ملخص
"كائنات مسكينة" لليوناني يورغوس لانثيموس حاز "الأسد الذهبي" منتقماً للمرأة المنتحرة
اختُتِمت أمس الدورة الـ80 لمهرجان البندقية السينمائي (30 أغسطس/ آب - 9 سبتمبر/ أيلول) بفوز "كائنات مسكينة" للمخرج اليوناني يورغوس لانثيموس بجائزة "الأسد الذهبي"، وهو الفيلم الذي نافس 22 فيلماً مرشحاً آخر من كافة أنحاء العالم (عدد منها من الولايات المتحدة)، وهذا في اطار من المنافسة المحتدمة التي أكّدت جودة اختيارات هذا العام ومستواها.
لانثيموس يوناني الأصل والولادة، لكنه يعمل منذ فترة في أميركا وأفلامه إنتاجات كبيرة. "كائنات مسكينة" أميركي الجنسية، وقد شاركت في إنتاجه الممثلة إيما ستون، بطلة العمل الذي نال اعجاب النقّاد وظل على رأس قائمتهم حتى بعد عرض أفلام مهمة كثيرة، من بينها "ذاكرة" لميشال فرنكو، "الأجنبي" الآخر الذي ينجز أفلاماً في أميركا، والذي نال عمله هذا جائزة أفضل ممثّل ذهبت إلى بيتر سكارسغارد عن دور رجل يعاني مشاكل نفسية ويرى حياته تتغيّرعندما يلتقي بأم عزباء (جسيكا تشاستاين) عانت في طفولتها.
ترأس لجنة التحكيم المخرج الأميركي داميان شازيل، وهذا رابع فيلم أميركي ينال أرفع جائزة في المهرجان الأعرق، منذ العام 2019، ما عدا "الحدث" للفرنسية أودريه ديوان التي كسرت قبل عامين هذا الخط المتواصل. ويأتي هذا التألق للأفلام الأميركية والاعتراف بها في المهرجان الإيطالي، بعد تسلّم ألبرتو باربيرا الإدارة الفنية في العام 2012 والانفتاح على السينما التي تصلنا من وراء الأطلسي.
لانثيموس البالغ من العمر 50 عاماً، بدأ ينجز الأفلام وهو في عمر الـ30 في مطلع القرن الحالي. بعد فيلمين صغيرين، أُختير عمله الثالث، "أنياب كلب" (2009) في مسابقة "نظرة ما" داخل مهرجان "كان"، فنال الجائزة الكبرى، وتبعه فيلم "ألب" الذي عُرض في مهرجان البندقية، وكانت هذه بداية شهرته التي بدأت تتوسّع. أما التكريس الأكبر فجاء مع "سراطن البحر" في العام 2015، وانتقل معه إلى صناعة أفلام دولية الطابع باللغة الانجليزية وممثّلين معروفين عالمياً. دخل الفيلم مسابقة "كان" ونال جائزة لجنة التحكيم، وكرت بعد ذلك سلسلة أفلام صادمة ومشاكسة، فتحت له أبواب سينما بموازنة أكبر وانتشار أوسع، مع نجوم تُفرش أمامهم السجادة الحمراء أينما حلو، مثل كولن فارل وإيما ستون ونيكول كيدمان. وهكذا تحوّل لانثيموس إلى أحد الأسماء التي تسعى المهرجانات خلفها لإغراقها بالجوائز.
في "كائنات مسكينة"، أخرج لانثيموس رواية للكاتب الإسكتلندي ألازدير غراي (تحمل العنوان نفسه)، صدرت في العام 1992، وتحكي عن دكتور مشوّه الوجه (ويلَم دافو) يعثر على جثة سيدة منتحرة (إيما ستون)، ويقرر استبدال مخها بمخ جنينها! فنراها تعود إلى الحياة تدريجاً، بعد هذه الجراحة السوريالية. تتخلص السيدة من الآثار الجانبية للجراحة، فتبدأ في اكتشاف اللذة الجنسية والحرية والعيش على أوسع نطاق، مما يشرع أمامها آفاقاً جديدة، بعدما كانت مقموعة خلال زواجها من رجل متسلط، مما أفضى بها إلى الانتحار.
للأصل الأدبي فضل كبير في أهمية هذا الفيلم وروعته الشكلية والمضمونية. عرف لانثيموس كيف ينقله إلى الشاشة، كيف يعالجه ويضعه في اطار بصري مثير للدهشة، إضافة إلى النبرة التي صاغ فيها الحكاية التي تتأرجح بين السوداوية والخفة. مشاهدة الفيلم متعة خالصة، تحمل لمسات فنان يميل إلى النظر في الطبيعة البشرية بطريقته الخاصة جداً، وهذا واضح في أفلامه السابقة. لكنه يبلغ هنا مرحلة جديدة من التعاطي مع أسلوب كان بلوره في "قتل الغزال المقدس". يمسك لانثيموس بكل عناصر الفيلم: التأليف والإخراج والتصوير والتمثيل.
كان "كائنات مسكينة" من الأعمال الفانتازية القليلة في مهرجان البندقية، إلى جانب "الكونت" للتشيلي بابلو لاراين (فيلم ضعيف عن بينوشيه في دور مصاص دماء نال جائزة السيناريو)، فمعظم السينمائيين يفضّلون تناول القضايا الكبيرة التي أصبحت فخاً محكماً للجوائز. وبهذا المعنى، يجوز وصف قرار لجنة التحكيم في إسناد "الأسد" إلى هذا الفيلم، بالجريء، لكونه التفت إلى المستوى الفني في المقام الأول. مع الاشارة إلى أن الفيلم ليس "بريئاً" تماماً، فهو يركب نوعاً ما الموجة الحالية في رد الإعتبار إلى المرأة. فـ"كائنات مسكينة" هو في نهاية المطاف فيلم عن المرأة وتمكينها واستعادة حريتها وفرض حضورها وشخصيتها، في صيغة كانت مليئة بالشخصيات النسائية القوية والمصممة على القفز فوق أسوار التخلف المجتمعي والسجن الذكوري، ولكن على نحو يرضي ذوق لانثيموس وهواه الفني، ويبدو أنه يرضي أيضاً أذواق أعضاء لجنة التحكيم التي تألفت من تسعة أفراد من بينها أسماء كبيرة مثل جاين كمبيون.
الممثلة إيما ستون التي أعطت أداء جذاباً في "كائنات مسكينة"، سقطت ضحية القوانين التي لا تستطيع اللجنة مخالفتها والتي تنص على عدم إعطاء فيلم فاز بـ"الأسد" جائزة أخرى. لذلك ذهبت جائزة التمثيل النسائي إلى الممثلة الشابة كايلي سباني التي لعبت دور بريسيللا بريسلي يوم تزوجت ملك الروك إلفيس بريسلي، في فيلم يحمل اسمها الصغير من إخراج صوفيا كوبولا. ممثلة أخرى كانت تستحق أيضاً الفوز بجائزة التمثيل بجدارة: ليا سايدو في "الوحش" لبرتران بونيللو. لكن يبدو أن اللجنة صممت على عدم إعطاء أي أهمية للسينما الفرنسية التي حضرت بثلاثة أعمال قوية، وهي "دوغمان" للوك بوسون و"الوحش" لبونيللو و"خارج الموسم" لستيفان بريزيه.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
"الشر غير موجود" للمخرج الياباني ريوسوكي هاماغوتشي، الذي كان أبهر محبي السينما في العامين الماضيين بـ"دولاب الحظ والفانتازيا" (فاز في برلين) و"قودي سيارتي" (فاز في "كان")، نال جائزة لجنة التحكيم الكبرى، فأصبحت له نتيجة ذلك، جائزة من المهرجانات الثلاثة الكبرى في نحو سنتين. أما اذا كان الفيلم أهلاً لهذه الجائزة، فذلك بحثٌ آخر. تجري الأحداث في قرية قريبة من طوكيو ومحاصرة بالغابات، فنكتشف تفاعل سكّانها مع قرار بناء منتجع سياحي، ستكون آثاره الصحية والبيئية "مدمرة" عليهم. يحاول هاماغوتشي أن يقدّم قصيدة بصرية بإيقاع متمهل، لكن النتيجة غير مقنعة وسرعان ما يتسلل الملل إلى المُشاهد.
فيلمان يطرحان قضايا الساعة لفتا لجنة التحكيم، بعدما نالا ردوداً متباينة من النقّاد، وهما سيكونان محل نقاش سينمائي وإجتماعي وسياسي في الأشهر القادمة. انهما "أنا القائد" للإيطالي ماتيو غاروني ("الأسد الفضي" لأفضل مخرج وجائزة ماستروياني لأفضل ممثل صاعد لسايدو سار) و"حدود خضراء" للبولندية أغنيشكا هولاند (جائزة لجنة التحكيم الخاصة). والفيلمان يتناولان مسألة اللاجئين أكانوا أفارقة يحاولون المرور إلى إيطاليا بقوارب الموت، أو سوريين وأفغانيين يعانون من بطش رجال الأمن في بولندا.