Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بعد 10 سنوات على رحيله… من يتذكّر المطرب المغربي أحمد الغرباوي؟

450 اغنية اطربت اجيالا … والشلل اعاقه عن المواصلة

المطرب المغربي أحمد الغرباوي (يوتيوب)

 لا تكاد تجد له صورة مناسبة على الإنترنت، معظم الصور هي لأشرطته الغنائية القديمة، أو لأيامه الأخيرة في المستشفى، ممدّدًا على سرير المرض. أما لحظات مجده الفنّي وقوّته الإبداعية، فهي غير موثَّقة في هذه المواقع الآهلة بصور الجميع. شباب اليوم لن يعرفوه لأنهم فتحوا عيونهم وآذانهم على غناء آخر ووجوه أخرى.

 القنوات التلفزيونية والإذاعات الخاصة لا تولي كثيراً من الاهتمام للرجل. وتبقى الإذاعة الوطنية كالعادة الملجأ الوحيد، والمنجم أيضاً، الذي يمكن أن تلوذ إليه حين يتعلق الأمر بريبرتوار الأغنية المغربية "المعاصرة" التي عاشت زمانها ومجدها منذ بداية الخمسينيات إلى نهاية التسعينيات، قبل أن يحلّ القرن الجديد حاملاً معه أشكاله الغنائية المتطورة إلى مجتمعٍ ذاكرتُه الفنية هشّة. هذا مصير فنّان كبير وصل إلى أرض الفن في زمن غير الزمن الذي نعيشه، وترك وراءه 450 أغنية ولحناً طوال ستة عقود من الإبداع والسفر عبر الطرقات اللامنتهية للفنّ. وحدهم الذين عاشوا زمانه والتاعوا بقصص الحبّ على إيقاع ألحانه، يحفظونه في الذاكرة والوجدان، ويستعيدون تحفه الفنية بالكثير من الحنين، والحسرة أيضاً على النقص في منسوب الوفاء.

حين أراد أحمد الغرباوي، الذي وُلد في ربيع 1938 بالرباط أن يدخل إلى بيت الفن، وجد الأبواب موصدة بأقفال وسلاسل. لم يجد أباً متفهماً سينتبه باكراً إلى موهبة ابنه، بل وجد أباً رفض في البداية أن يكون ابنه فناناً. فحين ضبط الأب ابنه يعزف، أمسك بالعود وكسره على رأسه. وقبل أن يكسر العود على جمجمته، سأله: "أيهما تفضل: الدراسة أم العود؟"، أجاب الطفل مطمئناً: "العود". لذلك غادر المدرسة صغيراً، وعمل بالنهار بائع تذاكر في قاعة سينما، ليتفرغ بالليل لمعهد الموسيقى. أصرّ على أن يواصل السير في طريق صعبة، وأصبح وهو في عامه الخامس عشر عازفاً على آلة الكونترباص في الجوق الوطني. وفي عامه الثالث والعشرين، مع مطلع الستينيات، أسّس برفقة صديقيه أحمد بنموسى وعبد الواحد التطواني فرقة موسيقية جديدة حملت اسم "جوق الشَّعب". 

 

غادر الغرباوي المدرسة باكراً، والتحق بمعهد الموسيقى، درس الطرب الأندلسي. ولافتتانه بالموسيقى تعلّم العزف على الكمان والعود والكونترباص والدربكّة. بدأ التأليف الموسيقي والغناء باكراً، وفضلاً عن صوته الأخّاذ، كانت ألحان قِطعه لافِتة، سواء المكتوبة بالدارجة أو الفصحى: "يا الكاويني بالنّار"، "بيني وبينك ألف خطوة"، "غريب"، "راني عييت"، "بلّغوها"، "أمّاه"، "ضاع قلبي ومناه"، "حكاية الرسالة"، "ما نويت نخونك"، "كلميني"، "فكّر مرّة"، "عد يا حبيبي"، "جاية هي"، "شكيت عذابي لنجوم الليل"، "مهما تقسى"، "وفاء"، تفكّر مرّة وطلّ علينا"، "لا تقتلي"، "بدلتيني بالغير"، "هي هي العزيزة عليّ"، وغيرها. إلّا أن الأغنية التي صار اسمه مرتبطاً بها طيلة خمسين عاماً من حياته، ولا تزال هي الأشهر لديه بعد رحيله، فهي أغنية "مُلهمتي" التي ألّفها شاعر مصري غير معروف هو أحمد نديم الذي كان مديراً لمدرسة بالرباط. 

 اطلّع الغرباوي على القصيدة، وكانت تتألف من 36 بيتاً، اختار منها اثني عشر فحسب، قام بتلحينها، لكنه عجز عن إيجاد مقدمة موسيقية ملائمة، ظلّ يبحث عنها أكثر من عام، إلى أن دخل إلى قاعة سينما "أوبرا" في الدار البيضاء، لمشاهدة فيلم روسي. استوحى المقدمة من أول مشهد في الفيلم، فخرج بعد دقائق من بدايته مباشرة إلى بيته، ليؤلّف المقدمة الموسيقية انطلاقاً من معزوفة رافقت المشهد السينمائي  لحنّها في الأصل من أجل الفنان عبد الواحد التطواني، أحد أعذب الأصوات المغربية، الذي لم يحظَ هو الآخر بالتقدير الذي يتلاءم وموهبته الكبيرة. غير أن غياب التطواني عن موعد التسجيل جعل الملحّن يسجلها بصوته. وفي سهرة تكريمية لأحمد الغرباوي خلال الفترة الأخيرة من حياته، غنّى التطواني "ملهمتي" بشكل مذهل وبصوته القويّ الذي يتلاءم كثيراً مع النصوص الطربية المكتوبة بالعربية الفصحى. 

 الذين يعرفون الغرباوي يحفظون عن ظهر قلب المقطع التالي الذي يتكرّر في لازمة الأغنية: "إنها ملهمتي في كل آنِ/  وأنا ذكرى على مرّ الزمانِ/ ساهرٌ أهذي بها دون الحسانِ". هذه الأغنية كانت أيضاً سبباً في حبّ لطيفة بوكرين للغرباوي، المرأة التي ستصير زوجته، وسندَه في الفنّ والحياة، وممرّضته أيضاً طوال سنوات معاناته الصحية.

 بدأت محنة الغرباوي نهاية السبعينبات، إذ تعرض لحادث سير خطير خضع بسببه لتسع عمليات جراحية متوالية، وعانى من تبعات الحادث طوال حياته، إلى أن أُصيب أواسط التسعينيات بشلل نصفي، وبعدها بُترت ساقه بسبب مضاعفات مرض السكّري، غير أن الرجل ظل محافظاً على ابتسامته وروحه المرحة في أصعب الظروف.

 في آخر حياته، حسب ما ترويه ابنته، كان الراحل يتحسر على ما وصفه بـ"الانحطاط الفني" للأغنية المغربية، كما كان يحسّ عموماً بالندم لاختياره طريق الفنّ. لذلك، عمل ما في وسعه كي لا ينتمي أبناؤه إلى الحقل ذاته، معلّلا ذلك بأن الفنّ يأخذ من الفنان أكثر مما يعطيه. لكنّ مُحبّيه سيَرون غير ذلك، فقد ترك الغرباوي في قلوبهم وفي ذاكرتهم صورةً لإنسان رائع طيب وزاهد، ودائم الابتسامة، وصوتاً سيبقى من أعذب الأصوات في تاريخ المغرب قديمه وجديده.

المزيد من ثقافة