تخيم مخاوف تصاعد العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة إلى صراع إقليمي بظلالها على آفاق الاقتصاد العالمي، مهددة بإضعاف النمو وإعادة إشعال ارتفاع أسعار الطاقة والغذاء.
وتعليقاً على ذلك قال كبير الاقتصاديين في "إيه واي-بارثينون" غريغوري داكو، في تصريحات إلى صحيفة "نيويورك تايمز"، إن "السيناريو الأسوأ الذي يتسع فيه نطاق الحرب قد يرفع أسعار النفط إلى 150 دولاراً للبرميل من 85 دولاراً حالياً، محذراً من أن "العواقب الاقتصادية العالمية لهذا السيناريو وخيمة".
وأشار داكو إلى المخاوف من حدوث ركود معتدل وانخفاض أسعار الأسهم وخسارة الاقتصاد العالمي نحو تريليوني دولار أميركي، لافتاً إلى أن "الدول الغنية والفقيرة بدأت للتو في التقاط أنفاسها بعد سلسلة من الصدمات الاقتصادية استمرت ثلاث سنوات، بما في ذلك جائحة كوفيد-19 والهجوم الروسي على أوكرانيا".
وتابع أن "الاقتصاد العالمي شهد تراجعاً في معدلات التضخم اللاذع واستقرار أسعار النفط وتجنب الركود المتوقع، في وقت تحذر بعض المؤسسات المالية الدولية ومستثمري القطاع الخاص من أن التعافي الهش قد يتحول إلى وضع سيئ".
من جهته قال كبير الاقتصاديين في البنك الدولي إنديرميت جيل "هذه هي المرة الأولى التي نتعرض فيها لصدمتين للطاقة في آن واحد"، مشيراً إلى تأثير الحروب في أوكرانيا والشرق الأوسط في أسعار النفط والغاز.
وأوضح أن "الزيادات في الأسعار لا تؤدي إلى تقليص القوة الشرائية للأسر والشركات فحسب، بل تتسبب أيضاً في ارتفاع كلفة إنتاج الغذاء، مما يزيد من مستويات انعدام الأمن الغذائي المرتفعة، لا سيما في البلدان النامية مثل مصر وباكستان وسريلانكا".
وتعاني الدول حالياً بالفعل مستويات مرتفعة بصورة غير عادية من الديون والاستثمارات الخاصة المتعثرة، وأبطأ انتعاش للتجارة منذ خمسة عقود، مما يجعل من الصعب عليها أن تجد طريقها للخروج من الأزمة، وجعل ارتفاع أسعار الفائدة نتيجة لجهود البنوك المركزية لترويض التضخم، ومن الصعب على الحكومات والشركات الخاصة الحصول على الائتمان وتجنب التخلف عن السداد.
وأضاف جيل "كل هذه الأشياء تحدث في الوقت نفسه"، مؤكداً "نحن في واحدة من أكثر المراحل هشاشة بالنسبة إلى الاقتصاد العالمي".
يعكس تقييم جيل تقييمات المحللين الآخرين، ففي الشهر الماضي قال الرئيس التنفيذي لبنك "جيه بي مورغان تشيس" جيمي ديمون إن "هذا الوقت قد يكون أخطر وقت يشهده العالم منذ عقود من الزمن"، ووصف الصراع في غزة بأنه "الأمر الأسمى والأكثر أهمية بالنسبة إلى العالم الغربي".
الأدوات النقدية والمالية أقل فاعلية
وأشار إلى أن المشكلات الاقتصادية الأخيرة تتغذى على الصراعات الجيوسياسية المتعمقة التي تمتد عبر القارات، إضافة إلى التوترات القائمة بين الولايات المتحدة والصين في شأن نقل التكنولوجيا والأمن التي لا تؤدي إلا إلى تعقيد جهود العمل معاً لحل مشكلات أخرى مثل تغير المناخ أو تخفيف الديون أو الصراعات الإقليمية العنيفة. كما تعني الانشغالات السياسية المهيمنة أيضاً أن الأدوات النقدية والمالية التقليدية مثل تعديل أسعار الفائدة أو الإنفاق الحكومي قد تكون أقل فعالية.
وأدى القتال الوحشي بين إسرائيل و"حماس" إلى مقتل آلاف من المدنيين وجلب البؤس المؤلم على الجانبين، ومع ذلك إذا ظل الصراع تحت السيطرة فمن المرجح أن تظل التأثيرات المتتالية في الاقتصاد العالمي محدودة، كما يتفق معظم المحللين.
في غضون ذلك، قال رئيس الاحتياط الفيدرالي (البنك المركزي الأميركي) جيروم باول، إنه "ليس من الواضح في هذه المرحلة أن الصراع في الشرق الأوسط يسير على الطريق الصحيح لإحداث آثار اقتصادية كبيرة في الولايات المتحدة"، لكنه استدرك "هذا لا يعني أنه ليس مهماً للغاية".
خفض المعروض النفطي ومخاوف الركود التضخمي
وعن تداعيات احتمالات توسع الحرب القائمة على سوق النفط العالمي أشارت صحيفة "نيويورك تايمز"، إلى عدم سيطرة منتجي النفط في الشرق الأوسط على السوق اليوم كما فعلوا في السبعينيات، عندما خفضت الدول العربية الإنتاج بصورة كبيرة وفرضت حظراً على الولايات المتحدة وبعض الدول الأخرى بعد أن هاجم تحالف بقيادة مصر وسوريا إسرائيل. وأضافت أنه "في الوقت الحالي تعد الولايات المتحدة أكبر منتج للنفط في العالم، وتشكل مصادر الطاقة البديلة والمتجددة جزءاً أكبر قليلاً من مزيج الطاقة في العالم".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
من جهته، قال مدير مركز سياسة الطاقة العالمية في جامعة كولومبيا جيسون بوردوف إلى الصحيفة إنه "وضع متقلب للغاية وغير مؤكد ومخيف"، مستدركاً "لكن هناك اعتراف بين معظم الأطراف، الولايات المتحدة وأوروبا ودول الخليج وإيران، بأنه ليس من مصلحة أحد أن يتوسع هذا الصراع بشكل كبير خارج إسرائيل وغزة". وأضاف بوردوف أن "الأخطاء وسوء التواصل وسوء الفهم يمكن أن تدفع الدول إلى التصعيد حتى لو لم ترغب في ذلك".
وحذرت الصحيفة من أن أي انخفاض كبير ومستدام في المعروض العالمي من النفط أياً كانت أسبابه، يمكن أن يؤدي إلى إبطاء النمو العالمي وتأجيج التضخم، وهو مزيج يعرف باسم "الركود التضخمي".
عدم اليقين المزاج السائد
ولا يختلف اثنان على أن المزاج السائد اليوم هو عدم اليقين، الذي يؤثر في قرارات الاستثمار ويمكن أن يثني الشركات عن التوسع في الأسواق الناشئة، إذ ارتفعت كلف الاقتراض إلى عنان السماء، ومن المتوقع أن تواجه الشركات في عديد من البلدان، من البرازيل إلى الصين، مشكلات في إعادة تمويل ديونها.
وفي الوقت نفسه، شهدت الأسواق الناشئة مثل مصر ونيجيريا والمجر بعضاً من أسوأ الندبات الناجمة عن الوباء، وفقاً لشركة "أكسفورد إيكونوميكس" الاستشارية، ما أدى إلى نمو أقل مما كان متوقعاً.
ومن الممكن أن يؤدي الصراع في الشرق الأوسط وكذلك الضغوط الاقتصادية إلى زيادة تدفق المهاجرين المتجهين إلى أوروبا من تلك المنطقة وشمال أفريقيا.
وقالت الصحيفة إن "الاتحاد الأوروبي الذي يتأرجح على حافة الركود، يخوض اليوم مفاوضات مع مصر في شأن زيادة المساعدات المالية والسيطرة على الهجرة".
في تلك الأثناء، تعاني الصين، التي تحصل على نصف وارداتها النفطية من الخليج، انهياراً في سوق العقارات محققة أقل معدل نمو لها منذ ما يقارب من ثلاثة عقود.
وعلى النقيض من ذلك أربكت الولايات المتحدة المتنبئين بنموها القوي، إذ نما اقتصادها في الفترة من يوليو (تموز) إلى سبتمبر (أيلول) الماضيين، بمعدل سنوي يقل قليلاً عن خمسة في المئة، مدعوماً بتباطؤ التضخم والمدخرات المخزنة والتوظيف القوي.
كذلك تسير الهند، بدعم من المستهلكين المتحمسين، على الطريق الصحيح لتحقيق أداء جيد بعد ذلك، مع نمو يقدر بنحو 6.3 في المئة.
وكانت منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا ذات التوقعات الأكثر كآبة، إذ إنه من المتوقع أن ينخفض إجمالي الناتج المحلي لها هذا العام بنسبة 3.3 في المئة، حتى قبل اندلاع القتال في إسرائيل وغزة، وتعليقاً على ذلك قال أم إيهان كوس، الذي يشرف على تقرير الآفاق الاقتصادية العالمية السنوي الذي يصدره البنك الدولي، إن "الدخل في المنطقة لم يرتفع منذ عام 2014، عندما انهارت أسعار النفط"، قائلاً "شهدت منطقة جنوب الصحراء الكبرى في أفريقيا بالفعل عقداً ضائعاً"، مضيفاً "الآن نفكر في عقد ضائع آخر".