Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

صاحب "وقائع مدينة ترافنك" يعود إلى الواجهة في "مدونات بلغراد"

8 نصوص من إيفو أندريتش لرسم بورتريهات لوجوه تبحث عن بطولة وحنان ومؤلف

إيفو أندريتش (1892 – 1975) (غيتي)

ملخص

8 نصوص من إيفو أندريتش لرسم بورتريهات لوجوه تبحث عن بطولة وحنان ومؤلف

لو سألت اليوم أي قارئ نبيه للآداب العالمية عن الكاتب الذي يعتبره الممثل الأفضل للأدب البلقاني، لجاءك الجواب من دون أي تردد: إسماعيل كاداري. فالحال أن كاداري الألباني اكتسب من الشهرة خلال ربع القرن الأخير ما جعل اسمه يكاد ينفرد بساحة ذلك الأدب الساحر والغريب، أدب "القارة البلقانية" حيث يختلط التاريخ بالحاضر، والجرح بالأمل، والنزعة العاطفية بمناخات الغرابة التي تكاد تكون أسطورية. ومع ذلك إذا شئنا أن نكون أكثر إنصافاً وأمانة للحقيقة الأدبية والتاريخية سيكون علينا أن نرى في إسماعيل كاداري امتداداً لسلف كبير له، هو الكاتب اليوغوسلافي - البوسني، إيفو أندريتش، الذي يمكننا أن نلاحظ بكل بساطة أن بعض روايات كاداري تكاد تكون استطراداً لبعض رواياته، في المناخات والأساليب، وربما في رسم الشخصيات أيضاً، هذا موضوع آخر، بالطبع، ليس هنا مجاله، لكننا شئنا الإشارة إليه، على سبيل رد الاعتبار لكاتب كان في سنوات الستين ملء الأسماع والأبصار، ولا سيما حين فاز بجائزة نوبل وقفز اسمه إلى الصدارة، وراحت رواياته تترجم إلى عدد كبير من لغات العالم، ومنها اللغة العربية قبل أن يسقط في وهدة النسيان أو ما شابه ذلك.

عودة كاتب

غير أن العقود التالية، والقفزة الدامية التي قفزت بها "البوسنة" إلى واجهة الأحداث، خلال العقدين التاليين لوفاة إيفو أندريتش (فبراير "شباط" 1975)، كان من شأنها إعادة الاعتبار له كواحد من كبار كتاب القرن العشرين. ولعل أبرز الأمور التي نتجت عن ذلك، كان الكشف عن مقدار ما في أدب أندريتش من غنى وتنوع، وكذلك من نظر ثاقب. وحسبنا اليوم أن نقرأ روايته "وقائع مدينة ترافنك" ونتابع فيها المجابهة بين قنصلي فرنسا والنمسا، المعتمدين في مدينة ترافنك الضائعة في ريفها "الشرقي" البعيد، والصراعات والحزازات القائمة بين طوائفها الثلاث (وكأننا نتكلم عن سراييفو ولكن عن مناطق "شرقية" أخرى كثيرة أيامنا هذه... أليس كذلك؟)، حسبنا أن نقرأ هذه الرواية لنكتشف كم أن إيفو أندريتش أدرك باكراً ما الذي ستكون عليه حال بلده المطحون، حين تأتي عناصر خارجية لتزعزع التوازن الهش القائم فيه. واللافت هنا أن صاحب نوبل الأدبية لعام 1961 كتب أهم أعماله في اللحظات الحاسمة في تاريخ بلاده، هو الذي وجد في الكتابة مخرجاً من مأزقه الشخصي والوطني، حين احتل النازيون بلغراد في عام 1942، فارتعب وهو الذي كان سبق له أن شغل منصب سفير يوغوسلافيا في برلين، وأحس أن الوقت قد حان للتعبير كتابة عن أحداث تتحكم فيها الصدمة الحضارية بين غرب متحرك (حتى ولو كان تحركه نحو الأسوأ) وشرق ثابت جامد.

مدونات جديدة

والحقيقة أن الذين اعتقدوا قبل عقدين وأكثر من الآن أن متن أندريتش الكتابي قد اكتمل إذ تمت إعادة نشر أعماله المعروفة كما نشرت نصوص له لم تكن مكتشفة بعد - وربما كان هو قد حال دون اكتشافها من جراء غوصه في العملين الدبلوماسي والسياسي في الدولة اليوغوسلافية - كانوا مخطئين، إذ تمكن المعنيون بأدب هذا الكاتب المتنوع من العثور على مزيد من كتاباته التي قد يكون من شأن بعضها استكمال صورة جديدة له. وآخر الجديد في هذا المجال كتاب صدر حديثاً لأندريتش مترجماً إلى الفرنسية عنوانه "مدونات بلغراد". صحيح أننا لسنا هنا أمام رواية أساسية من كتابة صاحب "وقائع مدينة ترافنك" وغيرها من أعمال كبرى، لكننا أمام نص يمكن اعتباره أساسياً لفهم ليس مسار هذا المبدع فقط والكشف عن شخصيته وما غمض من مسيرته، بل كذلك لفهم الكيفية التي عاشت بها يوغوسلافيا سنوات الحرب العالمية الثانية تحت ربقة الاحتلال النازي ومحاولات المقاومة الجبارة التي بذلتها قواها الحية، بل إننا لسنا أمام نص واحد هنا يشغل الـ234 صفحة التي يتألف منها الكتاب، بل أمام ثمانية نصوص كتب بعضها في مراحل متفرقة من تلك السنوات الصعبة، فيما سيكتب بعضها الآخر في فترات متفرقة أخرى تلت انتهاء الحرب باندحار النازيين وانتصار المقاومة لتتوقف في عام 1960 قبل رحيل الكاتب بـ15 سنة ولكن قبل عام من نيله جائزة نوبل.

شخصيات منتزعة من الحياة

في هذه النصوص التي تتراوح بين مناخات القصة القصيرة - التي لم يكن واضحاً أن أندريتش يبرع في كتابتها براعته في عالم الرواية - ومناخات البورتريه التي تقرب كتابته من التحقيق الصحافي، يهتم الكاتب أكثر ما يهتم برسم صور لرجال يبدو أنه التقاهم بالفعل ووجد بين ظهرانيهم مجالاً لاستلهام أنماط بشرية كان من الصعب عليه تصور عثوره عليها في المدينة الصربية التي لم تكن مدينته، وهو المولود في ترافنك التي خلدها في روايته الأشهر. عثر عليها، جاورها أو التقاها، أحبها أو كرهها، لكنه في الأحوال كافة عرف كيف يرصد تغيراتها من كثب، حتى وإن كان من الصعب تصور أنه دنا منها أكثر مما يجب. ومع ذلك يصعب القول إن الكاتب قد تعامل مع تلك الشخصيات "استشراقياً". ولعل النموذج الأكثر دلالة على ذلك نموذج زيكو الذي تشغل الصفحات المخصصة لحكايته أكثر من نصف صفحات الكتاب، مما يحوله إلى أيقونة ولا سيما إلى أيقونة في التحول من أعتى صور الخيبة والخواء الفكري والأخلاقي إلى نموذج يعي ما يريد من انخراطه في المجتمع المحيط به وبصورة إيجابية قد تذكرنا بشخصية الأم بيلاجيا في رواية مكسيم غوركي الشهيرة "الأم"، فزيكو بدوره يتبدل كلياً تحت وقع الوعي الذي تخلقه لديه الأحداث من حوله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

رجال ونساء

هذا الرجل، ونعرف أن الرجال حاضرون في أدب إيفو أندريتش أضعاف ما تحضر النساء وهو ما سنعود إليه بعد سطور، أي بعد أن نتوقف قليلاً عند زيكو ذلك الرجل الذي لا معنى له والذي يحس أنه مسحوق من الجميع ولا سيما من امرأته، لكن الذي يحدث له هو أنه يجد نفسه منضماً إلى مجموعة من الحثالة من أمثاله يعيش رفقتهم على ضفة نهر السيف. وكما يحدث عادة في روايات وقصص أندريتش ها هي ذي الحرب تصل، وها هو ذا زيكو يتبدل بفعل الحرب تماماً، يصبح شخصاً آخر بل شخصية أخرى بأفكار وأفعال بطولية، مما يقربه من شخصيات كثيراً ما نجدها ماثلة في الأدب البلقاني تخضع لظروفها لكنه تعرف ليس فقط كيف تتكيف معها بل تسيطر عليها. ومن هنا يمكن التوقف طويلاً عند زيكو والتساؤل عما منع أندريتش من أن يخصه برواية طويلة يستحقها. وهو على أية حال ما تستحقه حفنة من نساء قلائل زرعهن أندريتش في النصوص جعل لهن مصائر خاصة قد تناقض اللوم الذي أبداه مترجمه إلى الفرنسية في تعليق له على تلك الشخصيات آخذاً على الكاتب قلة اهتمامه برسم الشخصيات النسائية، ملاحظاً أن هذا المأخذ يسري حتى على رواياته الكبرى!

ثلاثي بلقاني

مهما يكن لا شك أن هذه النصوص على قصر بعضها وتفاوت مستوى معظمها تنتمي في نهاية الأمر إلى ذلك الأدب الكبير الذي أبدعه إيفو أندريتش، ولا سيما خلال الربع الثاني من القرن العشرين حين كان يمكن القول إن أندريتش قد شكل مع زميليه اليوناني نيقوس كازانتزاكيس والروماني باناييت استراتي ذلك الثلاثي البلقاني الأدبي الكبير. ونذكر هنا بأن إيفو أندريتش ولد بالقرب من مدينة ترافنك في البوسنة عام 1892، ودرس التاريخ والأدب، قبل أن ينخرط في شبابه في جماعة "البوسنة الفتاة" ويناضل ضد النمسويين مما أدى إلى رميه في السجن واضطهاده قبل نفيه. وهو لئن كان قد عبر عن تلك التجربة في كتابين أولين "إكس بونتو" (1918) و"قلق" (1920)، فإن التجربة نفسها كشفت له هشاشة الوضع الإنساني، فكانت تلك الهشاشة واحدة من مواضيع رواياته الأثيرة. وهو بعد ذلك وبالتوازي مع عمله بالكتابة خاض العمل الدبلوماسي وعاش بين 1921 و1941 متنقلاً بين عديد من العواصم الأوروبية متأملاً، متسائلاً عن أسباب التخلف الشرقي الذي ما برح يهجس به انطلاقاً من ذكريات وطنه الأم. وبعد ذلك إذ فاجأته الحرب العالمية الثانية وهو سفير لبلاده في برلين عاد إلى بلده المحتل من قبل النازيين، واكتشف أن نشر أعماله ممنوع، فأخلد إلى ذلك الصمت الذي أتاح له أن يكتب روايتيه الكبيرتين "وقائع مدينة ترافنك" و"جسر على نهر الدرينا" (1946)، وهما معاً تشكلان نظرة عميقة يلقيها الكاتب على مصير يوغوسلافيا وأوروبا.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة