ملخص
الشكوى من الضوضاء تصدح في بريطانيا، مهددة الأعمال الليلية ومثقلة كاهل المجالس البلدية والمتخصصين في حماية البيئة. هل علاقتنا بالضوضاء هي لائحة اتهام شديدة موجهة للنفسية البريطانية في عام 2023؟ كيف صار البريطانيون مهووسين جداً بالضوضاء؟
القرقعة البطيئة المنتظمة الآتية من غسالة في الطابق العلوي. نباح الكلب المتكرر دائماً. جهير مكبرات الصوت التي يستخدمها شخص آخر. هل تشعرون بالتوتر أم ليس بعد؟ يمكن أن تكون الضوضاء شيئاً شخصياً - يتم تعريفها على نطاق واسع على أنها شكل من أشكال الصوت غير المرغوب فيه، ويختلف هذا حتماً من شخص لآخر. للاستفادة من مثال الكلب المذكور أعلاه: الحيوان الأليف ذو الصوت المحبب بالنسبة لأحدهم هو كلب ضار يعوي بشكل لا يطاق بالنسبة لآخر. على كل حال، يبدو أن تسامحنا مع الضوضاء، وبشكل جماعي، على وشك التبخر.
وفقاً لمعهد تشارترد للصحة البيئية فإن الضوضاء هي أكبر سبب وحيد للشكاوى المقدمة للسلطات المحلية في المملكة المتحدة؛ وجد المعهد في دراسة استقصائية نُشرت عام 2022 أن الشكوى من الضوضاء زادت بنسبة 54 في المئة في إنجلترا بين عامي 2019-2020 و2020-2021. برزت الاعتراضات بشكل خاص في لندن الكبرى التي تم فيها تسجل 508 شكاوى لكل 10 آلاف شخص، أي أكثر من ثلاثة أضعاف المعدل على المستوى الوطني. وجدت بيانات منفصلة جمعتها شركة تشرشل للتأمين على المنازل عام 2022 أنه تم تقديم حوالى 450 ألف شكوى من الضوضاء إلى المجالس البلدية خلال السنة المالية السابقة، ما يمثل زيادة بنحو 70 ألف شكوى على مدار عامين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
الضجيج مشكلة لا يمكن اعتبارها خلافات بين الجيران المتناحرين، إنها مسألة تتعلق بالصحة العامة. يقول الدكتور فينر بايند، مهندس صوتيات ومؤسس مشارك لشركة "تريبل" الأيسلندية التي تعمل على تطوير تكنولوجيا محاكاة الصوت: "ثبت بوضوح شديد وبشكل لا لبس فيه أن للضوضاء تأثيراً رهيباً على صحة الإنسان وعافيته... تقول منظمة الصحة العالمية إن الضوضاء هي ثاني أكثر العوامل البيئية المضرة التي تؤثر في صحة الإنسان، بعد الهواء السيئ". ربطت سلسلة من الدراسات التعرض للضوضاء المفرطة بحالات الصحة العقلية مثل القلق والاكتئاب. هل يمكن أن يكون انشغالنا الحالي بالضوضاء متجذراً في التغييرات التي أحدثها وباء كورونا؟ يقول بايند: "فجأة، توقف ضجيج العالم تقريباً".
يؤيد هذا الرأي الدكتور نيل بروس، محاضر رفيع في تصميم الصوت في كلية الفنون الرقمية بجامعة مانشستر متروبوليتان: "تغير المشهد الصوتي بشكل كبير في بداية حالة الإغلاق الأولى... انخفض ضجيج الطائرات والمواصلات" بشكل ملحوظ. وجدت إحدى الدراسات أن الضجيج في أجواء لندن انخفض بمعدل 5.4 ديسيبل في ربيع عام 2020 مقارنة بالعام السابق.
بالنسبة لبعضنا، كان هذا يعني التعود على الهدوء غير المألوف. يقول بروس: "فجأة... أصبحنا قادرين على الاستماع أكثر قليلاً... نظراً لكوننا مشغولين جداً في العادة، لم يكن الصوت شيئاً نهتم به كثيراً... يبدو أن الإغلاق أدى إلى إبراز هذا الأمر أكثر قليلاً". بالنسبة للآخرين، عنى هذا قضاء مزيد من الوقت في المنزل والتركيز على الضوضاء الجديدة التي اخترقت ذلك الهدوء، الناجمة على الأغلب عن التحولات التي فرضها الوباء على أساليب العيش.
تقول لويز بيمش، نائبة رئيس جمعية مستشاري الضوضاء ومديرة الصوتيات في شركة "ويسترن سينغل بلاي" التي تقدم خدمات إدارية واستشارية بيئية: "أعتقد أن الشيء الذي جعلنا أكثر حساسية تجاه الضوضاء، والذي غير موقفنا منها، هو أننا احتجنا منازلنا للعمل الجاد". جاء هذا التغيير في وظيفة مساحات منزلنا في نفس المرحلة التي بدأ فيها الأطفال الصغار التعلم من المنزل، بينما مُنح جارك الذي يحب أعمال البناء إجازة مدفوعة الراتب حتى أجل غير مسمى واقتنى الجميع كلاباً على ما يبدو. أصبحت الأصوات التي ربما بدت في السابق غير ضارة، أو جزءاً من نسيج الحياة، مزعجة: ولم نتمكن نحن العالقين في الداخل من الفرار منها.
تضيف سمية يعقوب، عضو اللجنة الاستشارية لحماية البيئة التابعة لمعهد تشارترد للصحة البيئية ورئيسة الصحة والسلامة في الشركات في منطقة إيليغ بلندن: "كانت هناك شكاوى بشأن أمور لا يمكننا [كمسؤولي صحة بيئية] فعل أي شيء حيالها فعلاً... هذه ضجة الحياة - بينما من قبل، لم يكن جارك في منزله أبداً، ولم تكن أنت موجوداً أيضاً، وبالتالي لم يكن الأمر مهماً".
تقترح يعقوب أن هذه القفزة في الشكاوى قد تكون مرتبطة بالتآكل البطيء للمجتمع - فالكثير منا لا يعرف جيرانه، لذلك ربما بدا من الأسهل ملء استمارة شكاوى الضوضاء بشكل سلبي - عدواني بدلاً من طرق باب الجيران والتحدث إليهم. يمتلئ عديد من الشوارع بساكنين بعقود إيجار قصيرة الأجل، لذلك "فهم غير مهتمين ببناء تلك العلاقة مع أحد الجيران". يوافقها الرأي بول ماكالا، مدير الصحة البيئية، وزميلها في عضوية اللجنة الاستشارية، الذي يقول: "يتبع الناس بشكل أقل مبدأ "عش ودع غيرك يعيش" بين الجيران... يميل الناس إلى عدم معرفة جيرانهم كثيراً الآن، في حين أن الأمور كانت ستحل بدردشة سريعة قبل سنوات مضت".
عندما بدأت الحياة تعود إلى طبيعتها ببطء، كانت مستويات الضوضاء تفعل الشيء نفسه، لكن مواقفنا منها لم ترجع بالضرورة إلى مستويات ما قبل الوباء. يقول بروس إن فكرة التوقع في غاية الأهمية عندما يتعلق الأمر بكيفية ارتباطنا بالأصوات. يشرح قائلاً: "لدينا توقع لماهية الأصوات في أماكن معينة، وعندما لا تكون الأصوات كما هو متوقع نشعر بالانزعاج... أعتقد أن هذه إحدى المشكلات المتعلقة ببعض الأشياء التي نشهدها في الشكاوى من الضوضاء في مراكز المدن".
تركيزنا على الضوضاء يصل بالفعل إلى ما هو أبعد من المنزل. إذا انتقل الأشخاص إلى منطقة مزدحمة عادة خلال فترة من الهدوء الشديد، فستكون لديهم توقعات مختلفة (وربما غير واقعية) لما يعتبر مستويات ضوضاء طبيعية. والآن تشعر الحانات والنوادي والمرافق الموسيقية، التي ظلت مقفرة لفترات طويلة خلال الوباء، بأعباء هذا. في وقت سابق من العام، قال الرئيس التنفيذي لجمعية الصناعات الليلية، مايكل كيل، لصحيفة "ذا مورنينغ أدفيرتايزر" المعنية بشؤون الصناعة إن الشكاوى من الضوضاء تفاقمت أخيراً من قبل السكان الذين خبروا مستويات أقل من الضجيج أثناء الوباء بسبب إغلاق الشركات الليلية.
تقول كلارا كالن، مديرة دعم المرافق في جمعية "صندوق المرافق الموسيقية" الخيرية: "بالتأكيد نحن نشهد زيادة في عدد الأماكن التي تتواصل معنا بشأن مشكلات تتعلق بشكاوى من الضوضاء". تدير كالن خدمة الاستجابة للطوارئ في الجمعية الخيرية، والتي تساعد في دعم أماكن الموسيقى الشعبية عندما تتعرض لتهديد بسبب شكاوى من الضوضاء أو الإجراءات القانونية الأخرى. تتابع: "في يونيو (حزيران) عام 2022، كان لدينا 5 حالات... متعلقة بالضوضاء. ولغاية يونيو من عام 2023 كان لدينا 12 حالة". ربما ليست أعداداً ضخمة (تشير كالن إلى أن الجمعية تعتمد على اتصال المرافق بها؛ بينما قد تواجه الشركات الأخرى تلك الحالات بمفردها)، ولكنها بالتأكيد زيادة كبيرة. ووفقاً لما تقول "كانت المرافق الموسيقية في معظم الحالات التي نراها موجودة قبل تشييد الأماكن السكينة الحديثة في المنطقة".
أحد الأمثلة التي تتصدر العناوين الرئيسة هو "مقهى نايت أند داي" في مانشستر. تلقى المكان الذي استضاف عروضاً لأمثال آركتك مانكيز وجون مار وإد شيران، أمراً بخفض الضوضاء في نوفمبر (تشرين الثاني) من عام 2021؛ كان مقدم الشكوى شخصاً انتقل للسكن في شقة مجاورة أثناء الإغلاق. قدم المرفق التماساً، وفي مارس (آذار) تم تأجيل الجلسة حتى وقت لاحق من هذا العام.
تم إدخال مبدأ "مفوض التغيير" في المملكة المتحدة عام 2018، الذي يحمّل الأنشطة أو الأعمال التجارية الموجودة مسبقاً مسؤولية التخفيف من الضوضاء التي تصل إلى بناء جديد مقترح. باستثناء اسكتلندا، فإن هذا المبدأ "جزء من سياسة التخطيط - وليس تشريعاً وليس قانوناً"، كما توضح كالن. يضيف ماكالا أنه "لا يتناسب تماماً مع الصورة التشريعية الكاملة... للأسف إنه يتعارض مع التشريع القانوني للإزعاج من الضوضاء. لذا فإن الأمرين لا يعملان معاً... لا يمكنك القول “بني عقارك بعدما كان النادي موجوداً بالفعل، وبالتالي لا يمكنك الاشتكاء”".
يقول إن وظيفة مسؤول الصحة البيئية "هي العمل بين الطرفين... لديك مسؤوليات تجاه المشغل التجاري وكذلك تجاه السكان". غالباً ما يأملون في أن يتم التوصل إلى اتفاق بشكل غير رسمي؛ إذا لم يحدث ذلك، فقد تكون الإجراءات القانونية مكلفة للشركات الليلية التي تعمل للتو في أوقات صعبة من الناحية المالية. كما أن المجالس البلدية تشعر بالضيق أيضاً في ظل توافر ميزانية أقل لموظفي البيئة المتخصصين، الذين ارتفع عبء العمل الملقى على عاتقهم كثيراً (وجد مسح الضوضاء الذي أجراه معهد تشارترد أن عبء العمل الموكل لمسؤولي الصحة البيئية في جميع أنحاء إنجلترا تجاوز الضعف في الفترة ما بين 2019-2020 و2020-2021).
ربما يكون الجائحة قد زادت من حدة الموقف، لكن علاقتنا المعقدة بالضوضاء متجذرة في قضايا هيكلية أعمق أيضاً، مثل مواقع المنازل وكيفية بنائها. تتساءل كالن: "هناك توتر - كيف نخطط المدن بشكل جيد ويلبي حاجة الإسكان والثقافة أيضاً؟... من الواضح أن هناك كثيراً من الأماكن في المملكة المتحدة التي يرغب الناس في الانتقال إليها بسبب حيويتها الثقافية. هذه حلقة مفرغة بعض الشيء – أنت تنتقل إلى تلك المناطق، ما يؤدي إلى إنشاء مزيد من المباني السكنية... والتي تعود للاشتكاء من الضوضاء". يعيش كثيرون منا في مساكن مصممة لتلبية ضوضاء بمواصفات محددة، لكن "هذا هو الحد الأدنى من المواصفات"، كما يشير بروس، مضيفاً أن التخفيف من الضوضاء يعد باهظاً من حيث تكاليف البناء، ويمكن أيضاً أن "ينقص المساحات الداخلية" (إنه أمر محير - هل تفضل شقة أكثر ضوضاء أم أصغر مساحة؟)
هل يمكننا أبداً الوصول إلى توازن، حيث لا يتعين علينا العيش في "مشهد صوتي بلا هوية"، كما وصفه بروس، ولكن يمكننا الانفصال عنه في منازلنا أيضاً؟ يقول بايند إن الصوت لم يعد على نحو متزايد "مجرد شيء يتم التفكير به لاحقاً"، بل يتم النظر فيه في "مراحل التصميم الأولى" للبناء؛ طورت شركته برنامج واقع افتراضي يتيح لنا سماع الأصوات في مبنى جديد قبل بنائه، وبالتالي تجاوز بعض التخمينات. تقول بيمش إن "هناك حركة كبيرة في صناعتنا لتحسين معايير نقل الصوت بين المساكن" في مرحلة التخطيط "لأن كثيراً من الناس يرون هذا [التنظيم حالياً] غير ملائم تماماً ولا يحمي السكان بقدر ما ينبغي".
وهكذا، ربما يكون السؤال الكبير الذي يتعين علينا التعامل معه هو كيف نريد أن تكون الأجواء في أحيائنا، وما هي التنازلات التي نحن مستعدون لتقديمها بشكل جماعي. تلاحظ كالن أن المدن والبلدات الكبرى "ليست أماكن هادئة... ومن البديهي أن حياة الناس وأولوياتهم قد تغيرت أيضاً... وأن الحياة ليست صامتة [بل صاخبة]".
© The Independent