ملخص
مع هبوط قيمة العملة الوطنية واختلاف أسعار بيع الوقود في إيران مع الأسعار العالمية فإن الحكومة ليس أمامها سوى خيارين، إما تعديل أسعار الوقود أو اللجوء إلى الرصاص والهراوات.
خلص القائمون على الاقتصاد الإيراني في حكومة إبراهيم رئيسي أخيراً إلى أنه لا يمكن احتساب أسعار البنزين على أساس دولار واحد فقط، وبالتالي تعجز الحكومة عن تسديد الدعم للوقود وتبلغ قيمته 54 ألف مليار دولار، وفي مثل هذه الظروف يبدو أن النظام قد يلجأ إلى عملية قيصرية اقتصادية من خلال تعديل أسعار الوقود.
وكانت الحكومة الإيرانية لجأت إلى إجراءات مختلفة لسد عجز الموازنة من خلال طباعة النقود وإلغاء موازنة الإعمار والدعم الحكومي لبعض السلع الأساس ومنها الخبز، وكانت تنوي تنفيذ إلغاء أو خفض دعم الوقود العام الماضي، لكن حادثة انهيار مبنى "متروبوليتان" في عبادان جنوب غربي إيران والاضطرابات الاجتماعية التي تلته والاحتجاجات الشعبية التي بدأت في سبتمبر (أيلول) الماضي حالت دون اتخاذ مثل هذا القرار.
الأجهزة الأمنية والاقتصادية الإيرانية قلقة من تحويل الاحتجاجات الاجتماعية إلى اقتصادية، ولذلك أجلت تنفيذ سيناريو رفع أسعار الوقود أو كما يسميه النظام "تقنين توزيع الوقود"، وأعلنت أن الوقت ليس مناسباً.
وفي يونيو (حزيران) الجاري أقدمت على إلغاء بطاقات الوقود من المحطات المنتشرة في البلاد بالتزامن مع هبوط مخيف في قيمة العملة المحلية بلغ 60 في المئة، وذهب محللون إلى أن هذا الإجراء مقدمة لتنفيذ سيناريو تعديل أسعار الوقود.
وعلى رغم إعلان مسؤولي النظام عدم وجود نية لتعديل أسعار الوقود، لكن بعض الخبراء الاقتصاديين مثل حامد باك طينت يؤكدون أن النظام لا يمكنه تحمل كلف الوقود المدعوم في ظل المقاطعات الدولية وانعدام أمل حلها في الأمد القريب.
خلفية غلاء البنزين
بعد وصول النظام الإيراني عام 1979 إلى سدة الحكم كان سعر الوقود توماناً واحداً (عملة رسمية إيرانية تكافئ 10 ريالات) وكان هذا المبلغ يعد قريباً لأسعار الأسواق العالمية، كما كان أغلى من أسعار الوقود في عدد من بلدان المنطقة.
لكن عملية هبوط قيمة العملة المحلية والتضخم وهبوط القدرة الشرائية للمواطنين وغلاء أسعار الوقود في إيران وضعت النظام أمام معادلة صعبة تتطلب حلاً لإنهاء حال الفوضى في ظل الحظر الدولي، مما أدى إلى مشكلات كثيرة ومنها تفشي الفقر في البلاد.
وتحولت أسعار البنزين من تومان واحد نهاية السبعينيات إلى خمسة تومانات ثم 10 تومانات عام 1995، وارتفعت أسعار الوقود إلى 35 توماناً عام 2009، لتسلك أسعار الوقود منحى تصاعدياً بلغ 35 في المئة.
وبعد عام 2009 طرحت حكومة أحمدي نجاد مشروع إدارة الدعم الحكومي للوقود في ظل الشرخ الواسع بين أسعاره محلياً وعالمياً، ولجأت الحكومة إلى عرض سعرين، 80 توماناً للأسعار المدعومة و100 تومان للأسعار الحرة.
وفي الولاية الثانية لحكم أحمدي نجاد ارتفعت أسعار الوقود إلى 700 تومان ووصلت الأسعار الحرة إلى 1000 تومان، وبعد وصول حسن روحاني إلى الحكم ألغت حكومته الأسعار المدعومة وثبتتها على 1000 تومان.
وفي عام 2019 وبعد عودة مشروع بيع الوقود بسعرين، سعر مدعوم وآخر حر، وصلت أسعار الوقود إلى 1500 تومان لكل 60 ليتراً، ووصلت الأسعار الحرة إلى 3 آلاف تومان، مما مهد للاحتجاجات الدامية عام 2019، وخلال الـ 40 عاماً الماضية وفي ظل ارتفاع أسعار الوقود شهد المجتمع موجتين للاحتجاجات على غلاء البنزين مع اشتباكات محدودة في عدد من محطات الوقود.
سيناريوهات رفع أسعار الوقود
حاولت حكومة إبراهيم رئيسي خلال العامين الماضيين قطع الدعم الحكومي للوقود وطرحت هذا المشروع تحت عنوان "ترشيد الدعم الحكومي"، ورسم القائمون عليه سيناريوهات عدة نفذت الحكومة بعضها خلال الأعوام الماضية ورفعت أسعار الوقود وطرحت بعضها كخيارات محتملة.
المرحلة الأولى التي سارت عليها حكومة رئيسي هي تثبيت الأسعار الحالية وإلغاء الدعم الحكومي من أسعار الخبز وباقي السلع الأساس، وأدت هذه الإجراءات إلى إعادة حال "التمويل الحكومي" الذي شهدته إيران خلال فترة الحرب مما أدى إلى تضخم غير مسبوق، لكن بعض المسؤولين في حكومة رئيسي يرون أن هذا الإجراء ليس مناسباً لحل المشكلات، ويجب اللجوء إلى عملية قيصرية اقتصادية من خلال إلغاء الدعم الحكومي لأسعار البنزين، وهذه الفئة في حكومة إبراهيم رئيسي تؤيد ارتفاع أسعار الوقود ومواجهة الأزمة الناتجة منها.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعتقد بعض الخبراء مثل سيد يعقوب زراعت كيش ومحمد عربلو في نظرة مشابهة بأن "على الحكومة أن تلغي الدعم الأسود على أسعار الوقود".
لكن مركز دراسات المجلس طرح ثلاثة مشاريع، منها عرض ثلاثة أسعار للوقود مع تثبيت الدعم الحالي، 60 ليتراً بـ 1500 تومان، إضافة إلى 150 ليتراً بـ 3 آلاف، ليضطر الناس إلى استخدام بطاقات الوقود مع منحهم إمكان شراء الوقود بأسعار حرة غير خاضعة لسياسات الدعم الحكومي.
وهناك مشروع ثالث يطرحه وحيد جليلي ويتركز على أساس توزيع الدعم الحكومي بين جميع المواطنين مع منحهم حرية بيع حصصهم من الدعم.
يد الحكومة مكبلة أمام الغلاء
والنظام الإيراني يرى يده مكبلة أمام إجراء مشروع رفع أسعار الوقود، لأن الخطوة الأولى في تنفيذ مثل هذه المشاريع هو وجود ثقة شعبية، وهذا ما يفتقده في الوقت الحالي، ولا تقبل حكومة رئيسي تبعات رفع أسعار الوقود لأنها تعلم أن هذا المشروع يؤدي إلى صدمة نفسية وتضخم كبير.
في الواقع هناك شرخ كبير في المجتمع بسبب أسعار الوقود، إذ لا يتناسب التضخم مع موارد الناس بسبب السياسات الاقتصادية الخاطئة للنظام الإيراني وسلوكه في التعامل مع المجتمع الدولي، كما أن إنتاج السيارات ذات المستوى المتدني والتي تستهلك وقوداً أكثر من المعايير المعتمدة يعد أحد أسباب ارتفاع استهلاك الوقود وبخاصة في الأقسام العامة والخدمية.
وعلى هذا الأساس فإذا ما قررت الحكومة تحميل الشعب أسعار الوقود من خلال إلغاء الدعم الحكومي، فإنه طبقاً لما يحذر منه خبراء علم الاجتماع ستتحول الاحتجاجات من طابعها الاجتماعي إلى احتجاجات اقتصادية بخاصة بين الطبقات الفقيرة في المجتمع، ومن المستبعد أن يكون النظام قادراً على قمعها مثلما فعل عام 2019.
ومن الآثار المهمة لرفع أسعار الوقود هو تأثيرها في جميع أقسام الاقتصاد الإيراني، وقد وعدت الحكومة بإيجاد توازن اقتصادي من خلال توزيع الدعم الحكومي، لكن كلف الحياة ارتفعت بشكل كبير مما يؤثر في الطبقات الضعيفة، وفي المقابل تنتفع الشرائح المرفهة في المجتمع لإمكان وصولها إلى الموارد وكسب مزيد من الأموال بسبب غلاء الأسعار، وهذا يؤدي بالضرورة إلى تعميق الشرخ بين طبقات المجتمع بنسبة تتجاوز 15 ضعفاً مما هو عليه في الوقت الحالي.
كما أن الإنتاج في البلاد ربما يتحمل صدمة جديدة ما لم تكن هنالك ظروف مناسبة للعمل واستقرار اقتصادي يكفل إلغاء الفساد والتراجع الاقتصادي، إذ تؤدي مثل هذه الأزمات إلى انخفاض الطلب وبالتالي يلجأ أصحاب المشاريع التي تنتج سلعاً محلية مختلفة إلى تسريح القوى العاملة لتواجه مصير الانهيار.
وينذر الوضع الحالي هذا العام بأزمة اقتصادية كبيرة في البلاد بسبب عجز الموازنة وعدم تحقيق موارد الدولة، كما أن سيناريوهات ارتفاع أسعار الوقود من شأنها أن تترك آثاراً اجتماعية واسعة ولا يمكن في ظل هذه الظروف السيطرة على التضخم.
معضلة سياسية في أيدي المراوغين
تعجز الحكومة عن إقناع الشعب بأن تقنين أسعار الوقود يهدف إلى تحقيق عدالة اجتماعية، وهي متورطة في إنتاج وقود يتناسب مع معايير عالمية وتنتج سيارات متدنية المستوى مما يؤدي إلى ارتفاع استهلاك الوقود وتوجيه أضرار كبيرة إلى البيئة وسلامة المجتمع والموارد الوطنية، وقد ذكر تقرير لمركز البحوث في مجلس الشورى الإيراني أن أحد أسباب الاستهلاك الكبير للوقود هو إنتاج سيارات متدنية المستوى تستهلك وقوداً كثيراً، كما نصح التقرير الحكومة بإدارة أسعار الوقود من خلال تقليل قيمة الجمارك للسيارات المستوردة ورفع معايير الإنتاج الداخلي للسيارات، لكنها لم تفعّل هذه التوصيات خلال الأعوام الخمسة الماضية ولجأت إلى وضع يدها في جيوب الشعب لسد عجز الموازنة الناتج من النسبة الكبيرة لاستهلاك الوقود.
كما أن الشعب ينظر إلى الحكومة على أنها المتهم الأول في الأزمة الاقتصادية بسبب انعدام الاستقرار الاقتصادي وارتفاع نسبة التضخم وهبوط قيمة العملة الوطنية وتفشي الفقر وعدم اهتمام الحكومة بانخفاض القدرة الشرائية للمواطنين، وبخاصة الشرائح الضعيفة.
مثل هذه الظروف أدت إلى الاحتجاجات الدامية عام 2019، إذ تخلى النظام عن قبول مسؤولية خفض كلف الأجهزة الحكومية وسياساته الخارجية، فلجأ إلى جيوب الناس مما أدى إلى احتجاجات واسعة في البلاد.
وفي الصيف الحالي تعجز حكومة رئيسي عن الاستمرار في الدعم الحكومي للوقود، كما لا تستطيع إيجاد عملية قيصرية في الاقتصاد وتعديل أسعار الوقود بسبب الاحتجاجات الشعبية والشرخ العميق بين الحكومة والشعب وتفشي الفقر، وطبقاً للخبراء فقد تحولت البرامج الاقتصادية لحكومة رئيسي إلى لعبة شطرنج، إذ إن الخطوة الأخرى فيها تؤدي إلى موت الملك، وهذا يعني إسقاط النظام أو ضياع فرصة أن يصبح رئيسي مرشداً للنظام بعد خامنئي، لكن الاقتصاد ليس لعبة شطرنج، إذ إنه مع هبوط قيمة العملة الوطنية واختلاف أسعار بيع الوقود في إيران مع الأسعار العالمية فإن الحكومة ليس أمامها سوى خيارين، إما تعديل أسعار الوقود أو اللجوء إلى الرصاص والهراوات.
عن "اندبندنت فارسية"