ملخص
يورغنسن، الذي يشغل منصب الرئيس التنفيذي لـ"نوفو نورديسك"، ذلك المختبر الذي أحدث منتجاه الرئيسان "أوزمبيك" و"ويغوفي" لمكافحة السمنة ضجة عالمية ارتفعت القيمة السوقية لشركته إلى أكثر من 400 مليار يورو، لتتفوق بالتالي على إجمالي الناتج المحلي الدنماركي، البالغ 375 مليار يورو
لو انجذب الدنماركيون إلى الخرافات، لرفعوا كل تعويذة جالبة للحظ باتجاه لارس فرويرغارد يورغنسن. بل أكثر، لشكروه واطمأنوا على صحته بشكل يومي.
فالحال أن يورغنسن، البالغ من العمر 56 سنة، غيّر اقتصاد بلادهم بالكامل. ومن الغريب طبعاً أن يكون شخص واحد تمكن من تحقيق هذا كله بمفرده. ففي النهاية، الدنمارك دولة لا يتعدى عدد سكانها الـ6 ملايين نسمة، وتمتلك مساحة جغرافية تبلغ 16.580 ميل مربع (26682 كيلومتراً مربعاً)، مما يجعلها في المرتبة 130 على مستوى العالم من حيث المساحة. وعاصمتها، كوبنهاغن، تعتبر واحدة من أكبر المدن في أوروبا.
وقد يصعب التصديق أنها قصة رجل واحد، لكنها حقيقية إذ إن يورغنسن، ذلك الرجل الأصلع، صاحب النظارات والزي الرسمي، يشغل منصب الرئيس التنفيذي لـ"نوفو نورديسك" Novo Nordisk، ذلك المختبر الذي أحدث منتجاه الرئيسان "أوزمبيك" Ozempic لعلاج السكري، و"ويغوفي" Wegovy لمكافحة السمنة ضجة عالمية. وبالنتيجة، ارتفعت القيمة السوقية للشركة إلى 2.9 مليار كرونة (أكثر من 400 مليار يورو)، لتتفوق بالتالي على إجمالي الناتج المحلي الدنماركي، البالغ 2.8 مليار كرونة.
وبدءاً من هذا الأسبوع، أصبحت "نوفو نورديسك" أكبر شركة مدرجة في الأسواق المالية الأوروبية، متجاوزة شركة إنتاج السلع الفاخرة العملاقة "ال في ام اتش" LVMHالتي أبقت على مركزها في الطليعة على امتداد عامين ونصف.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وخلال الأشهر الستة الأولى من هذا العام، ارتفع إجمالي الناتج المحلي الدنماركي بنسبة 1.7 في المئة. ولكن إذا استبعدنا إسهام شركة "نوفو نورديسك" من هذه النسبة، لكان سينخفض بنسبة 0.3 في المئة.
وفي هذا السياق، صرح لاس أولسن، كبير خبراء الاقتصاد في "دانسكي بنك" Danske Bank: "لولا شركة "نوفو نورديسك"، لما حصل أي نمو على الإطلاق".
ليس هذا فحسب، بل إن الدنمارك تتفوق على بقية دول العالم. فلقد ارتفع مستوى إنتاج البلاد بنسبة 40 في المئة منذ بداية الجائحة، في حين أن دول منطقة اليورو والولايات المتحدة بالكاد بدأت تعود لمستويات ما قبل كورونا.
واللافت أن الأمة بأكملها، والعالم أجمع، في حال من الدهشة تجاه ظاهرة "نوفو نورديسك".
ويعود الفضل في هذا كله إلى أن مختبر يورغنسن، في ضاحية باغسفيرد وارفة الظلال التي يقطنها سكان من الطبقة الوسطى في الشمال الغربي لمدينة كوبنهاغن، هو المختبر الوحيد المعترف به رسمياً في الولايات المتحدة لتصنيع عقار "سيماغلوتايد" semaglutide الذي يكثر عليه الطلب. وهذا المركب النشط هو جزء من دواء "أوزمبيك" الذي يعتبر أحد العلاجات الفاعلة لمكافحة داء السكري من النوع الثاني والذي تنتجه شركة "نوفو نورديسك" منذ عام 2017. ولوحظ في الآونة الأخيرة أن "سيماغلوتايد" يثير إحساساً شبيهاً بذاك الناتج عن هرمون ["ببتيد 1 الشبيه بالغلوكاغون"، ويختصر بمصطلح] "جي أل بي- 1" GLP-1 الذي يمنح إحساساً بالشبع بعد تناول وجبة طعام. وبشكل مفاجئ، أضافت الشركة الدنماركية إلى قائمة منتجاتها دواء "ويغوفي" Wegovy الذي حصد رواجاً عالمياً شاسعاً على صعيد إنقاص الوزن.
مشاهير كثر كانوا اندفعوا لتجربة هذا الدواء، من بينهم إيلون ماسك وجيريمي كلاركسون وكيم كارداشيان. فارتفع الطلب عليه بشكل كبير. ومن ثم أعلن يورغنسن وزملاؤه أن دواء "ويغوفي" قد يقلل من خطر الإصابة بنوبات قلبية وسكتات دماغية بنسبة 20 في المئة، مما أدى إلى زيادة أخرى في حجم مبيعاته.
لكن مع تقدم شركة "نوفو نورديسك" في اكتشافاتها، واجهت تحديات في مواكبة الطلب العالمي الهائل. واليوم، تحول ما كان في السابق مرفق أبحاث صغيراً تأسس منذ 100 عام إلى مقر ضخم من عصر الفضاء يطل على جميع المناظر الطبيعية المحيطة. وشهدت القوى العاملة هي التالية نمواً هائلاً، وباتت "نوفو نورديسك" توظف اليوم 22000 شخص في الدنمارك و55000 حول العالم. وأضافت الشركة الأسبوع الماضي 700 شخص إلى طاقم موظفيها.
واللافت أن الشركة أصبحت مرادفاً للدنمارك. فرواتب التقاعد الدنماركية مرتبطة كلها بمصير هذه الأخيرة. وكذلك، يبقي المصرف المركزي أسعار الفائدة عند مستويات منخفضة لأن المستثمرين في أسهم "نوفو نورديسك" المسعرة بالكرونة يدفعون سعر صرف العملة الوطنية إلى الارتفاع، ولعل نجاح شركة إنتاج الأدوية هو المسؤول الرئيس الذي سمح بإبعاد الدنمارك من الركود.
بيد أن الإقبال على "ويغوفي" الذي دفع غير المصابين بالسكري إلى محاولة شراء مخزونات من "أوزمبيك"، ربما لم ينطلق بعد بشكل كامل حتى الآن. فاليوم، يعاني مليار شخص السمنة المفرطة، وشركة "نوفو نورديسك" بالكاد بدأت تستفيد من إمكانات هذه السوق الهائلة.
ومع ذلك، ستكون خيبة الأمل من نصيب أي شخص يتوقع رؤية موظفي الشركة يحتفلون في الشارع، ويرفعون كؤوس الشمبانيا، ويقودون سيارات فاخرة، ويعيشون في قصور محاطة بأسوار. فهكذا هي الدنمارك، حيث يبقى كل شيء، بما في ذلك نجاح شركة تسجل أرقاماً قياسية تاريخية كل يوم تقريباً، متواضعاً بقصد.
هنا لا بد من ذكر سبب آخر لغياب البهرجة والتفاخر بالثراء، إذ يمكن مقارنة ظاهرة صعود "نوفو نورديسك" وهيمنتها على اقتصاد البلاد المحلي بظاهرة قد تكون عرفت سياقاً مماثلاً، إن تذكرنا شركة "نوكيا" وفنلندا التي شاءت الصدفة أن تكون هي التالية دولة اسكندنافية.
ففي إحدى المراحل، كان هاتف "نوكيا" المحمول الوحيد الذي استطاع أحد امتلاكه، وقد استفادت فنلندا من ذلك. لكن ستيف جوبز وشركته "أبل" كانت لديهما رؤية مغايرة، وسرعان ما تم إطلاق هاتف "آيفون" iPhone الذي وضع حداً لهيمنة "نوكيا" ولوجود فنلندا على قمة الهرم الاقتصادي.
وبالفعل، تتسابق شركات كبيرة وراسخة في مجال صناعة الأدوية لإطلاق منتجات "سيماغلوتايد" الخاصة بها، بما في ذلك شركتا "إيلاي ليل" و"فايزر" اللتان بدأتا تسلكان طريق التفوق على الشركات المنافسة الأخرى. ولعلها مسألة وقت ليس إلا، قبل أن تنضما إلى الصف الأمامي وتتفوقا على "نوفو نورديسك".
لكن حتى ذلك الحين، ستبقى العلامة التجارية الدنماركية في الصدارة. والطلب العالمي هائل فعلاً، إلى حد سيفسح المجال أمام أكثر من مشارك واحد [في السوق]. إلى ذلك، تشير تقديرات المصرف الاستثماري الكندي "بي أم أو" BMO إلى أن سوق مكافحة السمنة يمكن أن تصل قيمتها إلى مستويات قياسية تتراوح بين 130 مليار إلى 140 مليار دولار سنوياً.
وفي سياق متصل، تتردد أحاديث مظلمة حول إمكان أن تشجع أدوية "سيماغلوتايد" على الانتحار، وهو رابط ممكن تعمل "وكالة الأدوية الأوروبية" European Medicines Agency على استكشافه. وبالمثل، تكثر تكهنات تفيد مصلحة "نوفو نورديسك"، مفادها بأن الأدوية التي تنتجها قد تضطلع بدور كبير في مكافحة شكاوى خطرة أخرى، بما في ذلك أمراض القلب والأوعية الدموية وأمراض الكلى المزمنة ومرض ألزهايمر.
الواقع أن يورغنسن ليس إيلون ماسك آخر ولا جيف بيزوس [مؤسس شركة أمازون]. فهو لا يملك يختاً فاخراً، بل يحب القيام برحلات الكاياك في بحيرة قريبة من منزله، وهو نشأ في مزرعة عائلته في منطقة جوتلاند الريفية في الدنمارك.
وتابع [يورغنسن] دراسته في مجالي التمويل وإدارة الأعمال، وانضم إلى شركة "نوفو نورديسك" في إطار برنامج تدريب للمتخرجين عام 1991. وعمل بجد واجتهد للتقدم في الشركة، وتم نقله إلى الولايات المتحدة واليابان وهولندا وتنقل بين مختلف أقسام الشركة، بما في ذلك قسما التكنولوجيا وتطوير الأعمال. وفي سياق ذلك، التقى بزوجته، وهي زميلة عملت [معه] في "نوفو نورديسك"، ولديهما ولدان راشدان.
في عمر ـ33 سنة، تم تعيينه كرئيس تنفيذي بالإنابة لشؤون التمويل في الشركة. وفي وقت لاحق، جرى اختياره كمدير عام تنفيذي للشؤون المالية، ثم كرئيس تنفيذي للشركة. وكان يورغنسن هو من اتخذ القرار، بعد توليه المنصب الأعلى، بالسماح بإجراء تجربة مكلفة للتحقق مما إذا كان دواء "ويغوفي" قادراً على تقليل احتمال حدوث نوبات قلبية وسكتات دماغية. وكلفت الدراسة مئات ملايين الدولارات، إلا أن جرأة يورغنسن كانت مجدية.
ولا يعني ذلك أنه شخص عنيف أو جارح، وليس للحكومة الدنماركية ما تخشاه من [أي] تحديات [قد تصدر] عن أهم رجل أعمال في البلاد عبر وسائل الإعلام. فهذا ليس أسلوبه أبداً. ومثلما عمل بصمت على تولي مسؤولية العناية بالحيوانات في مزرعة جوتلاند، ظل يكرس اهتمامه بتحمل الأعباء الإدارية في "نوفو نورديسك".
إلى ذلك، لا يسعى إلى تحقيق النجومية العالمية، بل يتجنب البريق، ولا يتطلع لأن يكون من كبار المؤثرين في منتدى دافوس أو من خلال فيديوهات "تيد توكس" TED Talks، ولا يشعر بالقلق إزاء ظهوره في برامج محادثة المشاهير، حتى لو أنه كان سيتولاها بسهولة كبيرة لو رغب فعلاً في ذلك.
أما نهجه، فيتسم بالقيادة الهادئة، إذ يستمع جيداً إلى الحجج، كونه مستمعاً جيداً، ثم يقدم رأيه من دون أي أداء مسرحي [مبالغ فيه] ومن دون رفع صوته. فإيمانه كبير بقوة التقدم الجماعي.
ومع ذلك، يظل يورغنسن هدفاً لليسار في الدنمارك الذي يضغط عليه لخفض أسعار "أوزمبيك" و"ويغوفي". ونظراً إلى عدم قدرته على مواكبة الطلب على هذين الدواءين في مطلق الأحوال، ولاضطراره إلى إطلاق مزيد من المصانع، تصعب رؤية ما سيتمكن من تحقيقه. فقد يقرر خفض الأسعار، وينعكس ذلك على الأرباح، ومن ثم يستثمر في خطوط إنتاج جديدة، ومع ذلك، يفشل في وضع الأدوية في متناول المشترين ذوي الدخل المحدود.
ومما لا شك فيه هو أن دواءَي "أوزمبيك" و"ويغوفي" يجتاحان كل ما يقف في طريقهما. ومع ذلك، تظل الشركة المنتجة "نوفو نورديسك" غير معروفة جيداً، وتبقى متخفية في الكواليس. ويفضل رئيسها هو التالي الابتعاد من الأضواء، مما يعكس، باختصار، طباع الدنماركيين عموماً وعاداتهم.
© The Independent