لم يعد التأثير حبيس النجاح الفعلي أو حكراً على التميز الحقيقي أو رهناً للإبداع الخاضع للقياس. وولت ودبرت عهود وأزمنة كان الصغار فيها يتعلقون فقط ببطل خارق في فيلم كارتون أو لاعب موهوب في فريق مشهور أو نجم بازغ في سماء الفن. صار التأثير منتجاً من منتجات الشبكة العنبكوتية، وأصبح في الإمكان صناعة الأبطال وتوجيه قطاع من الرأي أو الذوق العام عبر وجود مستمر وظهور مدروس ومحتوى فريد يملأ فراغات معرفية أو ترفيهية أو تجارية أو سياسية أو تعليمية أو ثقافية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ثقافة القدوة
ثقافة القدوة والمثل الأعلى والنماذج التي تحتذى تجد نفسها على المحك في نهاية العقد الثاني من الألفية الثالثة. الأبطال الخارقون ومشاهير الفن والإعلام والسياسة والثقافة وحتى أيقونات الدين والتدين والمتدينين كما عرفهم العالم على مدار قرون تتم الإطاحة بهم عبر منصات التواصل الاجتماعي بينما نتحدث. صناعة التأثير والتحكم في مقدار ونوعية وتوجه التأثر صارت أدوات يتقنها البعض دون معلم أو موجه أو مقرر عبر منصات التواصل الاجتماعي، وهو ما يجعل منهم "مؤثرين".
ظهور "المؤثرين" الأوّل كان كمتحدثين في مؤتمرات عن الإعلام الجديد وقوة التأثير، ولم تكن غالبية الحضور تعي نوعية هذه الوظيفة أو كينونتها. قبل نحو أربع سنوات، وفي أحد المنتديات العربية السنوية المخصصة لمناقشة قضايا الإعلام، اصطف المتحدثون على المنصة. أستاذ الإعلام الستيني مال على ميسرة الجلسة وسألها عن طبيعة عمل المتحدث الجالس إلى جواره: "مكتوب أنه "مؤثر". فهل هذه مهنة أم صفة أم ماذا؟"
ماذا يعني "لقب" مؤثر أو مؤثرة، هو ذلك الشخص الذي تكون لديه القدرة العنكبوتية على التأثير على قرارات شراء المنتجات التي يتخذها آخرون، وذلك بفعل معرفة لا يمتكلها سواه، أو مكانة يحظى بها بين جمهوره، أو قدرته في التأثير على متابعيه ومعجبيه. وقد يكون المؤثر هو الشخص الذي يحظى بمتابعين بسبب معلوماته أو حديثه عن مجال أو قضية أو تخصص يهمهم. ويختلف حجم المتابعين باختلاف حجم القضية أو التخصص.
أحمد وزينب
وعلى الرغم من عدم وجود تخصص، أو الالتفات لقضية ما، أو حتى ثراء الأفكار والمعلومات فإن المؤثرين الزوجين أحمد وزينب سطع نجمهما وذاع صيتهما وجذبا اهتمام الجميع بمن فيهم غير العالمين ببواطن أمور بمواقع التواصل الاجتماعي. ببساطة صارت سيرتهما "على كل لسان". لماذا؟ لأنهما ظهرا في فيديو وهما يعنفان ابنتهما حديثة الولادة. وبدأت قصة المؤثرين أحمد وزينب قبل سنوات قليلة بقيامهما بتصوير تفاصيل حياتهما اليومية في مقاطع فيديو وتحميلها على "يوتيوب". الفيديوهات الشبيهة ببرامج الواقع الافتراضي حازت نسبا مرتفعة من المشاهدة، وتمكن بعضها من عمل "ترند" بسبب محتواه المثير للجدل أو الضحك، وهو ما يعني تمكن الزوجين من جني أرباح مادية بفعل نسب المشاهدة المرتفعة.
وتابع مريدو أحمد وزينب تفاصيلهما الدقيقة بما في ذلك ولادة ابنتهما وخروجها إلى الحياة في غرفة العمليات. إلى هنا، وبدا الأمر مغلقاً على منصات التواصل الاجتماعي وروادها بين مؤيد للزوجين المؤثرين ومعارض لما يفعلان سواء لأسباب تتعلق بالثقافة المتزمتة التي لا تسم بتعريض الزوجة للفضاء العام، أو لضحالة المحتوى وتفاهته.
لكن قبل أيام، انتشر فيديو محققاً نسب مشاهدة بالغة الارتفاع يحوي ما صنفه البعض باعتباره إساءة استغلال الرضيعة وتعريضها للخطر ودفعها للبكاء. وبادر عدد من رواد ومتابعي الزوجين بالاتصال بخط نجدة الطفل 16000 التابع للمجلس القومي للطفولة والأمومة، للإبلاغ عما جرى.
أمين عام المجلس الدكتورة عزة العشماوي قالت، "إن المجلس استجاب للبلاغات وحلل محتوى المقاطع المشار إليها، وتأكد أن الزوجين كانا يضربان الصغيرة لتبكي بغرض تحقيق نسب مشاهدة مرتفعة وجني الأرباح"، مشيرة إلى "أن محتوى المقاطع يخضع للمادة 291 من قانون العقوبات والمتضمنة عقوبة الاستغلال التجاري للتربح والكسب".
الكسب المادي وتحقيق الأرباح مسألة مقبولة، ومعمول بها، ولا غبار عليها، طالما تتم عبر قنوات قانونية ولا تخرق قوانين. يقول اختصاصي التسوق الإلكتروني ومدير المبيعات في إحدى شركات التسوق العنكبوتي أحمد ماهر، "إن المؤثرين والمؤثرات على مواقع التواصل الاجتماعي لديهم القدرة للسيطرة على لوجيستيات العلامات التجارية والتأثير في قرارات الشراء من قبل المستهلكين". يضيف: "في السنوات القليلة الماضية، بدأ التجار وأصحاب المحال يجدون أنفسهم في موقف صعب تسويقياً. فالإعلانات على شاشات التلفزيون والمذياع وفي الصحف تفقد متابعيها، لا سيما الأعمار الأكثر إقبالاً على الشراء، ناهيك عن أسعار هذه الإعلانات المرتفعة جدا. وحتى المواقع الإلكترونية والمنصات الاجتماعية بدأت تخضع لعمليات تنقية من الإعلانات المزعجة، وهو ما زاد من صعوبة الوضع التسويقي، لذلك ظهر المؤثرون والمؤثرات ليملأوا فراغاً تسويقياً وإعلانياً كبيراً، لا سيما بين الشباب والمراهقين الذين لا يقنعون بالإعلانات التقليدية، وتعجبهم طرق التسويق المبتكرة، التي تمكنهم هم أنفسهم من أن يكونوا رواداً ومبدعين فيها".
التسويق عبر المؤثرين
وبحسب تقرير أجرته شركة "إل تو" الأميركية للتسويق بالتعاون مع وكالة تسويق المؤثرين "ميدياكيكس"، "فإن حجم سوق التسويق عبر المؤثرين على "إنستغرام" وحدها يبلغ نحو بليون دولار أميركي في عام 2017، مع توقعات أن يصل إلى خمسة بلايين دولار أميركي في عام 2020".
المؤثرون والمؤثرات على الساحة العربية يزيدون وينقصون يومياً. منهم المعروف جداً، ومنهم المنتشر على نطاقات ضيقة بحسب تخصصه، ومنهم من يجاهد ويعافر من أجل الانتشار وتكوين قاعدة متابعين تحقق له مكاسب مادية واجتماعية ونفسية.
من وجهة نظر نفسية، يشير المدير التنفيذي لمنتدى الإسكندرية للإعلام والباحث في مجال الإعلام والتكنولوحيا أحمد عصمت إلى "أن جزءاً من منظومة المؤثرين يدق على وتر الجانب الإنساني الطبيعي المحب للظهور والراغب في الشهرة وتحقيق المجد". الجانب النفسي ذاته تشير إليه أستاذة علم النفس الدكتورة مي عطا التي تقول "إن المؤثرين والمؤثرات صرعة خطيرة رغم هالات الإثارة والجاذبية التي تحيط بها. هؤلاء يقدمون صوراً أو مواقف أو حالات أقرب ما تكون إلى الخيال أو الافتراض. والغالبية المطلقة من جمهورهم شباب ومراهقون في مقتبل العمر يسهل التأثير عليهم، وهو تأثير دون رقابة أو متابعة أو تصحيح أو تقويم. المتابعون يعتبرون المؤثر نموذجاً يحتذى، أو مثلاً أعلى في عالمه الافتراضي الذي غالباً يكون مغلقاً عليه أو على أصدقائه فقط. يقتدي بهم دون أن يكون على يقين أن المقتدى بهم يتصرفون أو يتكلمون أو يعيشون بشكل صحي وصحيح. من جهة أخرى، ينجذب المتابعون لأسلوب حياة المؤثر أو المؤثرة، لا سيما أولئك الذين يحققون أرباحاً مادية من عملهم، ويعتقدون أن في إمكانهم أن يفعلوا مثلما يفعل مثلهم الأعلى أملاً في أسلوب الحياة ذاته والمكاسب نفسها، وهو ما لا يتحقق إلا نادراً، ما قد يدفع إلى الإحباط والاكتئاب. الباحثون عن حياة سينييه هذه الأيام كثيرون". (وتعني كلمة سينييه سلعة من ملابس أو أحذية أو أدوات طبخ أو أكل أو ما شابه تحمل توقيع أحد المشاهير).
يقول عصمت "إن فكرة المؤثرين على مواقع التواصل الاجتماعي ليست جديدة على الإطلاق. ودائماً أتذكر مشهد الفنان الكبير عادل إمام في مسرحية (الزعيم) وهو يسأل زميله زميله الذي اتهمه بتهشيم الأطباق السينييه الموقعة من نابليون: (نابليون بتاع الحملة الفرنسية؟) فرد: نعم، فقال إمام مستنكراً: "يعني نابليون ساب الجيوش والممالك وقعد يوقع أطباق؟)، ويضيف موضحاً "أن فكرة الاستعانة بأشخاص مشهورين والاستخدام التجاري لهم قديمة، ولكنها كانت تقتصر على فئات وطبقات بعينها في المجتمع، ولم تكن بهذا الانتشار الذي سهلته مواقع التواصل الاجتماعي".
ويوضح أنه مع انتشار الإعلام الجديد ولدت فكرة التسويق عبر المؤثرين، وهو ما يعود إلى عام 2010 وقتما وصلت "أمازون" إلى اتفاق مع "فيسبوك" ليتمكن المستخدمون من رؤية ما يشتريه أصدقاؤهم "أون لاين". "ويبقى الجانب الأكبر من المؤثرين في هذا الشأن رافعين راية البيزنس والربح.
ربح من نوع آخر يهدف إليه مؤثرون يوجهون صورهم ومقاطعهم المصورة وتدويناتهم على مواقع التواصل الاجتماعي صوب التأثير السياسي أو الاجتماعي. وعلى الرغم من أن تأثير هؤلاء بدأ قبل زملائهم من المنتسبين لقطاع الأرباح والبيزنس، فإن منهم من آثر السلامة واختفى، أو تم تصعيده إلى شاشات الإعلام التقليدي، ثم اختفى أيضاً، أو يستمر فيما يفعل متبعاً طريقة الكر والفر.
فرار أحد أشهر المؤثرين في نطاق السياسة هو باسم يوسف الذي صعد سلم التأثير السياسي والمجد المجتمعي من بوابة "يوتيوب" حيث كان يقدم برنامجاً عبر "يوتيوب" وقت ثورة يناير (كانون الثاني) 2011 للسخرية من الفلول ومحاولات عودتهم والمشهد السياسي المصري في قالب كوميدي شديد الحدة. يوسف الذي شق طريقه من غياهب "يوتيوب" حيث كان ضمن المؤثرين سياسياً إلى آفاق الشاشة الفضية حيث أصبح من أقوى المؤثرين سياسياً فعلياً. وبعد التأثير، اختفى من على الساحة ليعود عبر برنامج عنكبوتي في شهر رمضان الماضي ليؤثر بالراغبين في تغيير طريقة الأكل والتحول صوب الحياة النباتية، بعدما تم إيقاف برنامجه اللاذع والساخر من النظام الحالي.
يقول عصمت "إن يوسف من أهم المؤثرين بغض النظر عن الاتفاق أو الاختلاف مع محتوى ما يقدمه، وبالمناسبة فإن الاختلاف حول المحتوى بين المتلقين هو نفسه نوع من التأثير".
التأثير لا يستوقف المتأثرين
أنواع التأثير ودرجاته تكاد لا تستوقف المتأثرين. الغالبية قانعة بدورها كمتأثرة غارقة في تأثرها أو مفكرة في أن تصبح مؤثرة هي الأخرى. ويتوقع عصمت "أن يستمر هذا النوع من أنواع الـتأثير إلى أن تبدأ في التضاؤل مفسحة المجال لغيرها لتبتدع سبلا تسويقية وتعريفية مختلفة". هذا التوقع يؤدي إلى رؤية أخرى يقدمها عصمت، وهي "أن المؤثر الذكي عليه أن يعي أنه لن يحتفظ بقوته وقدرته على التأثير للأبد، بل سيأتي غيره ليمحو اسمه تدريجياً ويبرز اسمه بين المتابعين، وهلم جرا".
بقيت الإشارة إلى أن كلمة "المؤثر" تحولت بالفعل إلى مهنة قد تدر ربحاً وفيراً، لكنه موقت لأنها مهنة قصيرة العمر، سواء بحكم طبيعة التسويق للمنتجات عبر وجوه يتوجب تغييرها وتجديدها أو بحكم خطورة التأثير السياسي وحساسيته الشديدة في سنوات ما بعد ما يسمى بـ"الربيع العربي".
مجلة "تايم" الأميركية نشرت قائمة هذا العام للأكثر تأثيراً في العالم عبر نشاطهم على مواقع التواصل الاجتماعي. وضمت القائمة أسماء مثل مغني الراب الأميركي ليل ناس إكس الذي يشتهر بتبني memes، أي الشعارات من صور وروابط وفيديوهات وصور وهاشتاغات وغيرها على تويتر، بالإضافة إلى أغنياته ذات المعاني والمغازي الكثيرة. وهناك كذلك المطربة أريانا غراند. وتحوي القائمة كذلك مجموعة المتظاهرين المدرسيين التي بدأت بمراهقة سويدية غاضبة من رد فعل الكبار البارد تجاه القضايا البيئية الحرجة، وتحولت إلى حركة مدرسية ضخمة في السويد. وبالطبع ضمن الرئيس الأميركي دونالد ترمب لنفسه مكانة متقدمة في قائمة أكثر الأشخاص تأثيراً في العالم عبر مواقع التواصل الاجتماعي.
دبلوم المؤثرين
وربما يعبر برنامج "دبلوم المؤثرين" الذين ينطلق في دبي بعد أيام بالشراكة بين "نادي دبي للصحافة" وكلية محمد بن راشد للإعلام عن أهمية "المؤثرين" ومكانتهم في البيزنس وربما السياسة. البرنامح يهدف إلى البحث في أشكال مختلفة وأكثر بناءة بين المؤثرين والمتباعين، وسبل تقييم آثار هذه العلاقة وتطوير قدرات متابعي مواقع التواصل الاجتماعي العرب، وذلك ضمن منهج أكاديمي معترف به من قبل وزارة التربية والتعليم الإماراتية.
وفي مصر يمكن القول "إن قائمة المؤثرين الأوسع انتشاراً تحوي "الدحيح" أو أحمد الغندور الذي يقدم فيديوهات بغرض تبسيط العلوم في قالب شيق وضاحك، وشريف فايد المسافر دائماً والموثق لسفره على الشبكة العنكبوتية، وأحمد سمير صاحب قناة "إيجيكولوجي" على يوتيوب، الذي ترك الهندسة التي درسها لينير ظلام العقول عبر مقاطع يستعرض فيها حقيقة التاريخ ومعلومات الجغرافيا ومحتوى الفلسفة بطريقة بسيطة وسلسة، وغيرهم كثيرون.
