ملخص
يقول أحد المسافرين القادمين من إيران إن "الجميع بات الآن ينتظر فقط وفاة الزعيم"
بينما بدأت مكالمتنا عبر الهاتف بالود والترحاب وتبادل الحديث بشأن الحياة اليومية في بلدينا، فجأة خفت صوتها وأسرعت بالقول "لا يمكنني الحديث في هذا الموضوع الحساس... لا يمكن الحديث عبر الهاتف في السياسة... الجميع هنا مراقب والوقت الحالي خطر"، هكذا أنهت صديقتي الإيرانية حديثها عندما سألتها عما تغير في المجتمع الإيراني بعد عام من وفاة الشابة الإيرانية مهسا أميني، التي لقيت حتفها في قسم شرطة بعد القبض عليها من قبل شرطة الأخلاق قبل عام بزعم إظهار كثير من شعرها تحت الحجاب الإجباري.
وكان سؤالي لصديقتي الإيرانية يتعلق بانتفاضة تلك الفتيات الصغيرات في المدارس الإيرانية ممن انتشرت صورهن في وسائل الإعلام العام الماضي وهن يخلعن الحجاب داخل فصول الدراسة في تحد للنظام، وأخريات رفعن لافتات تتحدى وتحتج ضد المرشد الأعلى علي خامنئي، وهو مشهد جديد على ساحة الاحتجاجات التي يملأ ضجيجها الشوارع الإيرانية منذ سنوات لكنها تقابل بالقمع الذي يخمدها سريعاً.
منذ سنة
أثارت وفاة أميني، التي لم يتجاوز عمرها الـ22 ربيعاً، أطول احتجاجات مناهضة للنظام منذ ثورة عام 1979 التي أسقطت الملكية واستولى من خلالها روح الله الخميني وأتباعه على السلطة ليحولوا البلاد إلى دولة ثيوقراطية، وقمعت الاحتجاجات أو ما يصفه المراقبون الغربيون بـ"الانتفاضة" بالطريقة ذاتها التي سحقت بواسطتها غيرها من الانتفاضات السابقة، واعتقل أكثر من 20 ألف شخص وقتل أكثر من 500، سواء خلال التظاهرات أو عبر أحكام الإعدام التي أصدرها النظام، أما بالنسبة إلى تلك الفتيات الصغيرات، فلجأ النظام إلى تسميمهن للتخلص من تلك المتمردات وترهيب الأخريات، ففي مدارس عدة، سقطت عشرات الطالبات في حالات إعياء شديد نتيجة التسمم بالغاز الشتاء الماضي، وهو ما اعتبره ناشطون شكلاً من أشكال العقاب على العصيان المدني الذي ظهر عبر الجامعات والمدراس خلال التظاهرات.
"النساء، الحياة، الحرية"
منذ البداية، كانت النساء والفتيات في قلب التظاهرات التي حملت شعار "النساء، الحياة، الحرية"، لكن على الأخص ظهرت تلميذات المدارس كقوة غير متوقعة تتحدى النظام، وفي أكتوبر (تشرين الأول) 2022، ظهر مقطع فيديو على الإنترنت لحشد من المراهقين في شوارع طهران يوقفون حركة المرور ويمزقون صور المرشد ويهتفون "الموت للديكتاتور". وتكررت مشاهد مماثلة في جميع أنحاء البلاد حيث سارت حشود من الفتيات والشابات في الشوارع وهن يلوحن بحجابهن في الهواء، في تعبير عن التحرر من النظام القمعي الجاثم على النفوس منذ أكثر من أربعة عقود.
وكان الرجال الإيرانيون خير داعم لنساء بلدهم، فكان ذلك الشعار الذي يبدأ بـ"النساء" حاضراً في مدرجات استاد خليفة الدولي أثناء المباراة التي جمعت منتخب إيران ومنتخب إنجلترا في الجولة الأولى من دور المجموعات ببطولة كأس العالم 2022 في قطر خلال نوفمبر (تشرين الثاني) الماضي. ورفع المتظاهرون أيضاً عبارات مثل "الحرية لإيران" وارتدى مشجعون قمصان أسماء متظاهرات قتلن على أيدي قوات الأمن الإيرانية، وفي الدقيقة 22 من المباراة، في إشارة إلى سن مهسا أميني هتف بعض المشجعين باسمها، ليس المشجون فقط، بل وقف لاعبو المنتخب الإيراني المعروف باسم "تيم ملي"، صامتين أثناء عزف السلام الوطني لبلادهم رافضين ترديد النشيد تضامناً مع المحتجين. وفي سبتمبر (أيلول) الماضي، خلال مباراة ودية مع منتخب السنغال، ارتدى لاعبو "تيم ملي" سترات سوداء من دون شعار تخفي قميص المنتخب الإيراني خلال عزف النشيد الوطني لبلادهم تضامناً مع مطالب المتظاهرين الذين خرجوا للاحتجاج عقب مقتل أميني.
صغيرات المدارس... انطلق العصفور
وبينما يمر عام على تلك الصحوة النسائية التي دعمتها فئات عدة من المجتمع، ينبغي السؤال عما تغير بالفعل داخل المجتمع الإيراني، وهل أصبحت النساء تشكل تحدياً جديداً لنظام لم يفشل قط في قمع معارضيه؟
في وقت يتفق المراقبون على صعوبة انهيار النظام في إيران، فإن أولئك الذين تحدثوا إلى "اندبندنت عربية" أشاروا إلى أن المجتمع الإيراني بات في حالة ثورة مستمرة واستياء دائم، وثمة شيء ما يتغير بقيادة صغيرات المدارس، فبعد مرور عام على وفاة أميني، تتحدى آلاف الإيرانيات هذه القواعد المتشددة يومياً، على رغم استخدام النظام لتكنولوجيا التعرف على الوجه لمعاقبة انتهاكات قوانين "الحجاب والعفة".
وروت أزاده نوافيني، أستاذة الصحافة في جامعة نيويورك، أنه بعد ظهر أحد أيام الخريف الماضي، بينما كانت تسير في "شارع الثورة"، في وسط العاصمة طهران، رأت الطالبات يتدفقن خارج مدرسة أنوشرافان دادغار الثانوية، وهي واحدة من أولى المدارس الثانوية للبنات في إيران، ورؤوسهن عارية. وأضافت "كانت الطالبات يتحدثن ويضحكن، كما لو أن كونك تلميذة إيرانية والشمس تتلألأ على شعرك هو الشيء الأكثر طبيعية في العالم". ولفتت إلى أن "الفتيات في المدارس أصبحن يرفضن ارتداء الحجاب على رغم تهديدات إدارات المدارس لهن بالعقوبات".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
المفارقة هي أن ارتداء الشادور أو الحجاب كان نفسه رمزاً للاحتجاج ضد نظام الشاه، إذ ارتدته بعض الناشطات كرمز للتمرد ضد النظام خلال الاحتجاجات عام 1979، بالنظر إلى منهجية النظام الذي ترأسه رضا شاه في عام 1925، حين وضع النساء في مركز مشروعه لتحديث إيران، ومن ثم حظر ارتداء الحجاب في الأماكن العامة ومنح النساء مزيداً من الحقوق لا سيما حق الاقتراع وسمح بدخولهن البرلمان، لكنه في الوقت نفسه سجن آلاف المعارضين الذين تعرض بعضهم للتعذيب والقتل، ومع وصول الإسلاميين إلى الحكم بقيادة الخميني عقب الإطاحة بالشاه، ظلت المرأة ساحة معركة أساسية للنظام، فحدث رد على صعيد حقوق المرأة وبات الحجاب إلزامي ليعبر عن نظام قمعي جديد.
لذا اعتبرت نوافيني أن "وجود نساء غير محجبات في طهران في الوقت الحالي وغيرها من المدن الكبرى هو العلامة الأكثر وضوحاً على ضعف سلطة الدولة". وقالت "في أواخر شهر مارس (آذار) الماضي، إذ تعلو جبال ألبرز المغطاة بالثلوج، طهران، كانت النساء يتسوقن ويرعين الأطفال الصغار ويركبن المترو ويتناولن الغداء بينما رؤوسهن مكشوفة. بعد ظهر أحد أيام شهر رمضان، رأيت مجموعة من الشابات غير المحجبات يدخن السجائر على الدرج الرخامي لأحد المساجد. لقد فعلن ذلك كل يوم تقريباً، حتى أقيم حاجز معدني أمام المسجد".
وتقول هالة اسفندياري، مؤسسة برنامج الشرق الأوسط في مركز "وودرو ويلسون" في واشنطن، إن "الطالبات في مدارس البنات شكلن تحدياً خاصاً. هؤلاء هم الشباب الذين ولدوا في ظل هذا النظام، الذين لقنتهم مدارسه، والذين قيل لهم ما يجب عليهم فعله، وقيل لهم أن يصلوا، وقيل لهم أن يضعوا غطاء الرأس على رؤوسهم منذ سن السادسة أو السابعة". وأضافت أن "تمردهم هو رمز لفشل النظام الإيراني".
قمع بلا هوادة
وينفذ النظام في طهران حملة قمع تستهدف النساء على نحو خاص منذ تلك الاحتجاجات، لكنه كثف تلك الحملة مع اقتراب الذكرى السنوية الأولى لوفاة مهسا أميني، فتم توقيف 11 ناشطة في مجال حقوق المرأة في محافظة غيلان (شمال)، وهي إحدى المناطق الأكثر تأثراً بالاحتجاجات العام الماضي، بحسب منظمة "هيومن رايتس أكتيفيستس نيوز إيجينسي" غير الحكومية التي تتخذ من الولايات المتحدة مقراً، وأكدت "منظمة العفو الدولية" أن عائلات المتظاهرين الذين قتلوا خلال حملة القمع كانوا ضحايا "توقيفات واحتجازات تعسفية لانتزاع صمتهم والإفلات من العقاب" في ما يخص مصير أقاربهم.
وبحسب "هيومن رايتس أكتيفيستس نيوز إيجينسي" ومنظمة "هنكاو" غير الحكومية ومقرها في النرويج، أوقفت قوات الأمن عديداً من أقارب ضحايا الأحد الماضي، بمن فيهم والدة حنانة كيا، وهي شابة تبلغ 22 سنة قتلتها قوات الأمن بالرصاص في سبتمبر (أيلول) 2022 في بداية الاحتجاجات. ونددت منظمة العفو الدولية بعودة حملة القمع على النساء غير المحجبات، مع تسيير دوريات وتثبيت كاميرات.
"الجميع ينتظر وفاة الزعيم"
ولا توجد علامات على انهيار وشيك للنظام الإيراني الذي يقبض بقوة على مؤسسات الحكم ويروج لنظرية المؤامرة الخارجية ضد الدين بين مؤيديه، كما أن المعارضة ليست منظمة بشكل كاف ويغيب عنها القائد. ومع ذلك، يقول مراقبون إن الاستياء الشعبي لا يزال قوياً ويزداد تفاقماً ليس فقط حيال الحريات، بل الوضع الاقتصادي الذي يزداد تعثراً.
ويقول وحيد يوسيسوي، الباحث في العلاقات الدولية والعلوم السياسية لدى جامعة مونتريال المتخصص في الشأن الإيراني، إن كافة شرائح المجتمع الإيراني تقريباً متفقة على ضرورة رحيل النظام، ويضيف "لأول مرة منذ وصول النظام إلى السلطة قبل أكثر من 40 عاماً، يتحدث الشعب الإيراني عن ثورة أخرى، وبدلاً من النظر إلى ما حدث بعد وفاة مهسا أميني على أنه مجرد احتجاجات غاضبة، ينظر إليه الآن على أنه ثورة، هذه الفكرة تسود بين الطيف السياسي كافة، اليسار والأقليات العرقية وجميع المجموعات الأخرى متفقون الآن على ضرورة رحيل النظام". ويرى يوسيسوي "على رغم أن النظام يبدو أنه سيطر على الاحتجاجات، "إلا أن الأمر ليس كذلك، فالصدى لا يزال قوياً والغضب الشعبي واسع".
ويرى كريم سادجادبور، الزميل لدى مؤسسة "كارنيغي" للسلام الدولي، أن "النظام الإيراني أثبت حتى الآن أنها متصلبة أيديولوجياً بدرجة لا تسمح بالإصلاح، وقاسية جداً بحيث لا يمكنها الانهيار، ولكن كما حدث في المراحل الأخيرة من عمر الاتحاد السوفياتي، فإن الأساسات تتآكل على مرأى من الجميع. خارج وطنهن، تصبح النساء من أصل إيراني عالمات رياضيات ورائدات فضاء من الطراز العالمي، بينما داخل إيران يناقش رجال الدين الحاكمون ما إذا كان ينبغي السماح للنساء بركوب الدراجات".
ويقول سادغادبور، في مقالته بمجلة "تايم" الأميركية، إنه "في ظل غياب معارضة ليبرالية متماسكة، فإن انهيار النظام في إيران من غير المرجح أن تتبعه نسخة إيرانية من ديمقراطية جيفرسونية (في إشارة إلى توماس جيفرسون الأكثر ديمقراطية بين الآباء المؤسسين للولايات المتحدة) مقارنةً بحكومة عسكرية". ويضيف أنه "في الوقت الحالي، تظل إيران دولة أمنية يقودها رجل دين ثمانيني يحمل لقب المرشد الأعلى منذ عام 1989، قبل أن يولد معظم الإيرانيين، وقال لي أحد الزوار القادمين من طهران أخيراً، الجميع ينتظر فقط وفاة الزعيم".