Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاستراتيجية الحربية من عصر الإمبراطوريات وحتى نابليون

نظراً إلى تباين أشكالها وتطبيقاتها تعددت تعريفاتها وأصبح استخدامها فضفاضاً لدرجة الخلط بينها والهدف والتكتيك

أصبحت الاستراتيجية تعرف في عالم اليوم بأنها فن السيطرة على كل موارد الأمة (أن سبلاش)

ملخص

كيف تطور مفهوم الاستراتيجية عبر التاريخ انطلاقاً من الدور الذي لعبته في كل مرحلة تاريخية؟

تعد الاستراتيجية والتخطيط الاستراتيجي أحد أوجه علم الحرب الثلاثة، ومعه العمليات الاستراتيجية والتكتيك، وفي حين يعرف التكتيك بأنه فن استخدام الجنود في المعركة، تُعنى الاستراتيجية بالحرب والتأهب لها وإدارتها، فهي توصف في أضيق تعريف لها بأنها فن القيادة العسكرية، أي فن إدارة وتوجيه المعارك والحملات الحربية، ومن هنا يتضح مدى أهمية الاستراتيجية كمفهوم وتخطيط وعمليات، إذ يرجع أصل كلمة استراتيجية إلى الجذر اليوناني "استراتيجوس" ويعني العام، بينما استخدم الرائد في أبحاث النفوذ والاستراتيجيات روبرت غرين عبارة قائد الجيش أو القيادة كترجمة لها، ومع الوقت أصبحت كلمة استراتيجية تحمل مضموناً أكثر شمولية لتنتقل إلى ميدان الحرب، كذلك امتد استخدامها منذ منتصف القرن الـ19 ليشمل ميادين أخرى، لذا نظراً إلى تعدد أشكالها وتطبيقاتها تعددت تعريفاتها وأصبح استخدامها فضفاضاً وحدث خلط بينها والهدف والتكتيك وغيرهما من المصطلحات المتداولة.

معنى الاستراتيجية

ينطلق الجنرال والمؤرخ الحربي كارل فون كلاوزفيتز في تعريفه للاستراتيجية من تعريف التكتيك أولاً، فيقول إن التكتيك هو استخدام القوات العسكرية في المعركة، أما الاستراتيجية فهي نظرية استخدام هذه المعارك لتحقيق هدف الحرب، بالتالي حصر مهمة الاستراتيجية بتحقيق الهدف السياسي للحرب من خلال استخدام المعارك، من هنا يبرز الفرق بين الهدف السياسي والاستراتيجية، فعلاقة الاستراتيجية بالهدف هي علاقة الوسيلة بالغاية، بينما يعرف المؤرخ العسكري البريطاني ليدل هارت الاستراتيجية بأنها فن استخدام القوات العسكرية لتحقيق الغايات التي وضعتها القيادة السياسية.

اقرأ المزيد

وظلت الاستراتيجية حتى نهاية القرن الـ18 عبارة عن مجموعة الخدع ووسائل التضليل التي يستخدمها القائد ليضلل خصمه ويصل إلى النصر وكسب الحرب، ومع التعقيدات التي شملت الحرب والمجتمع ككل باتت الاستراتيجية تتطلب عناية بعوامل أخرى غير عسكرية مثل العوامل الاقتصادية والنفسية والمعنوية والسياسية والفنية، ومن هنا لم يعد مفهوم الاستراتيجية يقتصر على التخطيط وقت الحرب، بل تسبق الحرب دراسات طويلة، إذ أصبحت الاستراتيجية تعرف في عالم اليوم بأنها فن السيطرة على كل موارد الأمة بما في ذلك القوات المسلحة ومن ثم استخدامها كلها على أكمل صورة ممكنة.

من خلال المراجعة التاريخية تتكشف لنا الأسباب التي جعلت مفهوم الاستراتيجية يتخذ محتويات مختلفة في كل مرحلة وفي بعض الأحيان ضمن المرحلة التاريخية ذاتها، فكيف تطور مفهوم الاستراتيجية عبر التاريخ انطلاقاً من الدور الذي لعبته في كل مرحلة تاريخية؟

تطور المفهوم

مرت الاستراتيجية بثلاث مراحل رئيسة حتى نابليون بونابرت، بدءاً من عصر الإمبراطوريات والممالك القديمة عندما كانت السلطتين العسكرية والسياسية بيد الملوك والأباطرة، وكانت الجيوش تتألف من الملاك والمواطنين، فتركزت وظيفة الاستراتيجية العسكرية على حشد القوات المسلحة وتنظيمها والإعداد للحرب وتقرير ضد من توجه، إلى جانب تحديد مكان الحملة وزمانها وطريقة قيادة الجيش لتأمين التفوق على العدو مقدماً، وتلخصت الأهداف الاستراتيجية في القضاء على جيش العدو أو الاستيلاء على مدنه، أما استراتيجية العمليات فتركزت على الانتقال بكامل الجيش ككتلة واحدة من نقطة إلى نقطة في المكان بقصد الالتقاء مع الجيش المقابل في ساحة المعركة.

 

 

لكن مفهوم الاستراتيجية هذا لم يتطور أو يظل على ما هو عليه في العصور الوسطى، بل هبط ليقتصر على نطاق ضيق جداً، فلم تتجاوز الاستراتيجية تحضير القوات وتحديد وسائل النقل وهدف الحملة واختبار أساليب وأشكال الصراع المحدد، نظراً إلى طبيعة هذا العصر الذي تحكمه التجربة الإقطاعية الأوروبية والفرسان المدرعين، إذ كان قرار الحرب يعود للملك أو الأمير ليشكل جيشاً من الفرسان مقابل الأراضي التي منحهم إياها، لتغيب المناورة الاستراتيجية قبل المعركة وتقتصر الاستراتيجية على التكليف بحشد القوات وتطبيق أصول محددة، فيعين فارس على رأس تابعية من الجنود وتبدأ الحرب بقتال فارس ضد فارس أو ملك ضد ملك، بالتالي كان الملوك والفرسان يقاتلون مثل الجنود، وسميت الحرب في هذه المرحلة "المعركة بالاتفاق".

حرب الأمة كلها

كذلك في المرحلة من القرن الـ14 حتى عصر نابليون، وعلى رغم دخول البارود إلى أوروبا عن طريق العرب في القرن الـ14 لم يحصل تقدم في الفكر الاستراتيجي بما يتناسب مع التطورات الجديدة لأن الحروب بقيت تقاد بالطريقة ذاتها، حتى جاء نيكولو مكيافيللي بأفكار جديدة حول الحرب تعكس التقدم الحاصل وتطرح البذور الأولى للتفكير الاستراتيجي المعاصر في ما يتعلق بمسائل الحرب الحديثة، إذ طرح في كتابه "فن الحرب" مفهوماً جديداً يقضي بأن تشن الحرب من قبل الأمة كلها وأن يكون الهدف في المقابل تحقيق النصر من أجل مصلحة الأمة كلها، وحاول اشتقاق القواعد الأساسية للاستراتيجية السياسية، وشملت دراسته العسكرية عقد رابطة بين تفصيلات الحرب وهدفها وأيضاً بين السلطة السياسية والسلطة العسكرية.

أصبح مفهوم الاستراتيجية يعني الحرب الكلية من قبل الأمة بكاملها، لكنها بقيت في إطار النظريات ولم تتحول إلى واقع، ولم يحرز الفكر الاستراتيجي الأوروبي الذي طرحه مكيافيللي، وتبعه كل من السويدي غوستاف أدولف والبروسي فريديريك الكبير، أي تقدم خلال الـ200 عام التالية إلا في مجال تنظيم الجيش وتكوين النظريات التكتيكية.

بقيت استراتيجية العمليات في تلك المرحلة أقرب إلى ما طرحة القائد الصيني سون تسو في القرن السادس قبل الميلاد، واصفاً الاستراتيجية بأنها تتلخص في إيصال العدو إلى الهزيمة بلا معركة أو بأقل الخسائر من خلال المناورات والحرب النفسية والتخريب داخل صفوفه، فكانت مسألة تجنب المعارك إحدى السمات الاستراتيجية الأوروبية.

لكن الخطوات والمحاولات السابقة شطت نواة للقفزة التي سيحدثها نابليون في هذا المجال، بالترافق مع تطور قوى الإنتاج واندلاع الثورة الفرنسية وسقوط الإقطاع في فرنسا.

تشكيلة الرتل

اقتصرت استراتيجية العصر السابق على تجنب المعارك الكبيرة ضمن حدود دفاعية وجيوش صغيرة نسبياً، وفضلت السلطات الملكية التهديد والمناورات التكتيكية والقتال الدفاعي، إلى أن جاءت الثورة الفرنسية الكبرى وأطلقت عنان قوى اجتماعية جديدة اختارت التطور التقني بأعلى طاقاته، مما أسهم في تحطيم معاقل الملكية والإقطاعية في أوروبا، وما حدث بعد ذلك يفسره عالم الاقتصاد السياسي فريديريك إنغلز بأن الثورة الفرنسية جاءت لتكمل ما بدأته حرب الاستقلال الأميركية التي افتتحت عصراً جديداً في استراتيجية الحرب وتكتيكها بإلغاء نظام تشكيلة الخطوط، لكن في حين أعادت الثورة الأميركية اكتشاف فن المناوشة، لم يكن أسلوب المناوشات الصرف كافياً في حال الثورة الفرنسية، ومن هنا كان لا بد من اكتشاف شكل جديد يتناسب مع الكتل الكبيرة من الجنود، فتجسد هذا المطلب من خلال إيجاد تشكيلة الرتل التي أتاحت لقوات قليلة التدريب أن تتحرك بسرعة وبدرجة جيدة من النظام.

نابليون والمناورة الاستراتيجية

جاء نابليون الذي ولدت في عصره استراتيجية جديدة ضمن هذه الظروف، ليعبر عسكرياً عن كل سمات التطور الجديدة، إذ أصبحت الحرب حرب حركة ومناورات استراتيجية وحل مفهوم القرار الاستراتيجي مكان مفهوم كسب الأرض، وبدأت الاستراتيجية بلعب الدور الحاسم قبل الدخول في الحرب من خلال استراتيجية التجنيد العامة وتعبئة الأمة كلها للقتال، وولدت مفاهيم جديدة مثل خطوط العمليات والخطوط الداخلية والخطوط الخارجية وغيرها.

 

 

وابتكر نابليون سيد التكتيك والعمليات الاستراتيجية عملية فتحت إمكانات استراتيجية وتكتيكية كبيرة، إذ قسم جيوشه الضخمة إلى فرق شبه مستقلة تشكيلتها هي الرتل، وجعل كل فرقة تتألف من مختلف صنوف الأسلحة وتحت قيادة هيئة أركان مستقلة قادرة على القيام بعمليات منفردة ودخول معارك وحدها، فأعطى تقسيم الجيش بهذه الطريقة نابليون فرصة للقيام بمناورات استراتيجية مقرونة بالمرونة والسرعة، بينما بقيت جيوش خصومه تتحرك بنظام الخطوط ككتلة واحدة مفتقرة إلى السرعة والمرونة وإمكانات المناورات الاستراتيجية.

وكان نابليون في تكتيكه الكبير الذي سمي "المناورة الاستراتيجية" يحرك جيوشه من نقاط مختلفة بعد سلسلة من العمليات في النقطة التي حددها للمعركة الفاصلة، وكانت هذه المناورات تأخذ إما شكل تطويق العدو بالالتفاف حول أجنحته ومؤخرته بحركة فائقة السرعة، أو قطع خطوط مواصلاته، وأخيراً عندما يصبح العدو في وضع غير ملائم تدخل مرحلة التدمير بتشكيلات هجومية.

والأكيد أن كلاً من تطور البندقية والمدفع ومدفع الميدان إلى جانب التجنيد العام الذي أتاح تحشيد قوات كثيفة، مكنت نابليون من تقسيم الجيش إلى فرق لتسهيل حركته ومناورته والجمع بين نظام التشكيلات الموزعة للعمليات الاستراتيجية وبين التركيز المطلوب للمعركة.

تراجع العمليات الاستراتيجية

أما في القرن الـ19 الذي تميز ببزوغ الدول القومية في أوروبا والمصحوب بنهوض صناعي وتقني وعلمي شمل المجالات كلها، فترسخت السلطة البرجوازية وتطورت صناعة الأسلحة والأسلحة نفسها بخاصة المدافع والبندقية السريعة، إلى جانب تطور الطرقات ووسائط النقل، وحولت كل هذه التطورات تشكيلات المناورة الخاصة بنابليون إلى جبهة متماسكة مما زاد إمكانات الدفاع، وظل الجنرالات أسرى استراتيجية العمليات النابليونية ولم يستطيعوا أن يروا مغزى التطورات الجديدة والتكافؤ النسبي بين مختلف الدول الصناعية الكبرى الأوروبية، بالتالي لم يستطيعوا أن يجددوا فيها بما يتفق والوضع الجديد.

أما في الحروب التي تمثل المرحلة التي تلت عصر نابليون، فلم يعد للعمليات الاستراتيجية الدور ذاته الذي كانت تضطلع به في عهده، وضعفت أهمية الضربة المركزة على إحدى نقاط جبهة العدو، وأصبح التركيز على عمليات الالتفاف والهجوم على اتجاهات عدة إلى حد سميت معه "استراتيجية الخطوط الخارجية" التي تستهدف ضرب طوق على العدو. أما في ما يخص التطورات التي حدثت خلال الحرب العالمية الأولى والثانية، فجاءت جنباً إلى جنب مع تطور التكتيك.

المزيد من تحقيقات ومطولات