Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

محمود قرني شاعر "القصيدة المعرفية" عاش الموت ورحل

الصوت المتفرد في جيل التحديث الثاني رسخ جماليات غير مألوفة                  

الشاعر المصري محمود قرني (صفحة الشاعر - فيسبوك)

ملخص

 الصوت المتفرد في جيل التحديث الثاني رسخ جماليات غير مألوفة

بعيداً من فكرة المجايلة نستطيع أن نقول إن الشاعر الراحل محمود قرني ينتمي إلى الموجة التحديثية الثانية في مسيرة القصيدة العربية في مصر والتي تضم شعراء جيلي السبعينيات والثمانينيات، هذه الموجة التي أكدت فردية الإبداع والخروج على ما استقر من تقاليد القصيدة التفعيلية في جيلي الريادة والستينيات. ويمتاز محمود قرني - داخل هذه الموجة الثانية - بمجموعة من الخصائص جعلت منه صوتاً شعرياً متفرداً، وأولى هذه الخصائص هي: كثافة النبرة الشعرية مما وسم شعره بالصعوبة، إن لم نقل الغموض، فالقصيدة عنده - بعوالمها المتداخلة - لا تسلم نفسها للقراءة السهلة بل تحتاج من المتلقي إلى جهد مضاعف لفك شفراتها والتعامل مع ترميزاتها، وربما كان ذلك بأثر من افتنان قرني بالشاعر الكبير محمد عفيفي مطر ومن ثم محمود حسن إسماعيل.

تأصيل قصيدة النثر

ومن هنا تأتي الخاصية الثانية وهي جدل الشعري والمعرفي ومحاولة تأصيل قصيدة النثر واستزراعها في الثقافة المصرية عبر الالتفات إلى محورية المكان، على نحو ما نرى في استدعائه للمدينة الشعبية "بولاق الدكرور" التي أقام بها سنوات عديدة، هذه المدينة التي أراها مرشحة للارتباط بشعرية قرني شأن كثير من الشعراء الذين دارت شعريتهم حول أماكن محددة، كما يظهر في قصيدته "الله لا يسكن في بولاق" وغيرها وعودته إلى قناة السويس وإلماحاته إلى شخصية جمال عبدالناصر في قصيدة "منديل الزعيم" واستحضار ما يشبه الماضي الأسطوري في قصيدة "أبناء الله" حين يقول "في تلك الليلة المطيرة/ أغارت السماء على قدمين ناعمتين/ فظنا أنها القيامة/ وعندما رأيا الصحراء/ على صفحة المياه/ أدركا أنهما في سراب الأبدية/ فتزوجا/ وأنجبا بنين وبنات"، وهي سطور تعكس تفجر الطبيعة وتوالدها وتداخل الذكوري والأنثوي في ما يشبه بدائية الخلق الأول.

 

إن العودة إلى الماضي تمثل نقطة ارتكاز أساسية في شعرية محمود قرني، كما يبدو من حوار معه في مجلة الشعر المصرية حيث أكد أنه "يذهب عادة إلى الشعر الذي يأتي من لحظة ما في الماضي" وأن شعره يحتفي "بالتعيين لا التجريد، والارتقاء بالكائنات الشعرية لما فوق الواقع، ويتحقق ذلك عبر انحرافات لغوية، أو عبر غرائبية الطقس الشعري"، هذه السطور تشير إلى أكثر من ملمح في شعرية قرني منها الغواية بالماضي من خلال لغة تجسيدية تنأى عن التجريد، والارتقاء بالكائنات الشعرية فوق الواقع من دون مفارقته، والانحرافات اللغوية التي كان يسميها القدماء بالعدول عن المعنى السائد وصولاً إلى معنى المعنى وأخيراً غرائبية الأجواء الشعرية وعدم تداوليتها.

 

يعد ديوان "لعنات مشرقية" من التجارب المهمة في مسيرة شاعرنا، إذ تجاوز نقاء النوع الأدبي ومزج بين الشعري والسردي، إذ يقوم السردي على الاستطراد والوصف والتفصيل في حين يقوم الشعري على التكثيف والتوتر، وسقوط هذه الفوارق يعد امتداداً لسقوط ثنائية النثر والشعر في قصيدة النثر، ففي هذا الديوان يعود الشاعر إلى نص نثري حكائي في "ألف ليلة وليلة" التي تتسم بالشفاهية والخيال الفانتازي، وعودة قرني لهذا النص تعد امتداداً لهذا التوجه الذي صاحبه منذ "حمامات الإنشاد" و"خيول على قطيفة البيت" من تمثل روح الحضارة الشرقية وتأصيل النص الشعري والتعامل مع الهوية كمعطى ثقافي منفتح على الآخر كما يبدو من تمثله لـ"جوته" في الديوان الشرقي و"بورخيس" وغيرهما. واستدعاء أحد نصوص "ألف ليلة وليلة" يقوم على التبديل والتحويل والمحو أكثر مما يقوم على الالتزام والإثبات، ولعل ذلك هو الفارق بين النص الحديث والنص الكلاسيكي، إذ يعلي الأول من قيمتي الاختلاف والمغايرة بينما يعلي الثاني من قيمتي المماثلة والتطابق.

 

تعد قصيدة "شجرة المعرفة" في ديوانه "قصائد الغرقى" قصيدة تأسيسية لمفهوم الشعر، وهي مكتوبة بأسلوب المحاكاة الساخرة ممن أطلق عليهم "الشعراء الرفيعين"، في قلب لدلالة الرفعة، لتوحي بالانعزال عن الحياة في مقابل هؤلاء الغرقى الذين يزحمون الدنيا حولهم، ولأننا أمام غرقى تزدحم بهم الحياة ويترفع عنهم هؤلاء الشعراء الرفيعون الذين يمشون في خيلاء ويتأسفون أن الشعب لم يكن في الساحة، يصبح - في هذه الحالة - من الطبيعي شيوع تيمة الفقر المادي والروحي الذي يتداخل مع تيمة القهر التي يلحظها الشاعر في ما يبدو من إنجازات مثل "قناة السويس"، حين لا يلفته شيء سوى البحث عن "وثائق الأجداد وفؤوسهم/ وتشققات أقدامهم/ وبعض السياط التي زرعها الغرباء في برزخ ما بين البحرين"، وبإيجاز نقول إن قرني لا يرفض التحديث في ذاته بل يرفض ما يصاحبه من قهر للإنسان.

القصيدة البيان

يمكن وصف قصيدة "العابر" في ديوان "أوقات مثالية لمحبة الأعداء" بأنها القصيدة البيان وتمثيل شعري دال على وظيفية الشعر، فالشعر عنده ليس مجانياً بل ذا وظيفة اجتماعية وسياسية وهو ما يشبه العقيدة الشعرية، حين يقول "أنا واحد من المؤمنين بوظيفة الفن على عمومه والشعر على نحو خاص" من دون أن يتخلى عن غرائبية الطقس الشعري والانحرافات اللغوية المشار إليهما. ففي قصيدة "العابر" نجد انحيازاً أيديولوجياً في مقابل الشعراء الرعويين الأجلاف الذين لا يملكون ذكاءً كافياً لاحترام هذا العبور، حين يتحول العبور إلى قيمة إيجابية بخاصة إذا وضعناها في مقابل "قعود" الشاعر الذي جاوز الأربعين ولا يزال يبحث عن "ممشاة" وتأتي قصيدة العابر في نهاية الديوان مما يقربها من لحن الختام أو النتيجة النهائية التي وصلت إليها رحلة الشعر وتلخيص دلالاتها العامة، هذه الثنائيات المتقابلة بين الغرقى والشعراء الرفيعين من ناحية والعابر والشعراء الرعويين الأجلاف من ناحية أخرى تستدعي ثنائيات يراها الشاعر غير علمية، مثل التقدم والتخلف فهي في نظره نظرة استعمارية تؤكد تقسيم العالم إلى مركز وأطراف ومتن وهامش، من دون أن يعني ذلك رفض الشاعر قيم التقدم والتحضر والاستنارة.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

من خلال اقترابي من محمود قرني ومعرفتي الكبيرة به أستطيع القول إنه أكثر أبناء جيله معرفة بعيون التراث - بخاصة النثري والنقدي - ليس من خلال المراجع الوسيطة بل من خلال المصادر الأصلية، فتراه يتحدث حديث العارف عن مصادر مثل "البخلاء" و"البيان والتبيين" للجاحظ و"الأمالي" لأبي علي القالي و"عيار الشعر" لابن طباطبا، ناهيك بدواوين كبار الشعراء في عصور الشعر المختلفة وصولاً إلى العصر الحديث، وأذكر أنه حدثني عن وجود قصائد لأحمد شوقي تقترب كثيراً من قصائد لمحمود سامي البارودي، وهي معلومة ستكون محل بحث من جانبي، وأذكر - أيضاً - أنه قد ألقى قصيدة طويلة - غيباً - لإيليا أبي ماضي، هذا إضافة إلى قراءاته العميقة لشعراء التفعيلة وقصيدة النثر ليس في مصر فقط بل في العالم العربي الذي كان أكثرنا معرفة بشعرائه وربما يرجع ذلك إلى علاقته القوية بالشاعر الكبير أمجد ناصر. يضاف إلى ذلك معرفته بالشعر العالمي وعندما أبديت دهشتي لعلمي أنه لا يجيد لغة أجنبية قال إنه لم يترك قصيدة مترجمة صادفته إلا وقرأها، وقد اتضح هذا في ما كان يردده من أشعارهم وأقوالهم.

المثقف العضوي انطلاقاً من إيمان محمود قرني بوظيفية الشعر والثقافة بشكل عام بدأ دوره التنويري والشعري من خلال تأسيسه - مع هشام قشطة - مجلة "الكتابة الأخرى" التي صنعت حراكاً شعرياً واسعاً وقدمت - في الأقل - جيلين من الشعراء الثمانينيين والتسعينيين، وقدمت ما كان يوصف بالتابو في مجال الفكر تحديداً، ثم تأسيسه مجلة "مقدمة" التي عنيت بشرعنة قصيدة النثر والدفاع عنها وتوضيح جمالياتها. يضاف إلى ذلك الدور الحركي من خلال تأسيسه منتدى "المستقبل" وكتابة بيانه الأول، وفد ملتقى قصيدة النثر الذي شارك فيه عديد من شعراء ونقاد العالم العربي ثم تأسيسه منتدى "شعراء قصيدة غضب"، وأخيراً تأسيسه منتدى "الشعر المصري الجديد" الذي ترأسه شرفياً الراحل شاكر عبدالحميد ثم ترأسه بعد رحيله المفكر الكبير نبيل عبدالفتاح، وشاركه في التأسيس الشاعر والروائي علي عطا والشعراء فتحي عبدالله وعيد عبدالحليم وإيهاب خليفة وكاتب هذه السطور. وما زال المنتدى يعقد ندوته نصف الشهرية ويرعى جائزة حلمي سالم السنوية منذ تأسيسه إلى الآن. وعلى رغم مواقف قرني المبدئية التي تحسب له فإنه كان صدامياً وحاداً في تمرده، وهو ما جعله على غير وفاق مع أي مؤسسة رسمية، وهو ما جعله يقدم استقالته من بيت الشعر بعد فترة قصيرة من عضويته، وأذكر أنني حادثت المسؤولين في هيئة الكتاب في أمر نشر دواوينه فرحبوا بذلك إلا أنه رفض، والحقيقة أنني لم أكن أفهم موقفه هذا، إلى أن حدثت الانفراجة في أيامه الأخيرة فأصر مختاراته في هيئة الكتاب ومختارات ثانية في قصور الثقافة. رحم الله محمود قرني الذي آلمنا رحيله، وعزاؤنا الباقي هو ما تركه من تراث شعري ونقدي لافت وحقيقي.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة