Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

معضلة التعامل مع ترمب تربك الإعلام الأميركي

عندما تنغمس الصحافة في الاستقطاب يصعب عليها التحول واستعادة نفوذها

منذ أن تأكدت أنباء رحيل رئيس شبكة أخبار "سي أن أن" كريس ليكت في أنحاء الوسط الإعلامي في الولايات المتحدة بسبب استضافة الشبكة، الرئيس السابق دونالد ترمب في لقاء مع جماهير متعاطفة معه، لم تعد القضية فقط هي كيف فشلت "سي أن أن" في تحقيق هدفها باستعادة شعبيتها عبر محاولة لعب دور الإعلام الوسطي، ولكن كيف تعاني المؤسسات الإخبارية بشكل عام لإيجاد طريقة مرضية للتعامل مع ترمب، بعد ثماني سنوات من ترشحه للرئاسة لأول مرة، فما الذي يجعل الرئيس السابق سبباً في إرباك الإعلام الأميركي بما في ذلك "فوكس نيوز"؟ وهل تكمن المشكلة في ترمب أم في تغير جمهور الأخبار وحالة الاستقطاب السياسي المستمرة في أميركا؟

ناقوس الموت

مرة أخرى يتسبب المشهد الإعلامي والسياسي الذي شيده ترمب في إطاحة أحد القادة البارزين في الإعلام الأميركي، فقد تبين أن رئيس الشبكة كريس ليكت (51 سنة) دفع بسرعة ثمن موافقته على استضافة ترمب في ما يسمى "تاون هول" حيث أجاب عن أسئلة حشد من أنصاره المخلصين في وقت ذروة المشاهدة على شاشة الشبكة التي طالما اتهمها بأنها تنقل أخباراً كاذبة، فمجرد انتهاء هذا اللقاء، تلقت الشبكة انتقادات واسعة من إعلاميين وصحافيين وسياسيين اعتبروا أن الشبكة قدمت لأميركا مجموعة من الأكاذيب التي طرحها ترمب عبر شاشة "سي أن أن"، غير أن مقالاً مطولاً من 15 ألف كلمة نشرته صحيفة "ذا أتلانتيك"، الأسبوع الماضي، كان ناقوس الموت أو القشة الأخيرة في عهد سلطته التنفيذية القصيرة التي لم تستمر سوى 13 شهراً فقط، إذ تحدث فيه المؤلف تيم ألبرتا إلى أكثر من 100 موظف في "سي أن أن"، وطرح تساؤلاً جاداً حول قدرة ليكت على قيادة الشبكة في المستقبل، وهو ما أدى في النهاية إلى اتخاذ الرئيس التنفيذي للشركة المالكة "وارنر براذرز ديسكفري" ديفيد زاسلاف قراراً بإعفاء ليكت من منصبه.

وكان التحول في سياسات الشبكة جزءاً من تغييرات كبيرة بدأت، العام الماضي، مع تولي ليكت مسؤولية إدارة الشبكة، مما دفع بعض النقاد إلى اتهام عملاق الأخبار بإنتاج محتوى أكثر احمراراً، في إشارة إلى التماهي مع الحزب الجمهوري الذي يرمز له باللون الأحمر، في حين أن ليكت اعتبر أنه يقوم بجهد إصلاحي يشمل سلسلة من الإجراءات تهدف إلى التخلص التدرجي من الحزبية السياسية العلنية، ومطالبة المذيعين بعدم التعبير عن آرائهم، وتجنب تقديم أقصى درجات الفكر السياسي لأي من الجانبين، يساراً أو يميناً للوصول إلى الحقيقة، عبر إعلام المشاهدين، وليس إثارة قلقهم.

ضربة قوية

لكن خروج ليكت المفاجئ أحدث اضطراباً لواحدة من أشهر وأقوى المؤسسات الإخبارية البارزة في العالم، والتي أدت سلسلة أزماتها المستمرة إلى استنزاف الروح المعنوية للعاملين في غرفة الأخبار وتآكل الأرباح ودرجات التقييم المنخفضة تاريخياً، وإقالة اثنين من كبار المذيعين، بعد صدمتين أخريين تمثلتا في إطاحة الرئيس السابق للشبكة جيف زوكر، وإغلاق خدمة البث المباشر "سي أن أن بلس"، كما أثارت إقالة ليكت تساؤلات حول جدوى الصحافة التلفزيونية الوسطية في عصر الاستقطاب الذي أسهم ترمب في ترسيخه داخل المجتمع الأميركي منذ ترشح للانتخابات الرئاسية عام 2015 وحتى الآن.

لكن قرار الإقالة كان أيضاً ضربة قوية لكريس ليكت، كمنتج تلفزيوني ناجح لديه خبرة قليلة في إدارة مؤسسة كبيرة، فعلى رغم نجاحاته السابقة في إطلاق برنامج "مورننغ شو" على قناة "أم أس أن بي سي" وبرنامج "توك شو" مع ستيفن كولبيرت على شبكة "سي بي أس"، فإن تعهده بإعادة تقديم "سي أن أن" كصوت متوازن للمشاهدين المحبطين من الحزبية المفرطة التي تطغى على القنوات الإخبارية الأميركية لم تشفع له، بل على العكس أثارت من الانتقادات كثيراً، واعتبرها البعض تصحيحاً مفرطاً عندما كان دونالد ترمب هو بطل الحدث الأكثر شهرة على محاولة ليكت الابتعاد عن تغطية شبكة "سي أن أن" لترمب خلال فترة سلفه، جيف زوكر والتي فازت بالتقييمات.

التعامل مع ترمب

وعلى رغم أن ليكت والرئيس التنفيذي للشركة الأم "وارنر براذرز ديسكفري" كانا يسعيان إلى إعادة وضع الشبكة بالقرب من المركز الأول في سوق الأخبار التي احتلتها في السابق، فإن انخفاض التقييمات الخاصة بالشبكة وانخفاض الروح المعنوية للعاملين بها أخيراً يطرح تساؤلاً حول ما إذا كانت تغطية أنشطة ترمب ممكنة بأي طريقة ذات مغزى، بينما لا يزال هو الرئيس الأكثر استقطاباً في الذاكرة الحية واللاعب الرئيس على الساحة السياسية.

وبمقارنة المشهد الحالي بعصر ما قبل ترمب يبدو أن جمهور الأخبار مختلف الآن، نظراً إلى أن الناس لديهم أفكارهم المسبقة عن ترمب، وفي كثير من الأحيان يبحثون عن معلومات تؤكد ما يؤمنون به بالفعل، بحسب ما يقول مدير برنامج الإدارة السياسية في جامعة "جورج واشنطن" تود بيلت الذي يوضح أن "سي أن أن" لا تزال تحاول معرفة المكان المناسب للتعامل مع ترمب، وكيف يمكن أن تولد جمهوراً ينافس شبكة "فوكس نيوز" التي تمتلك صيغة سهلة للغاية بحسب رأي بيلت، وفقاً لما كشفت عنه دعوى التشهير التي رفعتها شركة "دومينيون" ضد "فوكس".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

ويشير بيلت بذلك إلى رسائل البريد الإلكتروني الداخلية التي تم الكشف عنها أثناء الإجراءات القانونية المتخذة ضد "فوكس نيوز" حول نظام ماكينات التصويت التي تصنعها شركة "دومينيون"، وكشفت هذه الرسائل الإلكترونية عن أن بعض الشخصيات البارزة داخل شبكة "فوكس" كانوا قلقين في شأن انخفاض التقييمات الخاصة بالشبكة في أعقاب انتخابات 2020، وهي ظاهرة ألقوا باللوم فيها على شخصيات في الشبكة تصدت بشكل صحيح ضد مزاعم ترمب الكاذبة بالاحتيال في الانتخابات على أساس أن ماكينات التصويت كانت مصممة لتغيير النتيجة ضده.

وعلى رغم أن "فوكس" لم تكن مطالبة بإصدار اعتذار للمشاهدين حول أداء القناة في شأن ترمب بالتالي لم تخسر جمهورها ومتابعيها، فإنها قبلت بتسوية قضية "دومينيون" مقابل 787 مليون دولار بعد أن اعترفت فقط بما وجدته المحكمة بأن مزاعم البعض في "فوكس" حول "دومينيون" كانت كاذبة.

وبعد أن كانت "فوكس نيوز" قد تحولت قليلاً بعيداً من ترمب الذي شن بالتوازي مع مستشاره السابق ستيف بانون أكثر من هجوم عليها بسبب استضافتها بعض الديمقراطيين، واقتراح مذيعة القناة لورا إنغراهام، أن الناخبين الجمهوريين قد يرغبون في الابتعاد عن ترمب إلى بديل يميني آخر، عادت الشبكة إلى كسب ود الرئيس السابق واستضافه مذيع الشبكة الشهير شون هانيتي في لقاء جماهيري بولاية آيوا مع مجموعة من أنصاره وتحدث بحرية من دون التحقق من صحة ما يقول.

مشكلات مختلفة

لكن مشكلات شبكة "سي أن أن" وعديد من شبكات الأخبار الأخرى من قنوات الكيبل تبدو من نوع مختلف تماماً، إذ دفعت أخبار إقالة ليكت المفاجئة إلى جولة جديدة من البحث عن الذات حول مستقبل شبكة "سي أن أن" والأخبار التي تقدمها، فطالما ادعت الشبكة أنها "الاسم الأكثر موثوقية في الأخبار"، لكن تاريخها الحديث شهد جدلاً واسعاً خلال التقييم الإعلامي للقنوات الإخبارية الأميركية مع تحول الشبكة إلى اليسار عقب صعود ترمب إلى السلطة في البيت الأبيض، والذي أدى إلى اضطراب السياسة الأميركية.

وبحسب مؤسس موقع "سيمافور" رئيس التحرير السابق لموقع "بازفيد" بن سميث، فإن المشكلة المركزية التي تواجه شبكات الكيبل للأخبار هي الانخفاض المستمر غير القابل للتصحيح على ما يبدو في أرقام متابعيها، والتفسير الأكثر وضوحاً الذي ظل الناس يقولونه في وسائل الإعلام منذ فترة طويلة ولم يصدقه البعض أن شبكات أخبار الكيبل في تراجع عالمي واسع النطاق، لدرجة أن أفضل القيادات والمديرين التنفيذيين لن يتمكنوا من عكس هذا الاتجاه.

وفي هذا السياق فإن الجهود التي بذلها ليكت من أجل تحويل "سي أن أن" من المواجهة ضد ترمب إلى مركز وسطي متصور في تغطية أخباره لم يجد جمهوراً، وهو ما يتفق فيه الخبير الإعلامي بيتر كافكا الذي اعتبر أنه لم تكن هناك أي فرصة للنجاح في نوع التغطية الإخبارية التي زعم زاسلاف وليكت أنهما يريدانها.

هل يوجد حياد؟

ومع ذلك فإن بعض الناس سيتجهون إلى "سي أن أن" أو غيرها من القنوات التلفزيونية في أوقات الأزمات أو عندما تطفو أنباء غير عادية على السطح، على رغم أن هذه عادة خاصة بالأشخاص الذين نشأوا مع شبكات التلفزيون، وهو رقم يتقلص باستمرار بحسب كافكا الذي يعترف بأنه لم يعد هناك ما يسمى "الحياد"، على رغم مما قد يصر عليه المسؤولون التنفيذيون في وسائل الإعلام وبعض الصحافيين.

وفي الوقت الحالي وفيما يحاول فريق القيادة الانتقالية لشبكة "سي أن أن" إعادة تجميع أجزاء الشبكة معاً، فإنهم يواجهون مهمة صعبة للغاية في محاولة تحديد المسار في المستقبل، وبخاصة ما يتعلق بتغطية نشاطات وفعاليات الرئيس السابق ترمب بحسب ما يقول أستاذ العلوم السياسية في جامعة "سيراكيوز" غرانت ريهير، إذ إن هناك أناساً يفترضون أنه لا يقول الحقيقة، وهناك أشخاص آخرون يصدقونه دائماً ولن يكذبوه لمجرد أن شبكة "إن بي سي" أو أي وسيلة إعلامية أخرى تتحقق من كلامه وتكشف حقيقة ما يقول.

ولكن في ما يتعلق بالصورة الكبرى فإن كل المؤسسات الإعلامية، بما في ذلك "سي أن أن"، تواجه ممراً ضيقاً إذا كانت لديها أي فرصة لاستعادة موقع السلطة والنفوذ الذي كانت تتمتع به من قبل، وفقاً لريهر الذي يرى أن هذا ليس مستحيلاً من الناحية المجردة، لكن الاستقطاب السياسي الذي غرقت فيه الولايات المتحدة يجعل الأمر أكثر صعوبة، لأنه عندما تنغمس وسائل الإعلام نفسها في الاستقطاب يصبح الأمر أقرب إلى المستحيل.

المزيد من تحلیل