتبة الثانية بعد الأيديولوجيات المتنافسة، عادت هذه المصالح القومية إلى البروز الآن – كما يتضح جداً من النزاع الروسي- الأوكراني. لكن حتى وقت قريب، بدا أن جهوداً أقل كانت تُبذَل في محاولة فهم هذه الفوارق مقارنة بالفترة التي كان فيها نفوذ كيسنجر في ذروته. وباتت الواقعية الآن مجرد مدرسة من مدارس السياسة الخارجية.
من الأسباب المحتملة ربما التفوق التالي الذي حققه في السياسة الخارجية الأميركية المؤمنون بالحرب الباردة. في حين يمكن القول إن نظرة كيسنجر إلى العالم كانت قد تشكلت في أعقاب الحرب العالمية الثانية مباشرة، وعكست إرثه الألماني واليهودي، كان من خلفوه، مثل زبيغنيو بريجينسكي ومادلين أولبرايت، أصغر سناً منه بقليل وذوي خلفية تعود إلى ما بات يُعرَف باسم "الأمم الأسيرة" في أوروبا الوسطى والشرقية.
من الصعب قياس إلى أي مدى أسهم هذا في التصورات السلبية للغاية عن روسيا في الولايات المتحدة، حتى بعد انهيار الشيوعية – وبالتالي في الصعوبات التي ينطوي عليها أي انفتاح دبلوماسي أميركي على روسيا – لكنه صنع نهجاً مختلفاً تماماً عن نهج كيسنجر، وأتباعه الذين جادلوا لمصلحة فهم أفضل لما يبدو عليه العالم من موسكو.
ومع ذلك، قد يكمن الفارق الأكبر بين سنوات هيمنة كيسنجر والآن في قدرة الولايات المتحدة، وحتى إرادتها، على صعيد تشكيل العالم البعيد جداً من حدودها. صحيح أن الولايات المتحدة "خسرت" فيتنام؛ لكنها بحلول ذلك الوقت، كانت تتعامل مع الصين والاتحاد السوفياتي؛ هي قوى عظمى كلها، ومع انهيار الاتحاد السوفياتي، كانت الولايات المتحدة لا تواجه نظيراً أو تحدياً على المسرح العالمي. وحتى مع التراجعات في العراق وأفغانستان، إن لم تكن هزائم فعلية، ظلت الولايات المتحدة بارزة.
بيد أن الحرب في أوكرانيا وهجوم "حماس" على الإسرائيليين – ورد إسرائيل عليه – كانا سبباً في التشكيك في مدى قوة الولايات المتحدة وفاعليتها. ليس من الواضح ما إذا كانت الولايات المتحدة مستعدة لمواجهة روسيا مباشرة لتحقيق النصر لأوكرانيا أو قادرة على ذلك، وقد تبدأ إرادة قائمة كهذه في التراجع في عام انتخابي. كذلك لم تتمكن الولايات المتحدة من حشد العديد من البلدان خارج الغرب لمعارضة روسيا في محافل دولية، مثل الأمم المتحدة.
يمكن رؤية شيء مماثل مع إسرائيل في شأن غزة، على رغم الفظائع الوحشية التي ارتكبتها "حماس" في 7 أكتوبر (تشرين الأول). تضطر الولايات المتحدة إلى التنازل عن دورها الدبلوماسي التقليدي لقطر. لم تعد أوامر الولايات المتحدة تنجح كما كانت تنجح من قبل؛ تتحرك الصين للقيام بدور دبلوماسي أوسع، وتتحدى بلدان ما أصبح يُعرَف باسم "الجنوب العالمي" ما تعتبره معايير مزدوجة في شأن مسائل مختلفة مثل إقامة دولة فلسطينية وتغير المناخ.
إنه السياسي الواقعي العالمي العظيم. يغادر كيسنجر الساحة فيما العالم يمر بحالة من الغليان الدبلوماسي. ويبقى سؤال معلق: هل باتت الولايات المتحدة الآن أقل قدرة على إدارة العالم لأن بلداناً أخرى، بما في ذلك الصين، تصبح أكثر حزماً، أو لأن الولايات المتحدة، جزئياً على الأقل، تخسر في شكل متزايد لمستها الدبلوماسية الواقعية؟
© The Independent