ملخص
معرض باريسي "يكتشف" فناً استثنائياً مزج بين تاريخ الإبداع وجماليات طبيعة لا تضاهى
لفترة من الزمن خلت لم يكن اسم رسام القرن التاسع عشر الياباني كونييوشي معروفاً كأسماء عدد من زملائه ومجايليه من الذين عرفهم العالم على نطاق واسع، ولا سيما منها أوروبا منذ ذلك القرن وكانت لإبداعاتهم مساهمات أساسية في تطور الفن الانطباعي إلى درجة أننا نعرف لوحات لفان غوغ وويستلر وبازيل حاكت فنونهم محاكاة تامة. ونتحدث هنا طبعاً عن عدد من رسامين يابانيين باتت أسماؤهم علامات في تاريخ الفن المعاصر من أمثال هاكوزاي وهيروشيغي بل حتى إيزن الذي لئن كان تأخر عن الركب فإنه اشتهر حتى قبل كونييوشي بزمن طويل، ولكن بما أن المثل الشهير يقول "أن تصل متأخراً خير من ألا تصل أبداً" ها هو ذا اسم كونييوشي ينتشر منذ سنوات ليكتشف الهواة فنه الفريد وأسلوبه الذي يتجاوز الأبعاد الجمالية الخالصة ليغوص في أبعاد معرفية لم تكن متوقعة. ولقد تعرف الجمهور الفرنسي بخاصة إلى فن كونييوشي قبل سنوات قليلة من خلال نحو 70 ملصقاً له شاركت في معرض جماعي أقيم في العاصمة الفرنسية تحت عنوان "على طريق كيسوكايدو"، وكان نجومه أربعة هم هيروشيغي - الذي سيعود من باب السينما عند ربيع عامنا هذا عبر فيلم ياباني بديع تابع سيرة حياته - وهاكوزاي وإيزن إضافة إلى كونييوشي الذي كان اكتشافاً حقيقياً.
غياب طويل
كان كونييوشي مجايلاً لهيروشيغي، بل إنهما ولدا في العام نفسه 1797، لكنه لم يحظ بما يوازي شهرته والسبب بسيط. فالزمن الذي نشط فيه الفنانان كان زمناً تروج فيه ملصقات المشاهد الطبيعية ويقبل الجمهور على "إسطمبات" يطبعها الناشرون بآلاف النسخ لتباع وتعلق في البيوت معرفة اليابانيين على أرجاء بلادهم ومنها بخاصة تلك المجموعات التي اعتادت أن تصور مراحل الطريق بين كيوتو وطوكيو – التي كانت تحمل اسم إيدو في ذلك الحين. وكانت الرسومات تتغنى بالفصول والمناظر الطبيعية وعناصر الطبيعة بما فيها العواصف وتقلبات الجو. وهذا ما برع فيه هاكوزاي وهيروشيغي بصورة خاصة. وفي المقابل برع إيزن - الذي تأخر اكتشاف الأزمنة اللاحقة لفنه عن زمن اكتشاف زميليه الكبيرين - في رسم الحياة اليومية للناس العاديين ولا سيما المتنقلون منهم عبر الطرقات في تلك "المراحل" الشهيرة التي تعبر عن المحطات التي يمكن التوقف عندها ورسمها على الطريقين الرئيسين بين المدينتين الكبيرتين: طريق "كيسوكايدو" الجبلية وطريق "توكايدو" البحرية، ولكن في المقابل كان من سوء حظ كونييوشي أن انصرف إلى الاهتمام كما أشرنا، بالتاريخ والتراث وحكايا الساموراي وبخاصة عبر تصويره ممثلين من مسرحي "النو" و"الكابوكي" وغيرها من ضروب الاستعراضات الفولكلورية وهم يؤدون أدواراً ومشاهد تدور في تلك المراحل.
بورجوازية متنورة
وفي ذلك الزمن، في اليابان بخاصة ولا سيما في المدن حيث تنشأ بورجوازية متنورة تعرف كثيراً عن المسرح، لم تكن ثمة حاجة إلى أن تنقل مشاهد هذا الأخير إلى البيوت على عكس ما كان الأمر عليه بالنسبة إلى النجوم الذين راحت تروج بورتريهات لهم. ومن هنا بدت اختيارات كونييوشي سابقة لأوانها حتى وإن كانت ناجحة بحدود ويقبل الأكثر تنوراً على اقتنائها من دون أن تحظى بقدر كبير من الشعبية. كان على هذا الفنان أن ينتظر طويلاً بالتالي حتى يحظى بشهرة تضاهي شهرة زملائه. وهو لم يتبرم من ذلك الواقع ولا تبرم كذلك الناشرون الذين راحوا يراهنون على المستقبل. والحال إن تصفحنا اليوم أعمال كونييوشي تفيدنا بأن الرهان لم يكن مخطئاً. فلئن كان هاكوزاي وهيروشيغي وحتى إيزن قد تركوا لنا صوراً بديعة - ستبدو في النهاية أقرب إلى البطاقات البريدية - للحياة الطبيعية والشعبية واليومية في يابان أواسط القرن التاسع عشرـ فإن كونييوشي ترك لنا سجلاً حافلاً بتفاصيل الحياة الفنية والتراث الشعبي، وينطبق هذا بشكل خاص على تلك المجموعة من 69 إسطمباً هي التي شاركت في المعرض الجماعي الذي أشرنا إليه. ولعل اللافت هنا هو أن لهذه المجموعة حكاية لا بد من التوقف عندها.
بديل فني حقيقي
ففي شكل عام كان من المعروف أن ذلك النوع من الرسوم الملونة التي كانت تنجز خلال أشهر وسنوات حتى، في محترفات الطابعين والناشرين بعد أن يكون الرسام قد أنجز نموذجها الأول، وغالباً ميدانياً، بمعنى أن الرسام، على غرار هاكوزاي وهيروشيغي، كان يقوم بالرحلة في مراحلها المتعددة بتمويل من الناشر نفسه ويتوقف عند كل محطة ليرسمها بألوانه القشيبة مستعملاً إلى أقلامه وتجديداته الشكلية خياله الواسع ونظرته المتفحصة إلى علاقة الطبيعة بتقلبات الجو وربما بانفعال الناس أنفسهم بتلك التقلبات، وغالباً تبعاً لقوانين جمالية – تقنية كان الفنانون الصغار يتبعونها بدقة وحرص، فيما يضيف الفنانون الكبار إليها ويجددونها وقد منحهم الناشر حريتهم الكاملة في الإقدام على ذلك، ذلك النوع كان محبباً للناس ونادراً ما خلت جدران البيوت منه... وكان الفنانون يتنافسون على إنجاز رسوم للأماكن نفسها بحيث تكشف تلك الرسوم عن براعة معينة أو نظرة مختلفة تماماً عن نظرة فنان آخر. وكان الناس يتابعون ذلك النمط من التنافس الحميد والشريف بين الفنانين. ومن هنا مثلاً، وكما تبين من خلال المعرض الجماعي الباريسي، استمتع المشاهدون كثيراً بالتنافس الذي تجلى في مجموعة أولى عرضت لأعمال حول المراحل نفسها حمل ثلثاها توقيع هيروشيغي وثلثها الباقي توقيع إيزن. فبدت في مجموعها الذي قارب السبعين إسطمباً وكأنها تتكامل في مزجها بين المناظر الطبيعية الرائعة كما عبر عنها الأول، وحياة الناس اليومية كما عبر عنها الثاني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كونييوشي على الخط
لكن حكاية هذه المجموعة توقفت ها هنا، إذ ولأسباب لم تتضح أبداً وبعد أن كان من المتفق عليه بالنسبة إلى الناشر المشترك لأعمال هيروشيغي وإيزن أن يرسم كل واحد منهما المراحل الـ69 على طريقته وبأسلوبه الخاص، توقف المشروع عند ذلك العدد الذي شارك في المعرض بعد قرن ونصف القرن تقريباً، ليتفق الناشر نفسه مع كونييوشي على استكمال المجموعة بعدد من الإسطمبات يوازي عدد المراحل نفسه. فكانت رسومه التي يمكن اعتبارها اليوم من أكثر أعمال فنون "المراحل" غرابة ولكن أيضاً أهمية حيث نجح الرهان بالنسبة إليها إذ كان رهاناً على أن الزمن سينصف هذا الفنان الذي بدا موسوعياً في اهتماماته واختياراته. ولقد رسم كونييوشي لوحاته بين العامين 1852 و1853 فاعتبرت من أنضج الأعمال التي تنتمي اليوم إلى التيار المسمى "أوكيو إي"، وتعني "العالم العائم" أي اللوحات التي تصور تقلبات العالم وأحواله من خلال اللجوء إلى تخليد مشاهده الفنية وتراثه الشعبي. ومن هنا بدت مختلفة تماماً عما أنجزه هيروشيغي وحتى عما أنجزه إيزن. حيث، وبحسب النقاد والمؤرخين، لئن كانت أعمال هذين الأخيرين تكشفهما لنا بوصف الأول شاعر الطبيعة وجمالها المطلق، وبوصف الثاني شاعر الحياة اليومية، أتت أعمال كونييوشي تقدمه لنا فناناً حقيقياً ليس بمعنى استخدامه فنه الكبير لرسم مواضيعه، بل استخدام معرفته الفنية للعثور على مواضيعه، بحيث راحت كل رسمة له تضج بالحياة جامعة بين حياة الناس والفن الذي يعبر عن تلك الحياة.
أكثر من زينة
ولم يكن ذلك غريباً على فنان عاش حياته كلها غارقاً في فن المسرح وتفاصيل الحياة في مسرح الدمى والأدب الكلاسيكي... ولعل الطريف في الأمر أن ناشره لم يتردد في قبول هذا الجانب من إبداعه حتى وإن كان يعرف أن الجمهور العريض لن يكون على الموعد. وربما لهذا السبب استغرق فن كونييوشي زمناً قبل أن ينتشر حقاً بين الناس في اليابان. أولئك الناس الذين لم يقرأوا مثلاً الرواية الشعبية التراثية "800 بطل من سويكودين" أو "بيجين" وطبعاً قبلهما "8 مشاهد من إقليم أومي" إلا وهي مزينة برسوم وضعها الرسام نفسه لها - 100 رسمة خالدة للرواية الأولى وحدها - لكنهم سيتأخرون كثيراً في التنبه إلى أنها رسوم لم توضع لتزيين النص فقط، بل لرفده بمعادل جمالي ومعرفي لا يقل عنه قيمة، تماماً أن الغرب، وباريس بخاصة، سيتأخر في اكتشاف هذا الفن الأصيل، حتى وإن لم يكن متفرداً في يابان تلك الأزمنة.