ملخص
يمكن اعتبار ألبانيا نموذجاً ناجحاً لدولة مصممة وعازمة وتقوم بالفعل بإعادة نسائها وأطفالها من مخيم "الهول" لعائلات عناصر تنظيم "داعش"
تجلس أمينة في باحة يظللها أكبر مسجد في تيرانا. تمد يداً يغطيها قفاز لتمسك بعبوة بيبسي، وترتشفها فيما تجول بنظرها على المدينة حولها. ولدت الفتاة في تيرانا لكن المدينة غير مألوفة في عينيها: إذ قضت الجزء الأكبر من سني نشأتها الأولى، وشكلت معظم ذكرياتها، في مدينتي الباغوز والرقة السوريتين. وقعت المدينتان لسنوات طويلة تحت حكم التنظيم الإرهابي، "الدولة الإسلامية في العراق والشام"، المعروف محلياً باسم "داعش".
لم يمر سوى شهر واحد على عودة أمينة لتيرانا. ولم يتعد عمر الفتاة 16 ربيعاً. هي شخصية هادئة ومنطوية على نفسها، وصوتها ناعم خافت يكاد لا يسمع. ومع أن الحياة في ألبانيا جديدة عليها والتأقلم صعب لكنها واثقة من صوابية قرارها بمغادرة سوريا. "إن الحياة هنا أحسن بكثير، أفضل بكثير من المكان الذي كنت فيه"، بحسب قولها.
ترافق أمينة جدتها وإحدى بنات عمومتها. تحذر النساء الثلاث من التقاط صورتهن نظراً إلى ما مررن به من صعوبات. هن من عائلة متدينة: السيدتان محجبتان، لكن أمينة تلبس البرقع. عاشت جدتها التي بلغت السبعينيات من عمرها الآن تحت الحكم الشيوعي الذي فرضه الزعيم الألباني السابق أنور خوجة، حين حظرت الدولة الأديان.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ما زال نوعا اللباس هذان غير مألوفين في ألبانيا. وتتعارض ألوان الباستيل الزاهية في حجابي السيدتين مع البرقع الأسود الذي ترتديه أمينة، في مظهر يدل على شكلين متباينين من التدين الإسلامي.
عندما كانت أمينة طفلة عام 2015، اصطحبها والدها ووالدتها إلى سوريا. ومكثت هناك نحو تسع سنوات من حياتها، قضتها في الرقة أولاً ثم في الباغوز- آخر معاقل "داعش" في البلاد- قبل أن تنتقل، بعد سقوط المدينة عام 2019، إلى مخيم "الهول" للاجئين المكتظ بزوجات مقاتلي "داعش" وأطفالهم. وتقول أمينة "شعرت أن الحياة في الباغوز طبيعية بسبب صغر سني، ولأننا لم نبارح المنزل. وطوال سنة كاملة، بدت الحرب قصية".
لكن الحرب شقت طريقها نحوهم، على عادة الحروب. كانت الباغوز آخر مدينة تسقط في أراضي الخلافة التي كانت واسعة في يوم من الأيام، بعد شهر من الهجمات التي شنتها قوات التحالف، بمساعدة الضربات الجوية الأميركية. وقتل والدها في المعارك. ثم نقلت أمينة ووالدتها وشقيقتها إلى مخيم "الهول".
وتشير بعض التقديرات إلى وجود أكثر من 50 ألف سيدة وطفل وطفلة في مخيم "الهول". وتحرس المخيم قوات سوريا الديمقراطية (قسد) ومعظمها من القوات الكردية. كما تحرس "قسد" آلاف المقاتلين السابقين، الأجانب والمحليين على حد سواء، الذين يقبعون في السجون في شمال شرقي سوريا.
وعرضت الحكومة الألبانية على المواطنين الألبان الراغبين في مغادرة المخيم طريقة للعودة لديارهم: جميع النساء القابعات في المخيم يعرفن سبيل إخطار السلطات برغبتهن وبدء رحلة العودة للديار. وإن فعلن ذلك، ينقلن إلى مخيم الروج على بعد نحو 50 ميلاً (80 كلم) إلى الشمال، إذ تسجل أسماؤهن ومعلوماتهن الشخصية. ثم تصطحبهن السلطات من مخيم الروج إلى ألبانيا.
من خلال مغادرتها "الهول" في نهاية عام 2022، تخلت أمينة عن والدتها وشقيقتها. ويرجح أنها قضت على أية علاقة مستقبلية معهما وربما لن تراهما مجدداً في حياتها. لم تريداها أن ترحل وما زالتا مقتنعتين بأن تنظيم "داعش" سيعاود النهوض من رماده.
وليستا وحيدتين في هذا الاعتقاد. إذ بدوره، يرى مسعود مستجابي، نائب مدير برامج الشرق الأوسط التابع في مركز "المجلس الأطلسي" للبحوث، بأن "داعش" ستعود لبث الرعب في المنطقة مرة جديدة. ومع ذلك، فالحكومات المشغولة بأمور أخرى لا تملك أي وقت كي تلتفت إلى هذه التحذيرات. ويقول مستجابي إن الولايات المتحدة "أفلحت فعلاً في إقناع نفسها بزوال خطر ’داعش‘. لكن على الأرض، تخشى السلطات من انبعاث التنظيم مجدداً".
في تيرانا، تظهر محبة جدة أمينة وابنة عمها لها وخوفهما عليها بوضوح، من خلال نظراتهما إليها وهي تتكلم، يلوح في أعينهما حزن كبير فيما تصف الوقت الذي قضته في سوريا- لكنهما تبتسمان لها لتشجيعها على المتابعة. من الصعب إدراك حجم المعاناة التي مرت بها هذه الفتاة الهزيلة.
وجدة أمينة هي الأكثر انطلاقاً في الكلام بين ثلاثتهن: وتتحدث بثقة وقناعة عن معاناة عائلتهن وطريقة التعامل مع أمينة بعد عودتها. تغرورق عيناها بالدموع وهي تقول "أهم شيء هو أن الحكومة الألبانية تتبنى مقاربة إنسانية. وتنظر إليها على أنها إنسان حقيقي".
من المستحيل الالتزام بإعادة كل الموجودين في المخيمات السورية، ولا سيما أن بعضهم لا يرغب في المغادرة أساساً. لكن الحكومة الألبانية حاولت أن تضمن وجود طريق عودة لكل النساء والأطفال الراغبين في العودة. وهذا فارق ملفت يميزها عن الحكومة البريطانية التي لم تفسح مجال العودة من سوريا للمواطنين الراغبين في ذلك. في أكتوبر (تشرين الأول) 2022 فقط، سمح لسيدة بريطانية- لم يكشف عن هويتها- أن تعود من مخيم "الهول": وهي الشخص البالغ الأول والوحيد الذي عاد للوطن منذ سقوط "داعش". كما أعيد ثلاثة أطفال. ويقدر عدد البريطانيين الذين ما يزالون في سوريا إلى الآن بنحو 60 شخصاً من بينهم 35 طفلاً.
في بعض الحالات الأخرى، جعلت الحكومة البريطانية مغادرة سوريا أمراً مستحيلاً: وأشهر مثال على ذلك هو شميمة بيغوم التي غادرت الأراضي البريطانية بعمر الـ15 للانضمام إلى "داعش".
وجردت السيدة من جنسيتها البريطانية على أساس أنها قادرة على المطالبة بالجنسية البنغلاديشية. (يحرم القانون الدولي تحويل أي شخص إلى عديم الجنسية). لكن الحكومة البنغلاديشية عارضت هذا الزعم موضحة بأن بيغوم ممنوعة من دخول بنغلاديش. وعام 2019، صرح وزير الخارجية عبدالمؤمن بأنها ستواجه حكم الإعدام إن حاولت أن تطأ أراضي البلاد.
ورفضت الدول الأوروبية كافة تقريباً في البداية أن تسترجع مواطنيها من "الهول". لكن بعضها لانت شيئاً فشيئاً على مر السنوات.
وربما لعب القرار الصادر عن المحكمة الأوروبية لحقوق الإنسان دوراً في الموضوع: في أواخر أكتوبر 2022، حكمت المحكمة لصالح سيدتين فرنسيتين حاججتا بأن رفض الحكومة الفرنسية إعادتهما لموطنهما يشكل انتهاكاً لحقهما في دخول أراضي البلاد التي يحملان جنسيتها. خسرت الحكومة الفرنسية القضية وأرغمت على إعادة النظر في ملفي السيدتين. لكن الحكم لم ينص على ضرورة إعادة المواطنين كافة، بل على ضرورة عرض القضايا على هيئة مستقلة بغرض مراجعتها.
وربما دفع هذا الحكم فرنسا إلى التحرك: بعد أسبوع على صدوره، أعادت البلاد 55 شخصاً من رعاياها لأرض الوطن. وفي يناير (كانون الثاني) أعادت 47 آخرين. كما استعادت كندا وأستراليا أخيراً عدداً من مواطنيهما بعدما رفضتا ذلك لفترة طويلة لكن من خلال استمرارها بتجاهل وجود مواطنيها في سوريا، قد تبرز بريطانيا باعتبارها حالة شاذة بين الدول.
يشعر المواطنون البريطانيون الذين ما يزالون في مخيم "الهول" باليأس. قال جوليان كاسابي الذي زار المخيم إن إحدى السيدات البريطانيات توسلت إليه كي يساعدها عندما أدركت أنه يتحدث الإنجليزية، وقالت له "لم يحضر أحد من أجلي". كما تكلمت أمينة عن ثلاثة أطفال بريطانيين أيتام كانوا يجولون وحدهم في أنحاء المخيم.
وتقول الألبانيات اللاتي يخترن البقاء في مخيم "الهول" إنهن يخشين مما ينتظرهن عند العودة للديار، وفقاً لأشخاص زاروا المخيمات. وتخضع اللاتي بقين في "الهول" للمراقبة من أكثر النساء تديناً هناك اللاتي ما زلن ملتزمات بعقيدة "داعش" المتشددة ويعتقدن بأن التنظيم عائد لا محالة.
ويرجح أن بعض هؤلاء النسوة عملن في تجنيد أخريات، أو اضطلعن بدور أكبر في التنظيم. (وضعت النساء والأطفال من سوريا والعراق في قسم منفصل من "الهول"). وتحت أعينهن الساهرة، ليس من الآمن لأية سيدة في المخيم أن تخلع عنها البرقع حتى لو من أجل ارتداء الحجاب. إذ تعد هذه الخطوة ضرباً من الزندقة وقد تعرض حياة المرأة إلى الخطر.
وكانت أمينة تخضع لرقابة نساء ألبانيات على هذا الشكل من التدين، شاركتهن خيمتهن. وقالت "يخبرنك أنه عند عودتك لألبانيا لن تتمكني من ممارسة الشعائر الإسلامية". قالت النساء اللاتي اعتنين بأمينة إن الحياة في ألبانيا تعني العزلة المؤكدة والسجن والوحدة. لكنها لم تصدقهن وعرفت أنها تريد العودة لمنزلها. وتقول "عندما اتخذت قرار الرحيل، طلبن مني في البداية ألا أذهب. بعد ذلك، قلن لي إنهن سيقتلنني".
قضت بعض الفتيات كامل عمرهن إما تحت حكم "داعش" أو داخل المخيمات: قد يتهيأ لهن أن كل ما يسمعنه عن العالم الخارجي حقيقي لأنهن لا يعرفنه فعلاً. انخرط إندريت دودا، قائد وحدة مكافحة الإرهاب في الشرطة الألبانية، في مهمات هدفها المساعدة في إعادة النساء والأطفال من "الهول". ويقول "قضينا ساعات نتفاوض معهن، ونحاول إقناعهن بأنهن سيكن بمأمن إن عدن للديار. كان من الصعب جداً أن نقنعهن بما نقوله".
وعلى رغم إقامة المخيمات في شمال شرقي سوريا، فهي تقع تحت سيطرة القوات الكردية وليس الحكومة السورية. ويقول دودا "كان الوضع بالغ الصعوبة في البداية. فألبانيا ليست لاعباً كبيراً على المسرح الدولي. لم يكن لدينا طرق تواصل متجذرة مع المجموعات اللازمة والملائمة في الشرق الأوسط". قاموا بجولات مفاوضات أخذتهم إلى لبنان ومناطق أخرى. لكنهم ثابروا وأرسوا في نهاية المطاف طريقاً للخروج من المخيمات السورية والعودة للوطن للرعايا الألبان الراغبين بذلك، من سيدات وأطفال.
وفي تيرانا، من الواضح أن أي هواجس بشأن السلامة الشخصية لا أساس لها من الصحة. فالحكومة تفخر بجهودها من أجل استعادة رعاياها من النساء والأطفال الذين عاشوا تحت حكم "داعش"، وإعادة دمجهم في المجتمع. وتبذل جهود كبيرة في سبيل الحرص على إمكان إعادة دمج العائدين بنجاح في المجتمع.
وفور وصولهم، يخضعون لتقييم صحي ونفسي. وتتلقى النساء كما الأطفال علاجاً نفسياً طالما احتاجوا إليه. ويجري التركيز على تعليم الأطفال: فلا يسمح لهم بارتياد المدارس الدينية. ويخصص لهم أستاذ مرافق في المدرسة لمساعدتهم في إعادة الدمج وإعطائهم دروساً إضافية. وتقول فاتيلدا سمايلاي المسؤولة عن إدارة برنامج إعادة الدمج في الحكومة الألبانية "كثير من بينهم ظلوا سنوات من دون ارتياد المدارس". وحرصاً على عدم إقصائهم في المدارس التي يسجلون فيها، لا أحد غير أستاذهم ومدير المدرسة يعرف أنهم عاشوا تحت حكم "داعش".
وعادة، يغلب التعاطف على الاستقبال الذي يلقينه من الحكومة والمجتمع بشكل عام. يعتقد بأن كثيرات من بينهن خدعن من أزواجهن للذهاب إلى سوريا (مع أنه في حال أمينة، ذهبت والدتها طواعية). لكن حتى النساء اللاتي يخترن العودة قد يحملن حتى الآن آراء متطرفة وربما لا يستطعن تقبل الحياة في بلاد علمانية. وفيما اخترن العودة من أجل مستقبل أولادهن، ما زلن يشعرن بالمرارة إزاء التجربة التي مررن بها: فقد قاسين الضربات الجوية كما عشن سجينات في الصحراء.
قد تتسبب الأمهات اللاتي ما زلن متطرفات بأضرار حقيقية لإعادة دمج أطفالهن. تتكلم فاتيلدا عن نساء ينزعن عيون ألعاب أطفالهن أو يحرقن رسومهن أو يمنعنهم من الاستماع إلى الموسيقى لاعتقادهن بأنها حرام. من الأصعب العمل مع هؤلاء لأنهن أكثر إدراكاً بمعاناتهن الشخصية من أطفالهن.
ومن الصعب أن تعرف كيف يمكنك قياس النجاح. تسجل الحكومة النساء في برامج تعلمهن التمكين الاقتصادي وتعيدهن لمسار التعليم. يأتي النجاح لبعضهم على شكل ترك الإسلام نهائياً. تخبر فاتليدا عن عائلة لديها ثلاث بنات كن يرتدين البرقع. لم يعدن راغبات في ممارسة الشعائر الإسلامية إنما رفضن خلع البرقع قبل أن تفعل ذلك والدتهن. وفي نهاية المطاف، قبلت الوالدة. وتقول فاتيلدا إنها "اندمجت الآن في المجتمع الألباني" وعادت للتعليم "هذه قصة نجاح".
بالنسبة إلى بعضهم الآخر، قد يتخذ النجاح شكل تعلم العيش في ألبانيا وممارسة شعائرهن الدينية. بذلت الحكومة جهداً كبيراً في التشاور مع الأئمة المحليين حرصاً على جعل إعادة الدمج في المجتمع أمراً مستساغاً لمين يرغبن في الحفاظ على التزامهن الديني. وتقول فاتيلدا "يساعد الأئمة في التعامل مع طريقة تفكير النساء بشأن الإسلام". نظراً إلى أنهن عشن محكومات بعقيدة دينية متشددة جداً، يكون من الصعب في الغالب عليهن أن يتأقلمن مع الحياة كأشخاص متدينين في بلد علماني.
في ظل الحكم الشيوعي، كانت ألبانيا دولة ملحدة. منع الدستور المعتقدات الدينية بأشكالها كافة، فيما حتى الاتحاد السوفياتي (الذي بذل جهوداً جبارة من أجل محو الديانة) لم يمنعها كلياً. كما في عديد من الدول الشيوعية السابقة، أعيدت حرية ممارسة المعتقد. أكثر من 50 في المئة من المجتمع الألباني مسلم، فيما تضم البلاد نسبة لا يستهان بها من المسيحيين كذلك.
تحتفي ألبانيا بالديانات بسبب تقاليدها الثقافية وليس نواميسها الأخلاقية. ويحتفل كل من المسلمين والمسيحيين بأعياد الآخر.
ليس التدين والممارسات الدينية بالأمر المألوف في ألبانيا. ولهذا السبب، يخشى كثيرون أن ينبذهم المجتمع إن استمروا بالالتزام بإسلام أكثر تزمتاً من المعهود في المجتمع. لكن هذه الهواجس غير مبررة وفقاً لعائلة أمينة.
اختلف مصير أمينة عن مصير فتاة أخرى اسمها دريتا. تبلغ الفتاة الـ18 من عمرها، وكما أمينة، قضت معظم طفولتها في سوريا. يسكن خال دريتا، غنتيان، في تيرانا وقضى سنوات عديدة وهو يحاول إعادتها لديارها. وهو يعتقد بأن دريتا قررت البقاء في مخيم "الهول" بسبب تأثير النساء اللاتي اخترن البقاء هناك، مع أنها منحت خيار العودة لألبانيا.
والد دريتا هو من اصطحبها وأخيها ألتين إلى سوريا عندما كانا طفلين. وهم يعتقدون بأنه تحول إلى التطرف على إثر عمله فترة قصيرة كسباك في السعودية. تغير الرجل كلياً بعد عودته من هناك: توقف عن شرب الكحول وبدأ يتجنب أصدقاءه. لكنه ظل زوجاً لطيفاً ومتفانياً من أجل عائلته وفقاً لغنتيان. ويقول "طبعاً كان يمثل كي لا نشك فيه".
في يناير 2014، أخبر زوجته أنه سيصطحب الطفلين في عطلة إلى مونتينيغرو (الجبل الأسود) لكنه أخذهما بدلاً من ذلك إلى جنوب تركيا ومن هناك عبروا الحدود إلى سوريا. كان الطفلان عندها بعمر السادسة والسابعة. لقي لرجل حتفه قبل نهاية الصيف. وترك الطفلان وحدهما.
وتناهى خبر مقتل والد الطفلين إلى مسامع بقية أفراد العائلة. لكن تنظيم "داعش" كان لا يزال مسيطراً على المنطقة ولا سبيل لكي يغادر الطفلين المكان. وكانا لا يزالان يافعين: أصغر من أن يفهما ظروفهما، ومعنى أن يترعرعا كيتيمين في بلد يبعد آلاف الأميال عن موطنهما. لكن في ألبانيا، أدركت جدتهما، بليونا، ذلك.
وقامت بتضحية عظيمة من أجلهما: قررت الرحيل إلى سوريا كي تعيش معهما. لم تكن يوماً امرأة متدينة ومع ذلك، ارتدت البرقع وقررت أن تعيش تحت حكم "داعش"، كيلا يضطر حفيداها إلى أن يعيشا وحدهما هناك. وعندما طرد "داعش" عام 2019، انتقل ألتين ودريتا وجدتهما إلى "الهول". وانتظروا هناك، على أمل أن تتمكن الحكومة من إعادتهم لألبانيا.
بحلول عام 2021، كانوا قضوا سبع سنوات في سوريا. لكن عندما فتح لهم مجال العودة، توفيت الجدة فجأة. كانت سيدة في الستينيات من العمر، تتمتع بصحة جيدة ولا تعاني مشكلات صحية سابقة. لكن وفاتها دليل على ظروف المعيشة المريعة في "الهول". فسكان المخيم يعيشون في فقر مدقع ويعانون نقصاً في الرعاية الصحية اللازمة، كما أن الأمراض مستشرية.
بعد فترة وجيزة، قرر الطفلان العودة. لكن فيما كانا ينتظران الحصول على ضمانات قانونية من الحكومة، غيرت دريتا رأيها، بسبب شعورها بالمرارة والحزن لفقدان جدتها على ما يبدو. واختارت البقاء، وهي ما تزال في "الهول". أحياناً، تبعث دريتا برسالة إلى خالها عبر واتساب. رسائلها قصيرة وعشوائية ومقتضبة. تقول في إحداها "أنا بحال جيدة".
قد تمر أسابيع بين الرسالة والأخرى، ويعلم غنتيان بأنه من المحتمل أن تكون رسائلها مراقبة لأن الهاتف الذي ترسلها منه يعود لسيدة أخرى - معروفة بآرائها المتشددة في أوساط الألبان في سوريا - اختارت البقاء في "الهول". ويقول "لا يمكنها التحدث بصراحة. لا يمكنها التعبير عن هواجسها خوفاً من النساء الأخريات الموجودات معها".
ويعتقد غنتيان بأنها تريد العودة لديارها لكنها تخشى ما قد يحدث في حال حاولت المغادرة. ويقول "تحافظ على حياتها وتماسكها عبر التظاهر بأنها تريد البقاء هناك". أخبرته خلال حديث يعتقد بأنها كانت صريحة معه فيه، أنها لم تتخيل يوماً أن تعاني إلى هذا القدر في حياتها.
لكن برأي غينتيان، لو عبرت عن رغبتها في العودة فهي تخاطر باحتمال التعرض للقتل "لا يحترمون الحياة البشرية على الإطلاق". يسجل للحكومة الألبانية أنها زارت المخيم ثلاث مرات سعياً لإعادتها. لكنها لم تقبل بالعودة.
كلما طال بقاء الأفراد في مخيم "الهول"، يصبح الوضع أخطر بالنسبة إلى البلدان التي يعودون لها، وفقاً لأمينة. فهم عرضة للتطرف من جديد، و"كل يوم يقضونه هناك، يخاطرون بحياتهم". وتقول إن أكثر العناصر تطرفاً من الذين ظلوا هناك يتربصون بالأطفال الذين لا مرافق لهم. يشكل الخطر حافزاً للأطفال كي يحتموا من أي شخص قد يعتني بهم. وتقول أمينة "بعد أسبوعين من مغادرتي ’الهول‘، قتل طفلان في المخيم".
وتعتبر إعادة النساء (والأطفال) من سوريا موضوعاً جدلياً: فيما يعتبرهم بعض المتابعين إرهابيين، يتعاطف آخرون معهم. ويمكن لنساء كثيرات أن يزعمن بأنهن لازمن منازلهن: القسم الوحيد من أقسام أراضي الخلافة الذي عرفنه جيداً كان بين جدران منازلهن الأربعة. طبخن ونظفن وعشن حياة معزولة تماماً عن الرعب المسيطر في الخارج، كما تدعي بعضهن.
ويشكل كل من ظلوا في سوريا عبئاً يظلم قوات "قسد" لأنهم ما يزالون مصدر خطر لا يستهان به على المنطقة. في فبراير (شباط)، وصف أعضاء مجلس الشيوخ في الولايات المتحدة المخيمات على أنها "بؤر للتطرف". وفي أواخر نوفمبر (تشرين الثاني)، هدد القصف التركي على المنطقة وجودهم كلياً: وقالت "قسد" إنها لن تقدر على حراسة المخيمات في حال أطلقت تركيا عملية توغل شمال شرقي سوريا.
لكن إعادة مقاتلي "داعش" لكي يمثلوا أمام المحاكم في بلدانهم قرار أقل شعبية حتى من إعادة نسائهم وأطفالهم. وسيكون من الصعب محاكمة مقاتلين على جرائم محددة ارتكبوها: قد يكون جمع الأدلة مهمة شاقة أو باهظة الثمن أو حتى مستحيلة. قليلة هي الدول التي حاولت إعادة المقاتلين إليها، وحتى ألبانيا لم تستعد أياً منهم. لكنه موضوع يحتم على كل البلدان أن تواجهه في نهاية المطاف- وفيما قد يكون تركهم في سوريا مريحاً من الناحية السياسية، فهو ليس صالحاً على المدى البعيد.
وتجنبت دول أوروبية كثيرة إعادتهم لأنها تفضل عدم التعامل مع تداعيات هذه الخطوة: فالمحاكمات والسجن وإعادة الدمج عمليات مكلفة. ويشكل العناصر الباقون في سوريا حتى الآن خطراً على المنطقة وخطراً أكبر على بلدانهم كلما طالت إقامتهم في سوريا.
إن إعادة النساء والأطفال خطوة في الاتجاه الصحيح. طبعاً، عدد الألبان الذين قصدوا سوريا أقل بكثير طبعاً من الرعايا البريطانيين أو الفرنسيين أو من أية دولة أوروبية كبيرة أخرى، إذ يقدر عدد سكان البلاد بـ2.8 مليون تقريباً. وتعد عملية إعادة النساء والأطفال لموطنهم الأم وإعادة دمجهم في المجتمع في النهاية، أبسط عندما تكون أعداد الأشخاص أقل. لكنه من الصحيح كذلك أن ألبانيا بلد أقل ثراء بكثير من عدد كبير من جيرانه الأوروبيين. حتى مع قدراته الأقل على صعيد الدولة ووجوده الأصغر على الساحة الدولية، تمكن من إعادة النساء والأطفال لألبانيا وإعادة دمجهم في كنف المجتمع الألباني.
وألبانيا نموذج على أنه عندما تكون الدولة مصممة وعازمة، يمكنها إعادة رعاياها. وأمينة مثال على السعادة التي يمكن تحقيقها من خلال إعادة الرعايا لديارهم. صحيح أن خيار والدتها وشقيقتها البقاء في سوريا أمر مؤلم بالنسبة إليها وإلى عائلتها. فمثل كثيرات ممن اخترن البقاء هناك، هما تصدقان الأكاذيب التي قيلت لهما عن شكل المعاملة التي ستتلقيانها في حال العودة لألبانيا. لكن وجودها يساعد في التخفيف من معاناة عائلتها. وتقول جدتها عبر دموعها "لا شيء أجمل من وجودها في الديار".
إن عودة أمينة تمكنها من اختيار الاتجاه الذي ستسير فيه حياتها، بدل أن يقرره أحد آخر عنها فيما تذوي ويضيع صباها داخل خيمة في الصحراء. وهي تملك الحرية والعلم ودينها: إنها دليل حي على أن الأكاذيب التي يقصها بعضهم على النساء في "الهول" لا تقوم على أساس من الصحة.
© The Independent