اشتكى المسؤولون الأميركيون، الذين يرافقون الرئيس الأميركي دونالد ترمب إلى قمة مجموعة السبع في بياريتس بفرنسا، من تحويل الفرنسيين اهتمام القمة إلى ما وصفوه "قضية هامشية" هي مواجهة التغير المناخي.
وذكر أكثر من مسؤول لمراسلي وسائل الإعلام الأميركية، الذين يغطون البيت الأبيض، أن الفرنسيين لم يتعاونوا معهم في تحديد أجندة القمة مسبقاً، وحرصوا على قضايا "كماليَّة" مثل المساواة والمناخ والتنمية في أفريقيا.
وأعرب هؤلاء المسؤولون عن استيائهم من أن الاهتمام بتلك القضايا جاء على حساب مناقشة مشكلات الاقتصاد العالمي والتجارة الدولية وقضايا الأمن.
وبالطبع، يبدو ذلك مفهوماً في ضوء خروج الرئيس ترمب من اتفاق مكافحة التغير المناخي المعروف بوثيقة باريس الموقعة عام 2016. وليس ذلك الاتفاق الدولي الوحيد الذي سحب ترمب أميركا منه منذ توليه الرئاسة مطلع 2017، لكن قضية المناخ اكتسبت أهمية كبرى في الفترة الأخيرة مع موجات الحرارة غير المسبوقة في أوروبا، وقبلها زيادة عنفوان الأعاصير والفيضانات في أميركا وغيرها.
وشكَّلت حرائق غابات الأمازون التي يُتهم الرئيس البرازيلي جايير بولسونارو بالمسؤولية عن اتساعها وعدم إخمادها، ما يهدد أكبر بقعة خضراء على الأرض تُوصف بأنها "رئة العالم" لما يخرج منها من أوكسجين يعادل ثلث جو الأرض بانبعاثات ثاني وأول أوكسيد الكربون.
وشهدت فرنسا تظاهرات لأصدقاء البيئة يطالبون قمة مجموعة السبع بالعمل على وقف حرائق غابات الأمازون في البرازيل. ويصوّر المسؤولون الأميركيون موقف الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، وكأنه يريد استغلال قمة الدول الغنية الكبرى السبع لأغراض داخلية فرنسيَّة.
لكن، الواقع أن قضية المناخ لم تعد "ترفاً هامشياً" مع كل مظاهر الطبيعة، التي تنذر بكوارث لسكان الأرض ومقدراتهم الحياتية، بدءاً من تغيرات درجات الحرارة بمعدلات غير طبيعية إلى مخاطر التصحر والجفاف وارتفاع منسوب المحيطات، بل وغرق بعض الحواضر السكانية والمناطق الزراعية بالعالم.
الاقتصاد الأخضر
وبالنظر إلى أن قمة مجموعة السبع لم تعد بذات الفاعلية التي كانت عليها قبل سنوات، يمكن القول إن الفرنسيين اختاروا بنداً مهماً يمكن أن يجعل للقمة تأثيراً هو التغير المناخي ومتطلباته الاقتصادية.
أمَّا ما يتحدّث عنه الأميركيون من مشكلات الاقتصاد العالمي فليس هناك ما يمكن عمله أكثر مما تقوم به البنوك المركزية من تخفيف للسياسة النقدية، إلى جانب الإجراءات التي تستطيعها الدول التي بها سعة للتصرف لتنشيط اقتصادها.
ولعل قضية التجارة الدولية والحروب التجارية التي بدأها الرئيس الأميركي دونالد ترمب، هي فعلاً جديرة بنقاشات القمة، كما يقول الأميركيون. لكن يبدو أن الفرنسيين لم يريدوا من البداية أن تنفجر القمة، وينسحب منها ترمب مبكراً، كما فعل في قمة العام الماضي بكندا، إذ غادر بسرعة، ولم يوقّع على البيان الختامي حتى سُميت سخرية "قمة مجموعة الست".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
لهذا تقدَّمت قضية المناخ على قضية التجارة، إنما ما لا ينتبه إليه الأميركيون هو أن قضية التغير المناخي ومتطلباتها الاقتصادية يمكن أن تكون مدخلاً مهماً لتنشيط الاقتصاد العالمي وتفادي الركود الحاد أو الانكماش الشديد الذي يحذر منه كثيرون.
فمنذ توقيع دول العالم على اتفاقية باريس للمناخ 2016، تشهد اقتصادات دول العالم تحولاً قد لا يبدو ملحوظاً جداً نحو ما يسمى "الاقتصاد الأخضر"، أي الاستثمار في المشروعات التي تؤدي إلى انخفاض نسبة الانبعاثات الكربونيَّة للتقليل من عوامل التغير المناخي التي تهدد الحياة على الأرض.
وتوقّعت الوكالة الدولية للطاقة المتجددة (أيرينا) نمو قطاع الاقتصاد الأخضر بمعدل سنوي 179% ما بين عام 2018 و2020.
مشروعات واستثمارات
ربما يكون الاقتصاد الأخطر القطاع الذي به سعة توسع أكبر من أي قطاع اقتصادي حاليا، والمثير أن الولايات المتحدة صاحبة أكبر اقتصاد بالعالم، الذي تميزه مرونته وقدرته على خلق فائض سعة باستمرار لا تبادر لتكون رائدة في الاستفادة من ذلك.
وربما يرى الفرنسيون والألمان فرصاً هائلة في مشروعات الاقتصاد الأخضر، محلياً وإقليمياً وعالمياً، لذا لا يتصور اقتصار مناقشات قمة مجموعة السبع على الجانب البيئي و"المثالي" لقضية التغير المناخي. بل إن فرص النمو والتطور في هذا القطاع الجديد نسبياً تشجّع على جعله أولوية في مناقشة القضايا الاقتصاديَّة العالميَّة.
وللدلالة على ذلك، يشار إلى أنه حسب أحدث إحصاءات أيرينا وغيرها من المؤسسات الدولية يوجد 11 مليون شخص يعملون الآن في مشروعات الاقتصاد الأخضر حول العالم. وهو رقمٌ مرشحٌ للتضاعف مع زيادة الاستثمارات في هذا المجال.
ولا تقتصر المشروعات في الاقتصاد الأخضر على توليد الطاقة من مصادر متجددة قليلة أو منعدمة الانبعاثات الكربونية، بل يمتد ليشمل قطاعات عديدة مثل النقل (السيارات الكهربائية) والبناء (المساكن المستدامة) وغيرها.
وعلى سبيل المثال، تقدّر وكالة الطاقة الدولية نمو الطلب العالمي على الكهرباء في العقدين المقبلين بنحو 30%، ولتلبية هذا الطلب المتزايد على الطاقة يحتاج العالم إلى استثمارات تزيد على 10 تريليونات دولار، يتوقع أن يكون نصيب الاستثمارات في قطاع الطاقة المتجددة منها أكثر من 7 تريليونات دولار.
الصين تقود
وفي الوقت الذي يتجاهل الأميركيون قضية المناخ، وبالتالي يفوتون الفرص الاقتصادية الواعدة لقطاع الاقتصاد الأخضر الجديد، تنتهز الصين الفرصة، وتتوسع بشكل هائل في تلك المشروعات. وتضرب هنا عصفورين بحجر، فهي تستفيد اقتصادياً من هذا القطاع الواعد، وأيضاً تخفف من سمعتها السلبية كأحد أكبر الملوثين للبيئة في العالم.
لذا، تركز الخطة الخمسية الـ12 للحكومة الصينية على الاستثمار في التكنولوجيا المتقدمة، خصوصاً تكنولوجيا إنتاج الطاقة النظيفة، وعلى مدى العقدين المقبلين، ستستثمر الصين أكثر من 6 تريليونات دولار في توليد الكهرباء من مصادر منخفضة الكربون وغيرها من تكنولوجيا الطاقة النظيفة.
أدى ذلك التوجه الصيني إلى تطوير تكنولوجيا إنتاج الطاقة منخفضة الانبعاث الكربوني. استثمرت الصين أكثر من 47 مليار دولار في تكنولوجيا إنتاج ألواح الخلايا الضوئية، لتصبح رائدةً في تلك الصناعة.
كما أنها استثمرت أكثر من ذلك في صفقات مع الخارج، تتعلق كلها بالطاقة المتجددة، إذ أصبحت في مكانة متقدمة عالمياً في بناء المحطات النووية، وتبيع سيارات كهربائية بعدد أكبر مما يبيع العالم كله مجتمعاً.
وحسب وكالة الطاقة الدولية، فلدى الصين ثلث الطاقة من الرياح في العالم، وبها أربعة من أكبر منتجي توربينات الرياح العشرة في العالم، وستة من أكبر منتجي ألواح الطاقة الشمسية العشرة في العالم، ولديها ربع السعة الإنتاجية العالمية للطاقة الشمسية.
ولغرابة الأمر، يترك الأميركيون الصينيين في طريقهم للاستحواذ على نصيب الأسد من ذلك الاقتصاد الجديد، وينتبه الأوروبيون لذلك، ويحاولون زيادة حصتهم، بينما قاطرة الاقتصاد العالمي غارقة في حروب تجارية وتفكير انكفائي يغشي بصرها عن فرص هائلة للنمو.