ملخص
هل تخصم المنصات الصحافية المستقلة من رصيد الإعلام الرسمي المصري؟
طائرة خاصة أقلعت من مطار القاهرة محملة بالذهب وملايين الدولارات تقع بأيدي السلطات الأمنية في زامبيا، ويبدأ الإعلان عن تحقيقات مع مصريين وأجانب تحولت لاحقاً لمحاكمة بتهمة التجسس، عناوين شغلت مواقع التواصل الاجتماعي في مصر منذ منتصف أغسطس (آب) الجاري بحثاً عن حقيقة ما يتم تداوله في الإعلامين الزامبي والغربي، وسط صمت تام من وسائل الإعلام المصرية التقليدية، باستثناء بيان مقتضب على لسان مصدر مسؤول لوكالة الأنباء الرسمية، أفاد بأن الطائرة قامت بالترانزيت داخل المطار المصري في وقت سابق، وخضعت للتفتيش والتأكد من استيفائها لقواعد السلامة والأمن كافة، وأن الطائرة لا تحمل الجنسية المصرية في الأساس.
الصوت المصري الوحيد الذي تناول تلك الواقعة كانت منصات على مواقع التواصل الاجتماعي، مثل "متصدقش" (لا تصدق) و"صحيح مصر"، التي عملت سابقاً في تصحيح المعلومات المغلوطة والتصريحات الكاذبة، لتتحول إلى مصدر للأخبار تنقل عنه وسائل الإعلام الدولية ويحظى بثقة كثير من الجمهور، إذ وصل عدد متابعيها إلى مليون شخص، كما تخطى عدد المتفاعلين على منشور بشأن المتهمين في واقعة طائرة زامبيا 11 ألف شخص، وأعاد 1200 نشر "البوست".
صمت رسمي
وزاد من زخم متابعة تلك المنصة على "فيسبوك" إلقاء أجهزة الأمن القبض على أحد الصحافيين العاملين فيها، بعد أيام من بدء تغطيتها لواقعة الطائرة، وقالت "متصدقش" في بيان إن قوات الأمن لم تسأل الصحافي كريم أسعد لدى إلقاء القبض عليه في منزله سوى عن تغطية "طائرة زامبيا"، وتم الإفراج عنه بعد يوم من الاحتجاز دون توجيه تهم.
وتعرف "متصدقش" نفسها بأنها منصة صحافية مستقلة تأسست عام 2018، وتتألف من مجموعة من صحافيين مصريين شباب "غير منتمين لأي أحزاب أو جماعات سياسية"، بهدف "مقاومة الشلال المتدفق من الأخبار الكاذبة أو المضللة، وتصحيح تصريحات المسؤولين الحكوميين والإعلاميين والشخصيات العامة، فضلاً عن إنتاج تقارير معمقة وتحقيقات مفتوحة المصدر".
واقعة الطائرة لم تكن الوحيدة التي شهدت اهتماماً شعبياً يقابله صمت رسمي، ففي نهاية يوليو (تموز) الماضي ذكرت حسابات على مواقع التواصل، أن اشتباكات عنيفة جرت في موقع أمني في مدينة العريش شمال سيناء، أوقعت عدداً من القتلى في صفوف الشرطة، وأكدت وكالات أنباء دولية مثل "أسوشيتد برس" تلك الأخبار، حتى أن وزيرة التخطيط المصرية هالة السعيد نشرت تعزية لأسر الشهداء على حسابها بموقع "إكس" (تويتر سابقاً) ثم حذفتها لاحقاً، وبعد مرور نحو شهر، لم يصدر بيان رسمي يؤكد أو ينفي تلك الأنباء، فيما كانت المنصات الإخبارية المستقلة مصدراً لكثيرين، إذ حاز منشور صفحة "صحيح مصر" عن الواقعة أكثر من 1200 مشاركة.
محاولة التعتيم
عضو مجلس نقابة الصحافيين المصريين محمد سعد عبد الحفيظ نوه خلال مقالة نشرها في موقع "المنصة"، إلى أن نشر مواقع الصحف المصرية خبر طائرة زامبيا ثم حذفه أثار مزيداً من الشكوك بشأن الواقعة، مضيفاً أن "ما حدث فتح باباً أوسع للاجتهاد ولخلط المعلومات المتاحة من مصدرها الزامبي، بكثير من التأويلات والتفسيرات التي لا يدعمها المنطق، بل بدا أن أكثرها محمل بمواقف أصحابها المسبقة من السلطة المصرية"، في إشارة لما يتداوله البعض على مواقع التواصل حول صلة الطائرة ببعض الجهات الرسمية أو رجال الأعمال المقربين من الدولة.
ووصف عبدالحفيظ التصريح الذي نقلته وكالة الأنباء الرسمية بأنه "لا يسمن ولا يغني من جوع"، متهماً المسؤولين عن إدارة الإعلام في مصر، بمحاولة التعتيم على الرأي العام ودفن الأخبار والمعلومات وتغييب المواطن عن المعرفة، ظناً منهم أن ذلك يصب في صالح السلطة ويدعم سياستها وخططها، مؤكداً أن عدم فتح الباب أمام الصحافيين المصريين للقيام بدورهم في كشف الحقائق سيجعل من كل ما ينشر في وسائل الإعلام المصرية محل شك، وبالتبعية ستنعدم الثقة في من يحركونها.
وأوضح عضو مجلس نقابة الصحافيين المصرية أن حجب الحقائق وتغييب المعلومات عن وسائل الإعلام "لن يحمي سلطة ولن يصنع استقراراً، بل سيقودنا جميعاً إلى فوضى محققة".
ذكرى النكسة
ما ذكره عبدالحفيظ عن غياب الثقة بين الجمهور والإعلام الرسمي له سوابق تاريخية في مصر، فدائماً كان للمسؤول رأي آخر في توقيت الإعلان عن خبر مهم أو حتى إخفائه تماماً، ولعل أبرز تلك الأحداث كانت في حرب الخامس من يونيو (حزيران) 1967، ففي الوقت الذي أعلنت وسائل الإعلام المصرية تقدم قواتها المسلحة وسحقها للقوات الإسرائيلية، كانت الإذاعات الأجنبية تنقل العكس تماماً، وبعد ثلاثة أيام من الحيرة بين ما يقوله الإعلام الأجنبي والمحلي، صدم المصريون بتأكيد احتلال سيناء وانسحاب الجيش وتنحي الرئيس السابق جمال عبدالناصر.
العميد المؤسس لكلية الإعلام بالجامعة البريطانية محمد شومان قال لـ"اندبندنت عربية" إن ظهور منصات لتدقيق الأخبار على مواقع التواصل الاجتماعي هو أمر إيجابي ومهم للإعلام العربي كافة، وهو أمر منتشر عالمياً، لافتاً إلى أن المستخدمين لتلك المنصات هم الجمهور الواعي الذي يريد التأكد من صحة الأخبار، معتبراً أنها لا تنتقص من المواقع الإخبارية في ظل تنامي الأخبار المزيفة والإشاعات في عصر الإنترنت.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
وأوضح شومان أن عدم صدور رد فعل رسمي في حادثة طائرة زامبيا أتاح فرصة واسعة لتفشي الإشاعات والمبالغات، وهو تقصير من جانب الحكومة المصرية حسب تعبيره، مشيراً إلى أن وسائل الإعلام المحلية تلتزم الردود الرسمية، وقلة فقط من الجمهور هو من يبحث عن الحقيقة ويرفض كونه جزءاً من انتشارها، كما أكد على ضرورة السعي لإصدار قانون حرية تداول المعلومات بما سيدعم دور الإعلام المصري وسيقضي نهائياً على الإشاعات.
مبادرة إيجابية
كذلك، يرى العميد السابق لكلية الإعلام جامعة القاهرة حسن عماد مكاوي في المنصات الإخبارية المستقلة مبادرة إيجابية لتوفير المعلومات عن قضايا لا تتناولها وسائل الإعلام التقليدية، مؤكداً على الطبيعة الاحترافية للصحافيين في تلك المنصات التي تبدو في ما يقدمونه من معلومات معمقة وتفاصيل يلجأ إليها الناس لمعرفة الحقائق في ظل غياب وجهة النظر الرسمية تجاه بعض القضايا.
وقال مكاوي، إن نقص المعلومات في وسائل الإعلام الرسمية يجعل الجمهور يتجه للمنصات المستقلة، معتبراً ذلك بديلاً من التوجه لوسائل الإعلام التقليدية "المعادية" التي تبث من الخارج ولديها سياسة في بث الأكاذيب والمعلومات المغلوطة في كثير من الأحيان.
وبدا العميد السابق لكلية الإعلام جامعة القاهرة يائساً من إصدار قانون تداول المعلومات، مشيراً إلى أنه يطالب بإصداره منذ نحو 10 سنوات وهناك مشاريع قوانين كثيرة في هذا الشأن، لكنه لم يصدر لأنه يبدو هناك غياب للإرادة لإصدار هذا القانون حسب تعبيره، على رغم كونه أحد القوانين المكملة للدستور الصادر في يناير (كانون الثاني) 2014.
حرية تداول المعلومات
وتنص المادة 68 من الدستور المصري على أن "المعلومات والبيانات والإحصاءات والوثائق الرسمية ملك للشعب، والإفصاح عنها من مصادرها المختلفة، حق تكفله الدولة لكل مواطن، وتلتزم الدولة توفيرها وإتاحتها للمواطنين بشفافية، وينظم القانون ضوابط الحصول عليها وإتاحتها وسريتها، وقواعد إيداعها وحفظها، والتظلم من رفض إعطائها، كما يحدد عقوبة حجب المعلومات أو إعطاء معلومات مغلوطة عمداً".
النقاش حول إصدار قانون حرية تداول كان أحد ملفات الحوار الوطني، وشهد توافقاً كبيراً في الجلسات التي انطلقت في مايو (أيار) الماضي، حتى أن الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي، أعلن خلال حديثه في مؤتمر الشباب بالإسكندرية في يونيو الماضي، استعداده للتصديق على القانون وإرساله لمجلس النواب تمهيداً لإصداره، تعقيباً على عرض من رئيس الأمانة الفنية للحوار الوطني المستشار محمود فوزي بشأن القضايا المتوافق عليها في ذلك الوقت، وذكر خلالها فوزي أن هناك التزاماً دستورياً بمشروع قانون يتيح تداول المعلومات وهو ضمن الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان أى أن الدولة المصرية ترغب في إصداره، حسب تعبيره.
لكن الدفعة الأولى من توصيات الحوار الوطني التي أعلن عن رفعها لرئيس الجمهورية خلت من قانون حرية تداول المعلومات، ولم يذكر عنه شيئاً، ورداً على هذا الغياب المفاجئ، قال المستشار محمود فوزي في تصريحات تليفزيونية، إن القانون من الموضوعات التي لا تزال قيد المناقشة، مشيراً إلى أن "تجاوب المسؤولين مع الإعلام فيه نوع من الفروق الفردية".
وتعترف الدولة في الاستراتيجية الوطنية لحقوق الإنسان الصادرة عام 2021 بأن عدم وجود إطار قانوني ينظم عملية الحصول على المعلومات والبيانات الرسمية أحد التحديات في مجال حرية التعبير، كما اعتبرت الاستراتيجية أنه على رغم تعدد وسائل الإعلام فإنها لا تعكس التنوع في الآراء بالقدر الكافي.
الكاتب الصحافي رئيس حزب الدستور السابق خالد داوود، علق على نقص المعلومات المتاحة في الإعلام المصري والمؤسسات الرسمية في واقعة طائرة زامبيا، مطالباً السلطات المصرية بمنح مزيد من الحرية للصحافة المحلية، موضحاً بمقالة في أحد المواقع، أن تجميد عمل الصحافة والصحافيين، حسب وصفه، يضر بالوطن والمواطنين أولاً وقبل كل شيء، وأن حرية تداول المعلومات حق للمجتمع وليس منحة من السلطة.
جهود الدولة
وتبدو الصورة مغايرة في نظر آخرين، إذ أشاد تقرير أصدره المنتدى الاستراتيجي للسياسات العامة ودراسات التنمية "دراية" (مجتمع مدني) بواقع حرية الصحافة في مصر والتطورات التي شهدتها القوانين والمبادئ الدستورية، بهدف حماية حرية التعبير ومنح أكبر حماية ودعم الصحافيين والمفكرين، مؤكداً مساندة الدولة الكاملة لحرية الرأي وحرصها على استقلال الأجهزة الإعلامية بالقدر الذي يمكنها من أداء رسالتها على الوجه الأكمل.
وفي تصريحات صحافية العام الماضي، ثمن رئيس المنتدى صلاح هاشم جهود الدولة المصرية في حماية حرية التعبير والصحافة، مشيداً بحرص الدولة على إلغاء حبس الصحافيين احتياطياً فى جرائم النشر، في نصوص قانون تنظيم الصحافة والإعلام.
وكان المنسق العام للحوار الوطني ونقيب الصحافيين المصريين السابق ضياء رشوان، صرح لصحف محلية في مايو الماضي، بأنه أسهم في الإفراج عن 32 صحافياً نقابياً و18 آخرين غير نقابيين بعد التواصل مع الجهات الرسمية، موضحاً أن عدد الصحافيين المحبوسين يقارب 10 فقط.
ويؤكد الدستور المصري الصادر عام 2014، على كفالة الدولة لحرية الصحافة، وينص على أن حرية الصحافة والطباعة والنشر الورقي والمرئي والمسموع والإلكتروني مكفولة، وللمصريين من أشخاص طبيعية أو اعتبارية، عامة أو خاصة، حق ملكية وإصدار الصحف وإنشاء وسائل الإعلام المرئية والمسموعة، ووسائط الإعلام الرقمي، ويحظر فرض رقابة على الصحف ووسائل الإعلام المصرية أو مصادرتها أو وقفها أو إغلاقها، ويؤكد أنه لا عقوبة سالبة للحرية في الجرائم التي ترتكب من طريق النشر أو العلانية، بجانب التزام الدولة ضمان استقلال المؤسسات الصحافية ووسائل الإعلام المملوكة لها، بما يكفل حيادها، وتعبيرها عن كل الآراء والاتجاهات السياسية والفكرية والمصالح الاجتماعية.