ملخص
ليس من المبالغة القول إنه لن يكون غريباً في المستقبل كشف تفاصيل عدة غائبة تربط هذه التفاصيل المثيرة لتمرد "فاغنر"
من المؤكد أن التحليلات ومحاولة فهم دلالات مسألة تمرد مؤسس مرتزقة "فاغنر" ثم انتهاء الأمر خلال 24 ساعة بتراجعه، وإخراج صفقة لجوء إلى بيلاروس بإشراف الرئيس لوكاشينكو حليف بوتين ستستمر فترة ليست قصيرة، فهو حدث أكبر من أن يمر مرور الكرام، كما أنه أكبر من أن يمر بالكليشيهات الغربية بما في ذلك الأكاديمية منها، تلك التي تتضمن قدراً من التعميم لأمر لا يمكن تجاهل حجم العبثية واللامعقول المحيط به.
وثمة قراءات عربية عميقة حول مظاهر هذه العبثية، وفي الواقع أنه ليس من المبالغة القول إنه لن يكون غريباً في المستقبل كشف تفاصيل عدة غائبة تربط هذه التفاصيل المثيرة للتساؤل التي تبدأ من الضجيج الذي أثاره بريغوجين منذ أشهر حول تجاهل وزارة الدفاع الروسية تزويده بالأسلحة، ثم الحديث عن دور محوري لقواته في استكمال احتلال باخموت التي كانت محل صراع شديد بين الجانبين الروسي والأوكراني منذ شهور، ثم بعد أن هدأ ضجيج الرجل فإذا بالعالم يستيقظ على ضجيج أكبر واختراق قوات "فاغنر" الحدود الروسية والسيطرة على مدينة روستوف من دون الاستراتيجية الحدودية، وكأن هناك من سيقاتل هذه القوات الروسية وهي تنسحب باتجاه بلادها، وكان هذا أيضاً معلناً.
ثم يلي هذا نقاش حول ضعف الاستحكامات الحدودية، ثم استسلام الرجل والصفقة سابقة الذكر ليعقبها حوار عبثي عن تحقيقات سرية تجري معه.
ومع ذلك تصريحات أغرب من لوكاشينكو بأن بلاده قد تستفيد من تجربة "فاغنر"، ثم أكملها لاحقاً بأنها قد تدرّب قوات بلاده، وهذا مصحوب بمعلومات تكاد تكون مؤكدة عن استمرار كثير من قوات "فاغنر" في مواقعها داخل باخموت.
التفسيرات المنطقية لا تكفي وحدها، بل ربما لا تفسر على الإطلاق غرائبية المشهد، علماً بأن هذه التفسيرات تتضمن عناصر لا يمكن تجاهلها أيضاً في مجمل المشهد، وعلى رأس هذه الأبعاد ما سبق طرحه تحديداً منذ بدء الصراع في السودان من خطورة الميليشيات المسلحة غير النظامية، وما هو مستقر في دراسات العلوم السياسية من أن وجود أكثر من قوة مسلحة داخل أي مجتمع يتضمن كثيراً من الأخطار واحتمالات الصراع، وأن هذا الدرس مستقر في كثير من التجارب التاريخية ولا يحتمل تفسيرات معقدة.
لكن المسألة في روسيا تختلف تماماً عن السودان، فعلى رغم تفوق الجيش السوداني عدداً وعتاداً عن قوات الدعم السريع فإن فارق القوة في حروب المدن متقاربة، بينما المقارنة بين الجيش الروسي وقوات "فاغنر" تبدو هزلية للغاية، وكون روسيا استعانت بهم في حروبها في الشرق الأوسط وأفريقيا، فذلك طبيعة المعارك المختلفة ومستويات وقوة تسليح أطراف النزاع الأخرى في هذه الساحات التي تجعل من "فاغنر" قوة مؤثرة في هذه الساحات، وكونها أيضاً احتاجت إليهم في حروب المدن في أوكرانيا لا يجعل هذه القوات نداً لها في معارك مفتوحة مصيرية، ولن تكون مؤثرة بالقدر نفسه في بلد شاسع المساحة الجغرافية مثل روسيا، فضلاً عن أن اللجوء إلى هذه القوات كان تالياً لبدء واشنطن تطبيقها إنشاء قوة عسكرية ترتكب المخالفات والتجاوزات، وكأنها ليست مسؤولية الدولة التي أنشأتها، وبحيث لا تبدو الأخيرة وكأنها متورطة بشكل مباشر، وفوق كل هذا جانب آخر أن مفتاح تسليح وغالباً تدريب هذه القوات من الجيش الروس نفسه.
ومن ناحية أخرى وضمن السردية الغربية لما حدث يبرز بعد آخر مهم، وهو عدم تماسك جبهة الرئيس بوتين، ويكشف هذا ما تلا هذا نهاية الأسبوع الماضي من التحقيق مع القائد العسكري السابق لروسيا في أوكرانيا سيرغي سوروفيكين واتهامه بالتواطؤ مع بريغوجين.
وعلى رغم نفي هذا الاعتقال فمن دون شك أن هذا دليل آخر على وجود قطاع منتقد لوزير الدفاع شويغو، وأن تأييد بوتين لوزير دفاعه يعتبر عند قطاعات روسية عسكرية ومدنية دليلاً على مسؤولية القيادة السياسية عن التخبط والبطء غير المتوقع في الجبهة الأوكرانية، وضمن هذه السردية التي تبدو سليمة ومنطقية جاءت المبالغة التي بداها قائد "فاغنر" من اجتياحه الحدود الروسية من دون مقاومة، وهنا تبدو هذه الرواية ضعيفة، فالقوات الروسية لن تفتح النار على قوات روسية أخرى تنسحب باتجاه الحدود، فمن دون شك هذا إجراء يتم بشكل يومي في حرب ممتدة منذ أكثر من عام.
لكن بصرف النظر عن هذه المبالغات يظل هذا البعد واضحاً، وهو أن هناك تصدعاً بدرجة ما في الجبهة الروسية لا يتناسب مع خوض البلاد حرباً بهذا المستوى، لكن لم يعد هناك منطق تقليدي.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ووفقاً للتحليلات الرشيدة فهناك مظاهر ارتباك مؤكدة في الأوضاع الروسية، والخطر أن هذا في المؤسسات العسكرية، وأن ما حدث من تمرد قائد "فاغنر" لا يتسق بأي حال مع مظهر القوة والسيطرة التي طالما أبداها الرئيس الروسي على مدى أكثر من 20 عاماً اليوم، ولا مع تطلعه لمحاولة استعادة دور متعاظم في الشؤون الدولية.
لكن ثمة أبعاداً سيتوقف عليها مدى هذا الارتباك والهشاشة، ومن ثم ليس فقط مستقبل الرئيس الروسي لكن أيضاً مساعيه إلى العودة للساحة الدولية، وكيف سيكون شكل العالم في المستقبل القريب.
أما البعد الأول فهو مدى تماسك الجبهة الداخلية المدنية الروسية التي حاولت مصادر غربية عدة المراهنة عليها، بخاصة بعد تواتر معلومات عن عناصر منشقة روسية تحارب إلى جوار أوكرانيا، وأن هناك بعض الاحتجاجات المدنية التي جرى قمعها سريعاً.
وفي الحقيقة أن الشواهد تشير إلى أن بوتين لا يزال مسيطراً على الساحة الروسية الداخلية، وأن هناك درجة كبيرة من الاصطفاف الوطني خلفه، وأنه حتى الآن من الصعب المراهنة على هذا البعد، بل لا يزال الوضع الداخلي متماسكاً بقدر معقول.
أما البعد الثاني فهو الوجود العسكري لـ "فاغنر" في ساحات صراع خارجية تمثل إرهاصات الدور والنفوذ الروسي الخارجي الفعلية، وبخاصة في مالي وأفريقيا الوسطى وشرق ليبيا وسوريا، ومثلما لم يتم استدعاء قوات "فاغنر" من تمركزها في أوكرانيا حتى الآن، فإن القوات المنتشرة خارجياً لم تتعرض لأي تغيير باستثناء الحديث عن غارة جوية مجهولة تعرضت لها شرق ليبيا، وقد كان وزير الخارجية لافروف واضحاً في أن استمرار هذه القوات رهن بالدول التي تعتمد عليها، فضلاً عن وجود تقديرات بأن بوتين بعث بتطمينات لهذه الأطراف باستمرار هذا الحضور.
إن هذا البعد تحديداً سيكون معيار تقييم ودلالة مع تأثير هذا التمرد في وضع روسيا، فلو استمرت الأوضاع كما هي عليه الآن فعندئذ قد يكون من الحكمة التعامل مع تمرد "فاغنر" تمرداً عابراً لقائد عسكري في وحدة من وحدات الجيش الروسي جرى احتواؤه بشكل سريع، وأن الوصول إلى تسوية لهذا التمرد من دون إراقة دماء هذه القوات كان أولوية استراتيجية لموسكو حفاظاً على دورها في ساحات الصراع داخل أفريقيا والشرق الأوسط، وأنه غالباً سيتم في القريب العاجل تعيين قائد جديد أقل ضجيجاً، في الأقل ميداني، لهذه القوات، وأكثر انضباطاً وخضوعا للجيش الروسي وقيادته العسكرية.
وأخيراً يبقى البعد الأخير وهو ماذا سيفعل قائد "فاغنر" في بيلاروس ومعه نحو 1000 من حراسه ومقاتليه، وهو تحت حماية وسيطرة أحد حلفاء بوتين الأكثر إخلاصاً، وماذا سيكون دوره لو اتسع نطاق الحرب إلى بيلاروس؟ وما معنى أن "فاغنر" ستدرب الجيش البيلاروسي؟ وعلى ماذا تحديداً؟ وهل لتدخل محتمل في أوكرانيا من جبهة جديدة في ظل حسابات عسكرية أخرى أم لعمل ميليشيات جديدة توظفها بيلاروس مع روسيا، خصوصاً أن القوة الشيشانية أيضاً أصبحت مطروحة في أوكرانيا وربما ساحات أخرى؟
ليس الهدف من العرض السابق التهوين من نتائج هذا التمرد أو دلالاته، لكن تأكيد أهمية عدم المبالغة مع الحذر مما هو مقبل، كما يظل في النهاية من الضروري الأخذ في الاعتبار أن الحدث لا يزال يتفاعل، وأن ثمة جوانب عدة تحتاج إلى بعض الوقت لكشف أبعادها.