مع اقتراب أسعار النفط في السوق من حاجز 100 دولار للبرميل، تكثر التحليلات والتعليقات في شأن العرض والطلب في أسواق الطاقة وتزيد حدة المضاربات على العقود الآجلة للنفط الخام في أسواق السلع، وحتى إذا لم يتخط سعر النفط حاجز الـ100 دولار بعد، فالأرجح بحسب تقديرات معظم المحللين في السوق أن يظل في نطاق 80 – 90 دولاراً للبرميل، ما لم تحدث أي أمور مفاجئة تخل بتوازن العرض والطلب.
ذلك هو النطاق السعري الذي أنهى عليه خام برنت القياسي العام الماضي، قبل أن تتذبذب الأسعار خلال الأشهر التسعة من هذا العام، إلا أن أسعار الخام كانت بالفعل تعافت من أزمة وباء كورونا حين هوت الأسعار إلى ما دون 40 دولاراً للبرميل في 2020، لترتفع في عام 2021 مقتربة من 130 دولاراً للبرميل، فما أسباب هذا التذبذب في الأسعار في الأشهر الأخيرة، وعلاقة العوامل المؤثرة فيها بتوازن أسواق الطاقة؟
تعاف متذبذب
مع إغلاق معظم الاقتصادات في ذروة وباء كورونا وانتشار فيروس "كوفيد – 19" عام 2020، تراجع الطلب على الطاقة بشدة، وانهارت الأسعار، ثم اتفقت السعودية، أكبر منتج في منظمة "أوبك"، مع حلفائها من خارج المنظمة وفي مقدمهم روسيا ضمن تحالف "أوبك+" على خفض الإنتاج لسحب تخمة المعروض من السوق، وعاد التوازن ووصل سعر النفط قرب نهاية عام 2021 إلى أكثر من 85 دولاراً للبرميل من خام برنت.
كان وراء التحسن في الأسعار توازن العرض والطلب نتيجة تخفيضات الإنتاج من قبل تحالف "أوبك+" إضافة إلى التوسع في التحصين بلقاحات الفيروس حول العالم وتوقع عودة الاقتصاد العالمي للنشاط، بالتالي زيادة الطلب على الطاقة عموماً والنفط خصوصاً، واستمرت السوق في الانضباط في الشهرين الأولين من العام الماضي 2022، واستقرت الأسعار حول معدل 90 دولاراً للبرميل، لكن مع بداية الحرب في أوكرانيا نهاية فبراير (شباط) من العام الماضي، ارتفعت أسعار الطاقة عموماً ووصل سعر النفط بعد أسبوع من بداية الحرب إلى قرب 140 دولاراً للبرميل من خام برنت.
لم تمض أيام حتى بدأت الأسواق في الاستقرار لتتراجع الأسعار استناداً إلى أساسات السوق وليس تأثراً بالعامل النفسي نتيجة الحرب والخوف من عطل الإمدادات، وعادت أسعار خام برنت إلى ما دون حاجز 100 دولار للبرميل قبل نهاية مارس (آذار) من العام الماضي.
ومع تشديد العقوبات الأميركية والغربية على موسكو، عادت مخاوف الأسواق من احتمال غياب النفط الروسي بالتالي توقع اختلال ميزان العرض والطلب، وبحلول الصيف من العام الماضي، في يونيو (حزيران) تحديداً، عادت الأسعار للارتفاع إلى ما فوق 120 دولاراً للبرميل من خام برنت، وعلى رغم التصريحات السياسية، بخاصة من واشنطن ولندن، التي انتقدت سياسات تحالف "أوبك+" فإن صمود التحالف في موقفه من ضبط أساسات السوق كان ضمانة لعدم اضطراب قرب نهاية العام.
تراجعت الأسعار إلى مستويات 85 دولاراً لخام برنت، وأسهم في هذا التراجع أيضاً استمرار البنوك المركزية في رفع أسعار الفائدة لمكافحة معدلات التضخم التي واصلت الارتفاع، ومع خشية الأسواق من التباطؤ الاقتصادي الشديد إلى حد الركود، عزف المضاربون عن دفع الأسعار للأعلى، ذلك على رغم أن أوروبا فرضت في ذلك الوقت حظراً على واردات الطاقة من روسيا، كذلك فرضت أميركا وحلفاؤها سقف سعر للنفط الروسي.
تحرك ضيق هذا العام
بدأت تخفيضات الإنتاج التي مددت الدول الأعضاء في تحالف "أوبك+" العمل بها تؤتي ثمارها في ضبط توازن السوق، إلا أن استمرار رفع أسعار الفائدة واستمرار مخاوف الركود الاقتصادي جعلت أسعار النفط تبدأ العام الحالي منخفضة عن مستوى 80 دولاراً للبرميل، وانخفضت الأسعار قليلاً إلى ما دون هذا المستوى مع تبخر التفاؤل المبالغ فيه بانتعاش قوي في الاقتصاد الصيني، ثاني أكبر اقتصاد في العالم وأكبر مستورد للطاقة، إثر إلغاء بكين كل القيود على الاقتصاد المتعلقة بوباء كورونا وتخليها تماماً عن سياسة "صفر كوفيد".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وكانت مخزونات النفط الأميركية وصلت إلى مستويات عالية عوضت إفراج إدارة الرئيس جو بايدن عن كميات كبيرة من المخزون وطرحها في السوق للضغط على الأسعار، ومع بدء تطبيق الحظر الأوروبي على النفط الروسي وكذلك سقف سعر على نفطها، ارتفعت الأسعار قليلاً بنهاية الشهر الثاني من العام لتعود إلى المستوى المستقر حول 85 دولاراً للبرميل، إلا أن بيع روسيا صادراتها النفطية بخصم كبير في السعر جعلها تجد أسواقاً لنفطها بخاصة في دول آسيا، وتحديداً الهند، مما قلل من المخاوف من غياب الإنتاج الروسي عن السوق العالمية.
مع نهاية الربع الأول من العام، أثارت أزمة إفلاس البنوك الإقليمية في الولايات المتحدة مخاوف السوق مجدداً، وضغط ذلك بشدة على أسعار النفط التي انخفضت إلى قرب مستوى 70 دولاراً لبرميل خام برنت القياسي، لكن بحلول الربع الثاني من العام كانت مخاوف انتشار عدوى انهيارات البنوك وانتقالها إلى أوروبا تراجعت، وشهدت المخزونات الأميركية انخفاضاً واضحاً.
وفي ظل تعديل المؤسسات الدولي والبنوك الاستثمارية وشركات الاستشارات توقعات النمو الاقتصادي العالمي بالتخفيض، قررت "أوبك" وحلفاؤها تخفيضاً معقولاً في الإنتاج لمواجهة احتمالات تراجع الطلب ولمنع تكون تخمة معروض تؤدي إلى اضطراب السوق. وأعلنت السعودية تخفيضاً طوعياً بنحو مليون برميل يومياً بحلول مايو (أيار) الماضي، للمحافظة على توازن السوق، وعلى رغم تقارير وكالة الطاقة الدولية التي توقعت ارتفاعاً كبيراً في الطلب، فإن الطلب العالمي ما زال في نطاق 102 مليون برميل يومياً، وهو ما يلبيه العرض، لذا ظلت الأسعار خلال الربع الثاني في نطاق 70 – 80 دولاراً للبرميل.
ومع الإشارات القوية إلى توقف دورة التشديد النقدي في الاقتصادات الكبرى، وعدم رفع البنوك المركزية أسعار الفائدة في اجتماعاتها هذا الشهر (باستثناء البنك المركزي الأوروبي الذي رفع سعر الفائدة ربما للمرة الأخيرة)، عاد التفاؤل بتحسن الطلب على النفط قليلاً بما يمكن أن يحقق توقعات نموه بنحو مليوني برميل يومياً، ومع ذلك، فالارتفاع الأخير في الأسعار إلى مستوى 95 دولاراً للبرميل، يعود في القدر الكبير منه إلى مضاربات المتعاملين في أسواق العقود الآجلة وأيضاً إلى توقعات تفادي الركود الاقتصادي العالمي، فضلاً عن الاختناقات المتكررة في قطاع التكرير نتيجة عدم الاستثمار فيه بقوة في السنوات الماضية.