للحظةٍ أو اثنتين، تسنّت لي فرصة أن أكون هارولد بلوم. "أندي، أنت تفهم أمور التّكنولوجيا وأجهزة الكومبيوتر، أليس كذلك؟" يسألني. "هيا إذن إجلس أمام ذلك الجهاز وأرسل بريداً إلكترونياً باسمي." تلك كانت بالذات اللحظة التي تمكّنتُ فيها من الدّخول إلى حسابٍ افتراضي على أنني "هارولد". كان البريد الإلكتروني عبارة عن رسالة إلى النّاشر أسأله فيها إرسال نسخةٍ عن أحدث كتب بلوم بعنوان "في حوزة ذكراها" ((Possessed by Memory الذي يُمكن تصنيفه كمذكّرات أدبيّة لـ"الممثلة البريطانية الرائعة، السّيدة جانيت سوزمان."
أنا هنا في زيارة هارولد بلوم، ناقد أميركا الأدبي المبجّل والعالِم بكلّ شيء تقريباً، في منزله الخشبي القديم والجميل في أحد شوارع نيو هيفن الوارفة الظّلال، حيث احتفل للتو بعيد ميلاده التّاسع والثمانين وحيث لا يزال مواظباً على التّدريس عبر ’سكايب‘، كونه ضعيف قليلاً ليُسمح له بالتّواجد في حرم جامعة ييل (تقول الإدارة إنّ التأمين الصحي لا يُغطّيه).
أسأله: "إذا نظرتَ إلى باكورة حياتك وأعمالك، ما عساها كانت المحطة الأبرز فيها؟"
يُجيبني متنهداً: "النبيلة جانيت."
بعد مرور أربعين سنة ونيّف، لا يزال هارولد بلوم متيّماً بحب جانيت سوزمان. بالمناسبة، زوجته جان تجلس بيننا الآن ولا تُمانع ذكرها البتة. (ولكي أكون مُنصفاً بحقّ كلّ المعنيين) أودّ أن أُشدّد على أمرٍ واحد: بلوم وسوزمان لم يلتقيا يوماً، ما لم يُحسب تواجدهما في صالة عرضٍ مكتظة لقاءً حقيقياً. ففي وقتٍ ما أواخر سبعينيات القرن الماضي، كانت سوزمان تلعب دور كليوباترا على المسرح الوطني. وكان هارولد (بالصّدفة الغريبة) في صفوف المشاهدين. بالنسبة إلى هارولد، كان حبّاً من النظرة الأولى؛ والتجربة بأكملها هزّته وزعزعت كيانه لدرجة أنه لم يقوَ على التّعبير عن شغفه الكبير إلا منذ عامٍ أو عامين، أيّ بعد أن أتحتُ للطرفين فرصة التّواصل مع بعضهما البعض عبر البريد الإلكتروني.
"أنا أعي تماماً أنني لن ألتقي بها يوماً"، يقول لي بلوم باندفاع. لكنّها ستظلّ في ذاكرتي كما رأيتُها على خشبة المسرح، ترتدي لباس ملكةٍ مصرية وتنطق بكلماتٍ ألفها بدقة ويليام شكسبير. إنّه، برأيي، أطهر حبٍّ يمكن تصوّره وأغنى عشقٍ أدبيّ بالاستعارات والصّور البيانية. كانت كليوباترا تُحبّ أنتوني. لكن في تلك الأمسية ولمرّة واحدة على الأقل، كان بلوم هو أنتوني، على الرّغم من أنّه يعتبر نفسه عموماً أقرب إلى شخصية فالستاف الخيالية، العاشق الشهواني للحياة والمغامرة.
وهارولد اليوم ليس في حالةٍ جيدة؛ فهو قعيد على كرسي متحرّك وغير قادر جسديّاً على القيام برحلات بعيدة، إذا ما استثينا مشاويره المنتظمة إلى المستشفى وعيادة التأهيل. بحسب زوجته، تُعزا حالته هذه إلى التهابٍ في المفاصل وضعفٍ في القلب. وبينما أنا في منزله، لاحظتُ وجود ممرّضةٍ تعتني به وتأتيه بمكعباتٍ من الثلج ليضعها كمادات على ظهره. يده ترتعش فيما يُوقّع نسخةً من كتابه. وفي آخر مرة راسلني فيها، قال لي بتشاؤم، "مستقبلي مبهم وغير محدّد المدّة". صحيح أنّ هذا الواقع ينطبق علينا جميعاً، لكنّه ينطبق على هارولد بشكلٍ خاص.
"مُتهالك" هي الكلمة التي يُعبّر بها هارولد عن نفسه. فقدراته الذهنية قويّة كما كانت دائماً ولكنّها محبوسة داخل جسدٍ في حالة تدهورٍ مستمرّ ونهائيّ، والسّبب إصابته بمرضٍ معاكس للخرف يُعرف علمياً بالانحلال البدني. هارولد اليوم مثال حيّ عن العقل السليم في جسمٍ أبعد ما يكون عن السليم. "أصابعي ترتجف"، يكتب النّاقد الكبير، "وساقاي تخونانني وأسناني تتداعى وبصري يتلاشى تحت تأثير التنكّس البقعي وسمعي يسوء يوماً بعد آخر. لم أعد أسمع تغريد الطيور إلا نادراً وبات كل مرتفعٍ يزيد خوفي من الوقوع". وعندما يُفكّر هارولد بالموت، يستشهد بأقوال الدّكتور جونسون: "هذا الهول السّري من الآخرة هو الرّفيق الدائم لكلّ شخصٍ قد يُفارق الحياة في أيّ لحظة وكلّ شخصٍ يهاب الموت."
وما يجمعني بهارولد بلوم رابط غريب. فوالدي يحمل نفس اسمه، "هارولد" و"هوراشيو" هو اسمي المتوسط الذي يكنّ له محبّة خاصة على طريقته الشكسبيرية. "أكاد أن أكون بسنّ والدك"، يقول لي. لكن أنا عن نفسي لا أصلح أن أكون ابنه، لأنني في حياتي الشّخصية شبَه الابن الضّال وأعاني الأمرين لتذكّر أسماء الكتب التي يحرص عليها والدي بشكلٍ خاص. أقول: "مع أنّه في الحقيقة أكثر إعجاباً بالدّراجات النارية من الكتب".
بإمكاني أن أقوم اليوم بالأمور التي لم يعد بإمكان هارولد القيام بها، كركوب الأمواج والمشي لمسافات طويلة عبر جبال مونتانا. "ألا تتعب أبداً؟"، يسألني، مع أنّه لا يهوى الذهاب إلى الشاطئ أصلاً: "أشعة الشمس تُحوّلني إلى سرطان بحر". يكفيه أنه لا يزال قادراً على القراءة والتذكّر.
وفي إطار عمله النقدّي لرواية بروست بعنوان "البحث عن الزمن المفقود" (In Search of lost Time)، يُوجّه بلوم تحية إكبار ضمنيّة وصريحة، مازجاً بين الذاكرة والفن وسط انطباعٍ فانٍ عن الخلود. وأوّل ذكرى يرويها لنا هي ذكرى اللحظة التي كان يلعب فيها على أرضية المطبخ فيما تُحضّر أمه وجبة يوم السبت. ولمّا تمرّ بالقرب منه، يُحاول الوصول إليها ويلمس أصابع قدميها. فتنحني نحوه وتُداعب شعره بيديها، قائلةً: "عزيزي هاري".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ومع مشارفة قصّته على نهايتها الآن، يحبّ هارولد أن يستشهد بآية من آيات سفر الجامعة، الإصحاح الثاني عشر: "وأيضاً يخافونَ من العالي، وفي الطّريقِ أهوالٌ، واللّوزُ يُزهرُ والجندبُ يُستثقلُ، والشّهوةُ تَبطلُ. لأنّ الإنسانَ ذاهبٌ إلى بيتهِ الأبديّ، والنّادبونَ يطوفونَ في السّوق". ومن بين كلّ آيات الجامعة، ثمة آية لم أسمعه يوماً يستشهد بها، ألا وهي: "الدّرس الكثير تعبٌ للجسد". يظهر أنّه متمسّك جداً بالتّقليد اليهودي (المأخوذ ربما من الأفلاطونيّة) والذي يعتبر الدّرس طريق الإنسان إلى الخلاص.
وُلد هارولد في برونكس عام 1930 لأبوين مهاجرين لا يتحدّثان إليه سوى باللغة اليديشيّة. "كان بإمكان أبي أن يتكلّم الرّوسية، لكنّه رفض. كان بإمكان أمي أن تتكلّم البولندية، لكنّها رفضت كذلك، لدواعٍ سياسيّة". ولهذا السّبب، لم يتعلّم الإنكليزية إلا في عامه السّادس، متأثّراً بشقيقاته الأكبر سناً اللّواتي تعلّمن اللغة في المدرسة. إذن، تعرّف هارولد بلوم على اللّغة الإنكليزية من الخارج، مثله مثل جوزيف كونراد أو فلاديمير نابوكوف، ومذاك وهو مبهورٌ بها.
في صغره، اعتاد بلوم قراءة قصائد للشاعرين ويليام بليك وهارت كراين، كما تعرّف على شكسبير في مرحلة مبكرة جداً، قل قرابة الثّامنة أو التّاسعة من عمره على ما يظن. "عندما كنتُ صغيراً جداً، كنتُ أقرأ الأشعار من دون توقّف لشعوري بالوحدة ولاعتقادي بأنّها قد تتحوّل يوماً إلى أشخاص". تقول الأسطورة إنّ بلوم كان قادراً على قراءة ألف صفحة في غضون ساعة واحدة (أمّا هو، فيؤكّد أنه كان يقرأ 400 صفحة فقط في أفضل الأحوال).
إلى اليوم، لا يزال فكر هارولد بلوم الأدبي كما هو: ساحر وشبابيّ؛ ويظهر ذلك جليّاً في مؤلّفاته الأربعين تقريباً من أشعار وروايات ومسرحيات ونصوص مقدّسة، ناهيك عن "مذكراته" التي يُكرّس معظمها لتكريم بعض كتّابه المفضّلين. ففي النهاية وكما قال أوسكار وايلد ذات مرة: "النّقد هو الشّكل المتحضر الوحيد للسيرة الذاتية". وفي مذكراته أيضاً، يحتكم بلوم بما فيه الكفاية للتوراة رغم أنّه "صوفيّ ملحد" (مثلما هو مارسيل بروست بنظره). وهو إذ يقتبس من أقوال رالف والدو إمرسون، يقول بكلّ طيبة خاطر: "كما أنّ صلوات الإنسان تنسف إرادته، كذلك المعتقدات تنسف ذكاءه وفكره."
الأدب هو أقرب شيء لهارولد من الدين. ومن وجهة نظره، الأدباء على غرار شكسبير وميلتون ووردزوورث هم البديل له عن يهوه الغائب في سفر التكوين. وهذا يفسّر رؤيته المقدّسة للكتابة واهتمامه المستمرّ في الدّفاع عن "متن الشريعة الغربية" (منذ هوميروس وحتى جيمس جويس) ضد الملحدين والمتشككين (وأنا منهم ربما).
يُمكن اختصار موقف بلوم بالآية الافتتاحية لإنجيل يوحنا: "في البدء كان الكلمة (لوغوس) والكلمة كان عند الله (ثيون) وكان الكلمة الله". هو الذي تربّى على تعاليم التّوارة، الكتاب المقدّس اليهودي. وفي مرحلة من حياته، انغرّ بتقليد ’القبالة‘ الذي يعود للقرون الوسطى ويوضّح حقيقة تكوّن الكون عبر 10 فيوض (أو "سفورات")، ولهذا فإنّ كليّة الحياة هي اللغة؛ وما الدين المنظّم من الطّراز التّوحيدي سوى تقديس للنصوص المكتوبة.
يجد بلوم العزاء في الكتب المعروضة على الرّفوف وتلك المكدّسة على الطّاولة والأرض. في كتابه "في حوزة ذكراها"، يروي قائلاً: "في كلّ مرّة كنتُ أشعرُ فيها بالبرد عند الفجر، كنتُ أمكث عند طرف السّرير لعلمي أنّه ليس من الأمان أن أنزل السّلالم بمفردي لأحتسي شاي الصّباح. وكثيراً ما كنتُ أجد الرّاحة والسّلام في (والاس) ستيفنز في كامل قوّته". لو كان بلوم ملكاً فرعونياً، لاشك أنّه كان سيطلب من أتباعه دفنه محاطاً بكتبه.
التقى بلوم زوجته جان في نيو هيفن عام 1955، فيما كانا طالبين في جامعة ييل؛ هي كانت تدرس التاريخ، وهو كان عائداً للتو من كلية بيمبروك في كامبريدج (إنكلترا) التي مكث فيها عاماً كاملاً بموجب منحةٍ دراسيةٍ حصل عليها من ’مؤسّسة فولبرايت‘. تزوّج الثنائي عام 1958. والآن، وبعد مرور ستّين عاماً على ارتباطهما، تقول جان: "لا تستطيع إيقافه. لا أحد ولا شيء يحول بينه وبين التّدريس والكتابة – فهذا ما يبرع فيه حقاً."
يميل بلوم إلى افتكار الأشخاص من وراء الكتب أو الأشعار التي تُذكّره بهم. فالطّالبة فيرغي من كنتاكي التي التقى بها في جامعة كورنيل مثلاً، "كانت صهباء وفي وجهها نمش. كنتُ أقول لها دائماً إنها النسخة الأنثوية من شخصية هاك فين. كانت فتاةً طويلة القامة وممشوقة القدّ ورشيقة بشكلٍ لا يُصدّق. كان لها أسلوبها في الرّكض من حولي فيما كنّا نتنزّه سويّاً بما أنّها كانت سريعة الخطى بعكسي". بنظر بلوم، كلّ شيء يتحقّق بواسطة الأدب. "أكاد أحلم كلّ ليلة بأصدقاءٍ لي رحلوا عن هذه الدنيا، محاولاً في بعض الأحيان أن أجمعهم بشخصيّات من نسج الخيال".
مع بلوغه هذه المرحلة من اللّعبة – منطقة "الغسق" المخيفة – يكون بلوم قد خسر أكثريّة أصدقائه القدامى والكتابة هي السبيل الوحيد لإعادتهم إلى الحياة. فمفهوم القيامة لا يزال مهماً بالنسبة إليه – ولكنّه يعني به القيامة التي تسبق المنيّة. وهو إذ يرى جسمه الحيوي يتداعي لا عجب أن نراه يلتمس العزاء في صور التّعالي التي تُجسّد لحظة خروج الرّوح من الجسد:
لمّا تكون الأجواء هادئة والسّماء صافية
مهما يكن الشّفق بعيداً عنّا،
سيظلّ ذلك البحر الخالد على مرأى من أرواحنا.
فهو الذي أتى بنا إلى هنا
وله أن يأخذنا من هنا... في لحظة،
لنتأمّل الأطفال على الضّفاف تمرح
ونُصغي لصوت المياه المهيبة يصدح... إلى ما لا نهاية!
(وردزوورث، خاطرات الخلود).
وهنا، يقتبس بلوم عن بروست قوله عن موت (كاتبه الخيالي) بيرغوت: "لقد دفنوه. لكن طيلة تلك الليلة الحزينة، كانت كتبه الموضّبة ثلاثة بثلاثة في واجهات المتاجر المُضاءة، ساهرة كالملائكة المفرودة الأجنحة لكأنّها رمزٌ لقيامته، هو الذي لم يعد من أهل هذه الدنيا."
وفي مؤلّفات بلوم، يُلاحظ أنّ هناك ثلاثة مفاهيم رئيسية تتكرر، ألا وهي: الحرية والخالق والخلود. وتظهر هذه المفاهيم الثلاثة في كلّ مرّة بمظهر الأوهام، لكن أوهام من النّوع الذي يُمكن الوصول إليه دونما جدوى أو الاستمتاع به على الأقل في الأعمال الأدبية. وفي هذه النقطة بالذات، قد يتّفق بلوم مع بورخيس على تعريف الأدب بـ"الوحي الوشيك الذي لا يحدث".
لكنّ أياً من هذه المفاهيم لن يردع بلوم يوماً عن البحث عمّا يعتبره "صوتاً أوّلياً ينطلق من الكون ويتوه في المنفى عبر الفضاء النّجمي"، ليس لأجل ذكراياته الأولى فحسب، بل لأجل ما قد يكون بمثابة الذكريات الأولى للبشرية جمعاء أيضاً. ولعلّ أحد أكثر الرّوايات التي تُثير اهتمام بلوم في العهد القديم – سفر التكوين – هي رواية يعقوب الذي يجد نفسه يُصارع إلهاً عابراً طوال اللّيل؛ فبلوم يرى في هذه القصة وفي فكرة اللقاء القريب بالخالق انعكاساً لحياته الخاصة.
"بدأتُ أرى في نومي المتقطّع في الضوء الخافت ليلاً، قصّة الصّراع الذي يُفترض بكلّ قارئٍ وحيدٍ ومتعمّق أن يخوضها حتى يعثر على كفايته في الأعمال الأدبية المرموقة."
"وأهمّ ما في الكتاب" برأي بلوم هو نظرية "رؤية ذات الآخر" التي تظهر بوضوح في مؤلّفات شكسبير وبما تضمّه من شخصيات على شاكلة هاملت وماكبث القادرين على رؤية نفسيهما من الخارج كما لو أنهما شخص آخر – وهذه فكرة مستوحاة إلى حدٍّ ما أو ناتجة عن تجربة مرّ بها بلوم (أكثر من مرّة) أو بالأحرى في كلّ مرة كان يقع فيها ويكسر جزءاً هشّاً من جسمه: "أتذكر أنني أُصبتُ أكثر من مرة بحالة تخيّلٍ حادة شعرتُ خلالها بأنّ ما يحدث لي لا يخصّني بل يخصّ شخصاً آخر."
ومن الكلمات الأحبّ إلى قلب بلوم، كلمة "مبارزة" بالانكليزية "agon". وقد لا تمتّ هذه الكلمة بصلة لكلمة "احتضار" بالإنكليزية "agony"، لكنّها تمتّ بصلة حتماً للصراعات التي كانت تُشاهد في حلبات المصارعة (أيام بن هور). وحبّ بلوم لهذه الكلمة نابع طبعاً من حالة الصراع التي يعيشها بشكلٍ دائم سواء مع شيء أو مع شخص ما، إنساناً كان أو إلهاً، أو مع الكون عموماً.
وفي السّياق الحالي، أعتقد من وجهة نظري الخاصة أنّ تعريف بلوم للكتابة الجديّة يشمل أيّ كتاب من غير السّهل تحويله إلى فيلم أو لعبة فيديو (على غرار "يقظة فينيغان" (Finnegans Wake) لجيمس جويس). فالكتب طرازٌ قديم ويُمكن أن تقف عائقاً في وجه التّكنولوجيا الحديثة. بالنسبة إلى "الكتاب الأخير هنا، فهو "كتاب الأرقام" (The Book of Numbers) لـجوشوا كوهن صاحب الشباب الدائم، وهو بمثابة هجوم شجاع على عصر الشاشة الحالي، قل محيط الإنترنت الرّمادي الهائل".
هذه العبارة أقتبسها من "كتاب الحياة المشرق"(Bright Book of Life) الذي هو عبارة عن 52 رواية مختلفة لن أملّ من قراءتها "حتى أموت". لمّا كنتُ في منزل بلوم، كان عليّ أن أبعث برسالة إلكترونية إلى السيدة جانيت. كما كان علي أن أُرسل لنفسي مسودة الكتابين الأخيرين غير المنشورين لـهارولد.
الكتاب الأول هو "كتاب مشرق" (Bright Book)، والثاني هو كتاب "تسلَّح في وجه بحرٍ من المتاعب!" (Take Arms Against a Sea of Troubles) الذي هو عبارة عن دراسة في الشّعر أو "سلطة ذهن القارئ على عالم الأموات". وكما تقول زوجة بلوم، لا شيء يردعه. يبدو أنّ كلّ كتاب يكتبه يُبعده عن الموت خطوة ويمنحه حصناً منيعاً ضدّ عامل تعرية الوقت و"يُجسد قيامته من الموت أبلغ تجسيد".
في كلّ الكتّاب وكلّ الأزمنة، في كلّ الفلاسفة وكلّ الشّعراء، يجد بلوم عزاءه – وأنسه – في وجه العدم. ومن بين هؤلاء، نذكر على سبيل المثال لا الحصر: شكسبير وشخصيّة كتابه هاملت المحتار في أمره بين أن يكون أو لا يكون: "لن نُقيم للتكهّنات وزناً. إنّ العصفور الصّغير لا يقع إلا إذا كان ذلك مُقدّراً له. وإذا حمَ القضاء الآن، فلن أستطيع إرجاءه وإذا لم يكن أجَلي مُدركي في المستقبل، فإنه لا بدّ مُدركي الآن. وإذا لم يأتني أجَلي الآن، فإنه لا شك مُدركي يوماً ما، وعلينا أن نكون على استعداد عندما يحين الحين. وما دام الإنسان لا يأخذ معه شيئاً حين يرحل، فلمَ نأسف على التبكير بالرّحيل؟"
أندي مارتن هو مؤلّف كتاب "مع تشايلد: لي تشايلد وقرّاء جاك ريتشر" (With Child: Lee Child and the Readers of Jack Reacher) (بوليتي) ومدرّس في "جامعة كامبريدج".
© The Independent