ملخص
في الرواية الجديدة للكاتبة المغربية الفرنكفونية مريم العلوي، "سديم لطيف"، التي صدرت حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية ندرك بسرعة أن العلوي، التي عاشت سنوات عدة في نيويورك، اعتزمت "جسّ نبض هذه المدينة" وخطّ "لوحة عاشقة لها، بطاقتها وحريتها وجنونها"
في الرواية الثانية والجديدة للكاتبة المغربية الفرنكفونية مريم العلوي، "سديم لطيف"، التي صدرت حديثاً عن دار "غاليمار" الباريسية ندرك بسرعة أن العلوي، التي عاشت سنوات عدة في نيويورك، اعتزمت "جسّ نبض هذه المدينة" وخطّ "لوحة عاشقة لها، بطاقتها وحريتها وجنونها" كما أشار الناشر على الغلاف الاخير. تسرد العلوي حياة سكان عمارة تقع في حيّ "بارك سلوب" في منطقة بروكلين. شخصيات كثيرة إذاً، لكنها تحضر حضوراً طيفياً لدرجة تجعل من عملية تمييزها الواحدة عن الأخرى مهمة عسيرة. ولتقديمها، تطلّب الأمر من الكاتبة ما لا يقل عن خمسين صفحة، في بداية الرواية، يعبرها القارئ، آملاً في شيء آخر يأتي لينقذه من وصف يعجز عن تجسيد هذه الشخصيات وإثارة اهتمامه بها، لبقاء العلوي فيه على سطحها وتوظيف مهاراتها الكتابية ــ التي لا شك فيها ــ للتعليق على السلوك الخارجي لكل منها، مستعينةً في ذلك، برقّة مبطّنة بتهكّم مستور. شخصيات من بينها تلك التي تمارس النميمة ونقل الأقاويل كرياضة يومية، وتلك التي تتعاطى المخدرات وتبيعها لجيرانها، وتلك التي لا هم لها ولا شاغل سوى تلبية رغباتها الجنسية التي تخرج عن المألوف، وتلك العصابية التي يمكن أن تفقد أعصابها وتبدأ بالصراخ لأقل سبب... باختصار، باقة من الشخصيات التي كان يمكن ألا تكون مملّة، لولا النظرة المتعالية المستخدمة لتقديمها وتصوير حياتها اليومية.
سهرات مفتوحة
هكذا نتعرّف إلى الشاب إيتان الذي ينظّم غالباً في شقّته سهرات لا ينقص فيها ما يلزم لمداعبة السحاب. سهرات يحضرها معظم جيرانه لتمتعهم بشهية مفتوحة دائماً على استهلاك ما يقترحه عليهم. وبالطريقة نفسها، نتعرف إلى الشابة كلارا التي تظهر وتتوارى على وقع عصاباتها (névroses)، ومن مصلحة محدّثها استخدام قفازات مخملية معها كي لا تنفجر في وجهه عند أقل تضريس في كلامه. هنالك أيضاً جولين الخمسينية التي لا تكتفي بالاعتناء بأمها العجوز، مع أختها كرايزي، بل تمارس أيضاً الرقابة على "ذهاب وإياب" جيرانها، ولا تتردد في استراق السمع من وراء الأبواب لإرضاء فضولها المرضي. هنالك ستيفن المتكتّم والمضبوط مثل الساعة، وجيني التي لا تطيق كل هذه الفوضى السعيدة في العمارة.
ومن بين سكان المبنى الآخرين، ثمة شخصيتان مركزيتان في الرواية، الزوجان ريلاي وغراهام اللذان يتفقان جيداً على كل شيء، بما في ذلك جنسياً، إلى حد ميلهما إلى دعوة أشخاص آخرين إلى سريرهما، بغية إضافة "تابلاً" جديداً على حياتهما، لكن شرط المصارحة الكلية في هذا الشأن وعدم التعلّق بأي مدعو أو مدعوة. ميل لا يلبثان أن يضعاه موضع التنفيذ، فنتابع مغامراتهما الجنسية المحمومة على مدى مئة صفحة تقريباً، قبل أن تنقذنا الكاتبة من الحيرة التي تتملكنا في كل واحدة من هذه الصفحات، بإعادة تركيز سرديتها على سكان العمارة الآخرين، لتعود فتغوص بنا، مكرهين، في مغامراتهما المشتركة التي لن تنتهي قبل أن تتعرض علاقتهما من جرائها، إلى تصدّع متوقّع منذ البداية.
السؤال الذي يطرح نفسه هنا، ولم يتبادر إلى ذهن العلوي، هو: هل يمكن خط بورتريه منصِف لمدينة عملاقة مثل نيويورك، يقطنها نحو تسعة ملايين نسمة، انطلاقاً من العالم المصغّر الذي اختارته؟ بروكلين أولاً لا تختصر هذه المدينة، بل يمكن أن تشكّل الحياة فيها نقيضاً للحياة في مانهاتن. وحيّ "بارك سلوب"، حيث تدور معظم أحداث الرواية، لا يختصر بروكلين التي تتجاوز بمساحتها مدينة باريس وتؤوي، إضافة إلى جزء كبير من فناني المدينة، شتاتاً من أصول وطبقات اجتماعية مختلفة. والعمارة التي تسكنها شخصيات الرواية لا تختصر إطلاقاً طبيعة الحياة في هذا الحيّ الجميل والحيوي، علاوةً على أن ما يحدث فيها يشبه إلى حد بعيد ما يحدث في عدد كبير من العمارات الموجودة في أحياء باريس الشعبية، مثل حيّ "مينيلموتان" أو حيّ "بيغال"، كي لا نذكر غيرهما. وربما من حق الروائية أن تختار مبنى أو بناية في نيويورك فتروي ما يجري فيها من وقائع وترسم شخصياتها، ولكن من غير أن توصف المجموعة هذه، بكونها نيويوركية.
حياة يومية
حتى لو عضضنا النظر عن هذه النقطة وتابعنا القراءة، فإن الحياة اليومية لقاطني هذه العمارة، كما تسردها العلوي على طول الرواية، تثير القليل من الفضول، بسبب طابعهم العادي ، وبالتالي لا نرى كيف يمكن أن تشكّل تفاصيل هذه الحياة "لوحة عاشقة" للمدينة. أما بالنسبة إلى الرهان المركزي في قصتها، أي معرفة ما إذا كانت علاقة الزوجين ريلاي وغراهام ستنجو من مغامراتهما الجنسية المشتركة، فإضافة إلى إدراكنا منذ البداية، مآل مثل هذا السلوك، تعجز الكاتبة في إثارة اهتمامنا بمصيرهما نظراً إلى طريقة تجسيدهما كشخصين نزويين وأنانيين. وبالنتيجة، من الصورة الفردية لكل واحد من سكان هذه العمارة، إلى صورتهم الجماعية التي من المفترض فيها أن تمثّل طبيعة سكان نيويورك، وحتى "طريقة حياة الأميركيين" كلهم، لا نخرج بشيء "لطيف" أو "حلو" أو "مستحبّ"، كما يعدنا عنوان الرواية.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
والسبب؟ ما تقوله العلوي بنفسها في أحد الحوارات التي أجريت معها، ويفضح مدى "موضوعيتها": "الجنون في نيويورك هو أننا لم نر أبداً مدينة تلتصق إلى هذا الحد بالكليشيهات". وتضيف: "كل ما نتخيله، سنجده في النهاية" فيها. وبالتالي، هل إن ما أرشد قلمها هو "ما كنت أعيشه وأراه في نيويورك"، كما أسرّت لأحد الصحافيين، أم ما كانت تتخيّله أو تسمعه من آراء جاهزة سلفاً عن هذه المدينة؟
في معرض مدح روايتها، استعان ناقد بجملة من داخلها تقول فيها: "وهم التفاهة يتحلل في التفاصيل". وصحيح أن العلوي برهنت في روايتها الأولى، "الحقيقة تخرج من فم الحصان"، عن حس تفصيلي مدهش منح سرديتها الجميلة قيمة إضافية. لكن في "سديم لطيف"، يثير استثمارها لهذا الحسّ التردد لأنه يؤول إلى هذر صاف وسطحي مبني غالباً على كليشيهات، لا على تأمل ثاقب وعميق في الكائنات والأشياء المقاربة. أما أن يضيف هذا الناقد، دائماً في سياق مديحه، بأن "الجمال يكمن في النقص" أو العلة، فهذا صحيح أيضاً، لكن شرط أن يتمكن الروائي من ابتكار شخصيات يمكن التماثل بها، على الرغم من عللها، أو حتى بسببها، وهو ما تفشل الكاتبة في إنجازه.
"نيويورك مكان سحري لكل من يبحث عن الإلهام. من المدينة التي لا تنام، تنبعث طاقة لا مثيل لها"، عقّب أحد محاوري العلوي على جواب لها. حقيقة تقود إلى سؤال مشروع نطرحه على هذا الصحافي والكاتبة على حد السواء: لماذا لا نشعر في أي مكان من الرواية بسحر هذه المدينة وطاقتها؟