ملخص
إذا تخيلنا دورة ألعاب أولمبية بين حيوانات الكرة الأرضية فسيكون البرغوث بطلها للقفز العالي والنملة في رفع الأثقال والكانغرو يفوز بالماراثون. ويحرز البشر ميداليات المباريات الجماعية والمسابقات تطلب نسبة عالية من الاستخدام الذكي للجسد.
لقد اقترب "أولمبياد باريس 2024". وتنتظر فرنسا أن تسجل الاستضافة الثالثة للألعاب الأولمبية، بعد سابقتين في العامين 1900 و1924، ما يعني أن الاستضافة الثالثة تأتي بعد قرن من الاستضافة الثانية. ومن شأن ذلك أن يجعل بلاد الغال، وفق تسمية تاريخية، ثالث دولة تستضيف تلك الألعاب، بعد المملكة المتحدة التي سجلت ذلك الرقم في عام 2012. وتستمر عاصمة الأنوار في الاستعداد لاستضافته على رغم خوف يلف القارة الأوروبية، بل ربما العالم، من حرب واسعة تندلع شرارتها إذا خرجت معارك أوكرانيا من إطارها الجيوسياسي الراهن.
وكذلك ينشغل أبطال الجسد البشري بالاستعداد لإظهار الحدّ الأقصى من قدراته حاضراً، مع ملاحظة أن إبراز ذلك الحدّ شكل هدفاً ثابتاً لتلك الألعاب التي يظللها شعارها الشهير "الأسرع، الأعلى، الأقوى". منذ وقت طويل لم تعد القوة الجسدية للبشر رهناً بمعطيات الطبيعة، بل باتت موضعاً لتدخل ذكاء الإنسان في تنمية قدراته وقوته العضلية. باتت تلك الأمور موضع علوم مستقلة. ومع ثورة المعلوماتية والاتصالات المتطورة، ظهرت مواقع عدة متخصصة في صنع برمجيات كمبيوتر عن أصناف التدريب الرياضي العلمي بأنواعه كلها. ولعله ليس عبثاً أن الدول الأكبر والأكثر اهتماماً بالعلم تمثّل أيضاً البلدان الأكثر حصداً لميداليات التفوّق في الألعاب الأولمبية ودوراتها.
لنجرؤ على الخيال ولتتبارى الحيوانات
ماذا لو أُطلِق العنان للخيال كثيراً أو قليلاً؟ إن الحادث الرياضي المقبل هو أولمبياد البشر، فماذا بالنسبة للحيوانات؟ هل لنا أن نسرح الخيال في تصور ما سيحدث إذ نُظّم أولمبياد من نوع آخر، تتبارى فيه حيوانات الأرض كلها، بمشاركة البشر بالطبع. [لعله ليس من السيئ تماماً تذكير البشر ببعدهم الحيواني. ففي الفلسفة اليونانية القديمة، وُصف الإنسان بأنه حيوان عاقل أو سياسي. ولم يتردد أبو العلاء المعري في اعتباره "حيوان مستحدث من جماد" في إشارة إلى أن التراب أصل البشر كلهم].
إذاً، فلنحاول إطلاق تسمية ما على ذلك الأولمبياد المتخيَّل. فلنُسَمِّ تلك المنافسة "دورة الألعاب الأولمبية الحيوانية الشاملة".
كيف ستبدو الأمور في ما يتعلق بالكائنات الحيّة التي تعتمد على قدراته البيولوجية الطبيعية وحدها، بمعنى أنها لا تملك سوى القوى الموجودة فيها طبيعياً. إذ لم ير أحدٌ الأسد مثلاً يتدرب في نادٍ رياضي ويستخدم أوزاناً حديدية كي يزيد قوة عضلات فكّه، التي ربما لا تحتاج إلى ذلك أصلاً لأنها تستطيع أن تمزّق جسد أي حيوان على الأرض، بما في ذلك البشر، بالطبع. وعلى رغم شيوع استخدام الفيلة في الهند مثلاً لنقل الأخشاب بخراطيمها، إلا أنها لا تفعل ذلك على سبيل التدرّب ولا استعداداً للانخراط في مباريات رفع الأثقال.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على غرار أولمبيادات البشر، لا بد من وجود قواعد معينة كي "تتنافس" الحيوانات كلها من دون معارك وحروب بالأسنان والمخالب، وكذلك من دون تدخل السلاح الذي لم يكف البشر عن استعماله منذ أحقاب مديدة، بل ربما طوال تاريخ وجودهم على الأرض.
لنتخيل أننا تمكنا من إفهام الحيوانات قواعد ذلك الأولمبياد، ربما بمعونة التطور المتسارع في الذكاء الاصطناعي أو علوم الجينات، على غرار ما تصوره الكاتب الشهير للخيال العلمي أتش جي ويلز في رواية "جزيرة دكتور مورو" Island of Dr. Moreau.
واستكمالاً، قد لا يحتاج ذلك الأولمبياد الحيواني المتوهم لسوى قواعد شديدة السهولة. ولا يزيد أمرها عن التشديد على أن لا يدعس أحد الآخر ولا يأكله ولا يلتهمه ولا يمزّقه إرباً. لقد جاء اللاعبون من "قارات" متباعدة تماماً. لكن ما يفصلهم ليس الجغرافيا، ليس وحدها في الأقل. إذ تتباعد هذه "القارات" بموجب القوانين الصارمة لبيولوجيا الكائنات الحيّة التي تعيش على الأرض. ربما تصلح الكلمات السابقة إعلاناً خيالياً عن "الألعاب الأولمبية الحيوانية الشاملة". ويتبارى في تلك الألعاب الأفضل بين البشر في الألعاب كلها، مع "أنداد" لهم من عوالم الحيوانات والوحوش والزواحف بل وحتى الحشرات.
بفضل العمق الاجتماعي يتفوق الحيوان العاقل
وفق وقائع متخيلة وحقيقية، ليس مجدياً أن يتضمن هذا الأولمبياد ألعاباً جماعية يخوضها فريق ضد آخر. الأرجح أن تلك البطولات كلها حكرٌ على البشر، على رغم أن بحوثاً علمية جمّة أثبتت أن بعض الحيوانات تتصرّف كـ"فريق" أحياناً، لكن الأمر يتصل بسلوكيات القطيع، وليس الفريق الرياضي الذي يستند إلى البعد الاجتماعي في الوجود الإنساني على الأرض. واستطراداً، يستطيع البشر أن يطمئنوا إلى أنهم يحصدون بالكامل نتائج المنافسات في الألعاب الجماعية، التي تُظهر ذكاء البشر إفرادياً وجماعياً. وبإمكان عُشّاق لاعب كرة القدم الأرجنتيني ليونيل ميسّي أن يطمئنوا إلى أنه لن يواجه منافسة في هذا الأولمبياد أيضاً.
والأرجح أن التقييمات تتفاوت في شأن قوة الإنسان البيولوجية أو ضعفها، لكن ثمة إجماع على أن العمق الأبعد غوراً في هذا الكائن وهويته، يتأتى من فرادته في العقل والذكاء. إذ ينفرد البشر بالقدرة على تأليف فرق تتفاهم بالكلمة والنظرة، وتفهم القوانين وتتصرف بناء على هذا الفهم. واستطراداً، تذهب الميداليات الذهبية والفضية والبرونزية لألعاب الفرق الأولمبية على غرار كرة القدم والسلة والطائرة واليد، وسباقات البدل والتتابع. في المقابل، يصعب بالكامل أن يضمن البشر فوزاً، ولو حتى بصعوبة، في أي من الألعاب الفردية.
من الأسرع؟ إنه الـ"شيتا" لكنه لا يفوز
ينال الحيوان غير البشري أول ذهبياته بفضل الفهد الأبيض أو الـ"شيتا". إذ يعدو هذا الراكض على أربع، لكنه أسرع عدّاء على الأرض. وتصل سرعته إلى 135 كيلومتراً في الساعة. ولا تنجم سرعة "الشيتا" من ساقيه وحوضه، على غرار الحالة مع الإنسان، بل من جماع قوى جسده المملوء بالعضلات الصلبة والرشيقة. إذ تدفعه أطرافه الخلفية والأمامية بحجمها الضخم، قياساً إلى مجمل الجسم. وكذلك يستفيد الفهد الأبيض من ليونة ظهره وغياب عظام الكتف في هيكله العظمي، لأن سواعده تتصل مع الجسم بالعضلات وحدها. وحينما يقلّص جسده ليقارب أطرافه الأربعة، يتقوّس ظهره إلى حدّه الأقصى. ويعقب ذلك اندفاع مذهل، فكأنه زنبرك ضُغِط بأقصى قوة، ثم انفلت. ويدعم الـ"شيتا" ذلك الاندفاع الانفجاري، بقذف قوائمه الخلفية إلى الأمام. وبالتالي، تضمن تلك القوة المهولة للفهد الأبيض الفوز بالميداليات الذهبية لسباقات الركض من مسافة مئة متر وحتى ألف وخمسمئة متر. إذ لا يحتاج لسوى خمس عشرة ثانية ليقطع أربعمئة متر، أي أقل من ثلث الوقت الذي يحققه أسرع عدّائي البشر حاضراً. وفي سباق الألف وخمسمئة متر، يعاني أبطال الجنس الإنساني إرهاقاً شديداً، فيما الـ"شيتا" ينهي السباق بدقيقة وحيدة، بمعنى أنه أسرع بمرتين ونصف من الرقم العالمي القياسي للبشر في هذه المسافة.
الماراثون ومتاهة الحرارة والعرق والطاقة
ثمة وميض أمل للبشر في سباقات الركض. إذا قرر الفهد الأبيض اختبار قواه الهائلة في مسابقات المسافات الطويلة، فإنه يخسرها كلها، بدءاً من سباق الخمسة آلاف متر. إذ تحتاج الاندفاعات القوية للـ"شيتا" إلى حرق كميات كبيرة من السعرات الحرارية داخل جسده الحار أصلاً. ولا تنخفض الحرارة الداخلية العادية لهذا الحيوان عن 38.7 درجة مئوية. وفي جري المسافات القصيرة، تتسرب الحرارة الإضافية من العضلات إلى الخارج. في المقابل، حينما يخوض منافسات المسافات الطويلة، تحتبس تسعين في المئة من الحرارة داخل جسمه. ولدى بلوغ الحرارة 40.5 درجة مئوية، يصدر مخيخ الـ"شيتا" أمراً صارماً لجسده بوقف الحركة كليّاً، تحت طائلة تَلَف الأعضاء الحساسة بفعل الحرارة الداخلية المتصاعدة. في المقابل، يستطيع عداؤو البشر مواصلة الركض، معتمدين على نظام "تبريد" مزدوج من العرق ومسامات الجلد.
وهكذا يتنفس الجمهور البشري الصعداء، مع فوز عداءٍ من قماشة البطل الأولمبي الكيني إليود غيبشوجي بسباق الماراثون. ماذا عن الأحصنة والكلاب؟ أوليست مندرجة ضمن الأبطال المعتبرين في الجري والعدو؟
مع الاقتراب من المسافات الطويلة جداً، لا يعود الفوز مرهوناً بقوه العضلات، بل بقدرتها على الابتراد أولاً، إضافة إلى الاستمرار في إمدادها بكميات مناسبة من الأوكسجين على نحو متواصل. وبذا، تظهر ميزة المشي المَرِن والمنتصب على القدمين التي يتمتّع بها الكائن البشري. في مقلب مغاير، تحتاج الحيوانات التي تجري على أربع قوائم، إلى حرق سعرات كثيرة كي تمدها بكميات من الطاقة تكفي عضلات أطرافها كلها. وبالتالي، يعني ذلك أنها في حاجة إلى ابتراد سريع لا يمنحه لها جسدها المغطى بالصوف والوبر. ويضاف إلى ذلك، أن تلك الحيوانات ليس لديها نظام كفوء في التعرّق. وكذلك تؤدي الجاذبية دوراً قوياً ضد جهازها الدوري. فبسبب قربها من الأرض، تتركز كميات متزايدة باستمرار من الدم في الأطراف الأربعة الكبيرة. وبسبب اجتماع تلك الأمور كلها، يعجز عدّاؤو الحيوانات عن الفوز بالماراثون.
هل يعني ذلك فوزاً حتمياً للإنسان في سباق الماراثون؟ الأرجح أن لا، على رغم كل شيء.
ولعل لواء الفوز في ماراثون الركض معقود لحيوان الكنغارو بوصفه بطل الاقتصاد في صرف السعرات للمسافات الطويلة. إذ يثب الكنغارو على قدميه الخلفيتين وحدهما. وتتمتع قدماه بعضلات مرنة وقوية وغير ضخمة. بذا، يدفع الكنغارو نفسه قفزاً مع إنفاق منخفض من السعرات الحرارية.
ثم يتقافز، فيرتفع ويحط. وبالتالي، تنكمش تلك القوائم عينها كالزنبرك، في حركة تتولاها الجاذبية الأرضية بدعم من ليونة مفاصل الكنغارو. وتُظهر الحسابات البيولوجية، أن الكنغارو يصرف سعرة حرارية وحيدة في كل قفزة.
إذاً، يقطع الكنغارو نصف الماراثون من دون حرق كمية تُذكر من السعرات، فيبقى جسمه ضمن حرارة منخفضة، واستطراداً، فإنه لا يتطلّب كميات كبيرة من الأوكسجين أيضاً، بل أن تقافزاته تبدو كأنها "استراحة بين انطلاقتين".
لقد سُحبت ذهبيات المسافات الطويلة والمتوسطة من أساطين البشر، الذين قد يرغمون على الاكتفاء بميداليات الفضة والبرونز، تاركين الذهب للكنغارو صاحب الوبر الذهبي أيضاً.
البرغوث بطل القفز العالي
لا يصعب التفكير في أن البشر سيخسرون سباقات السباحة كلها، وفي المسافات كلها. ولا أمل للإنسان مع الماء، على رغم أنه أساس حياتهم. إن البشر ضعفاء في الماء وبطيئون، حتى لو لم تُعجب هذه الكلمات بطلاً مجليّاً كالسبّاح الأميركي مايكل فيليبس.
يكفي تذكر أن سرعة سمك "باركودا" مثلاً، تصل إلى 45 كيلومتراً في الساعة. تكمن المفاجأة الفعلية في الملاكمة. فبفضل مزيج المشي المنتصب القدمين، مع الاستعمال الذكي للقبضات، يكون الإنسان ملاكماً لا يُقهر، بل في الأوزان كلها أيضاً. مفاجأة؟ ربما. يجدر التفكير مليّاً بفرادة يد الإنسان وتركيبها، تلك التي نَسب إليها البعض أنها أسهمت بقسط وافر في تطوّر الكائن الإنساني من وضعه البدائي إلى حاله حاضراً. ألا يوصف الإنسان بأنه صانع الأدوات؟ ألم تكن يداه صاحبتي الفضل في صنعه أدواته الأولى، إضافة إلى عقله، التي ميّزته عن الحيوانات جميعاً، بل أعطته السيادة عليها بصورة كلية؟
في ملمح مماثل، يتكرر فوز البشر في منافسات المصارعة الرومانية ورمي القرص والرمح والقوس والمطرقة، بل في كل الألعاب التي تعتمد على مزيج الدماغ واليد. ثمة مفارقة لافتة. لقد مارس قدماء اليونان هذه الألعاب في أولمبياداتهم، وجعلوها أيقونة تلك الأولمبيادات بأن جسّدوها رسماً ونحتاً.
وتذهب ميداليات الجمباز إلى الإنسان. وفي استثناء لافت، تستطيع قردة من نوع "غابون" أن تنتزع منه ميدالية العارضتين غير المتساويتين، بفضل قدرتها على إتمام دورات كاملة بأجسادها مع بقائها ممسكة بالعارضة.
وإذا أخذ طُول الجسم في الاعتبار، يصبح البرغوث سيد الوثب العالي بلا منازع. إذ يقفز ثلاثمئة ضعف طول جسمه. وإذا سعى الإنسان إلى تحقيق رقم مماثل، فسيقتضي الأمر منه أن يقفز فوق برج "إيفل".
وفي نفسٍ مشابه، تذهب صورة هرقل "الألعاب الأولمبية الحيوانية الشاملة" في رفع الأثقال، إلى النملة! إذ تقدر تلك الصبورة الدؤوبة أن ترفع وزناً يساوي ما يتراوح بين 5 و7 أضعاف وزن جسمها. وللمقارنة، لم يستطع الرباع التركي هليل موتلو ( وزن ما دون 58)، وهو من الأساطين في تاريخ تلك اللعبة، أن يرفع ما يزيد على ثلاثة أضعاف وزن جسمه، وقد اعتُبِر ذلك إنجازاً بشرياً خارقاً. واستطراداً، يرفع معظم رباعي الأوزان الثقيلة، ما لا يزيد إلا قليلاً عن ضعفي أوزان أجسادهم الضخمة. وإذا لم يؤخذ الحساب النسبي للجسد مع الوزن، يضحى الفيل سيد لعبة رفع الأثقال من دون منازع.
ويتفوق السويدي أرمان موندو دوبلانتيس على كل منافسيه في القفز بالزانة، لأنها تعتمد أيضاً على تدخّل الذكاء في استعمال أداة تقنية هي عصا الوثب.
وكخلاصة، لا يبدو الجسد الإنساني هشّاً على نحو ما يتصوره كثيرون منا. في المقابل، تتفوق الحيوانات في بعض الحركات المحددة، لكن أياً منها لا يملك التعددية والمطواعية التي يملكها الإنسان.
ثمة كلمة أخيرة. قبل العلم والتكنولوجيا، ارتكز البشر إلى ما هم عليه من مزيج العقل والجسد، وإلى تآزرهم جماعياً واجتماعياً. وبفضل ذلك المزيج، تسيّد الإنسان أرضاً ليس هو فيها لا الأقوى ولا الأعلى ولا الأسرع.
لعلها مناسبة لاقتراح خيال من نوع آخر يأتي بوحي من تطور الذكاء الاصطناعي والروبوت. وعلى نحوٍ دؤوب ومثير للتساؤل، يجتهد البشر في محاولة إعطاء الروبوت مواصفات أجسادهم، وإمداد الذكاء الاصطناعي بمواصفات عقولهم، مع الإشارة إلى وجود تفوق أصيل للآلات في الأمرين كليهما. أليس الأمر مدعاة للقلق؟ هل ستكتب يد آلية في يوم ما أن الروبوتات الذكية تسيّدت الأرض لم تكن فيها في البدء لا الأقوى ولا الأسرع ولا الأذكى؟ إنه مجرد سؤال.