ملخص
ما هو السر وراء بقاء النظام الإيراني طوال 44 عاماً في الحكم؟
يتحدث العديد من المراقبين والمحللين للشأن السياسي الداخلي الإيراني لدى مناقشتهم أوضاع النظام الشمولي والطائفي الحاكم في إيران، عن الخلافات بين السلطات والمؤسسات الحكومية والانشقاقات التي تحصل كل فترة في النظام. صحيح أننا نشاهد الكثير من هذه الخلافات والانشقاقات، لكن في واقع الأمر، إنها نتيجة للصراعات الداخلية على المناصب السياسية والثروة رغم أن غالبيتهم لا يؤيدون جرائم النظام.
الانشقاقات في صفوف العناصر الموالية للنظام أدت إلى تراجع عدد منتسبي الطبقة الحاكمة. إلا أنه وعلى الرغم من هذه الانشقاقات والخلافات يبقى رأي المرشد علي خامنئي هو المهيمن والمعارض لرأيه يطرد أو يقصى من المشهد السياسي كلياً ولن يعود للسلطة مرة أخرى. وعلى الرغم من هذا، فإن النظام مستمر في الحكم.
لماذا وكيف يحدث هذا؟ ولماذا لم يكن النظام موحداً فيما الانشقاقات مستمرة؟ ولماذا يلتزم المعارضون للسياسات وإجراءات النظام الصمت ولم يكشفوا عن مواقفهم إلا بعد مرور ثلاثة أو أربعة عقود؟ (كما هو الحال بالنسبة لمعارضة رئيس سجن إيفين عام 1988 لعملية الإعدام الجماعي التي طالت النشطاء السياسيين)؟ وبالتالي، كيف يدير بيت المرشد علي خامنئي هذه الخلافات؟ وما هو السر وراء بقاء النظام طوال الـ44 عاماً في الحكم؟
لماذا؟
الاختلافات والانشقاقات داخل أروقة النظام الإيراني هي نتاج لأربع ظواهر سياسية ومجتمعية:
أولاً: النظام شمولي، إلا أن المجتمع متعدد. فالتعددية الأيديولوجية والجنسية والجنسانية والعرقية والدينية والثقافية لن ولم يستطع النظام القضاء عليها. واللافت أنه حتى المسؤولين ليسوا محصنين بالكامل من تعدد الهوية والسلوك، وأن الولاء للنظام أيضاً لا يمكنه أن يكون العامل الوحيد في تحديد هويتهم وسلوكهم.
ثانياً: لا يملك المسؤولون في النظام أي رؤية مستقبلية طويلة المدى للبلاد والحكم، وجل ما يسعون إليه هو كسب المال في أقصر فترة زمنية ممكنة. هذا الجشع دفع بالمسؤولين أن ينتقموا من بعضهم البعض من خلال الكشف عن ملفات الفساد (مثلاً بواسطة مراسل تلفزيوني أو من خلال تسريب وثائق). لم يصل أي مسؤول في النظام الإيراني إلى السلطة على أساس الكفاءة والجدارة والقانون. ولهذا لا توجد ضوابط تحكم العلاقة في ما بينهم ولا يطيعون بعضهم البعض. ونظراً لانعدام معايير الكفاءة العامة، فإن جميع المسؤولين في البلاد يتخيلون أنهم أكثر كفاءة من غيرهم. وبالتالي، فإن الخلافات ليست على نوعية السياسات التي تتخذ فحسب، بل على نوعية المناصب والمكاسب.
ثالثاً: جميع الحكومات في إيران لم تكن حكومات موحدة بأي شكل من الأشكال. لأنه لا توجد أحزاب في إيران بالمعنى الحقيقي. والحكومات المتتالية في النظام تتشكل من العصابات السياسية التي تجمعها الضرورة. هذه العصابات ليس لديها أي منهج وتقاليد معينة لتوزيع المناصب والموارد، ولذلك تتصادم فيما بينها على السلطة والثروة.
رابعاً: نظام ولي الفقيه في إيران هو نظام هرمي. الأفراد والعصابات تحاول وفي شتى الطرق الوصول إلى الدوائر العليا في هذا التسلسل الهرمي. هذه الجهود قد تؤدي إلى التواطؤ وتلفيق التهم وضرب بعضهم البعض ومحاكمة بعض المسؤولين بتهم الفساد - بينما جميعهم أياديهم ملطخة بالفساد من دون استثناء - بهدف القضاء على الخصوم السياسيين.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
كيف؟
وعادة ما تتم إدارة هذه الخلافات والانشقاقات عبر الطرق الست الواردة أدناه، للمحافظة على تماسك النظام واستمراريته:
أولاً: إقصاء العناصر المخلصة - ذات النظرة المختلفة نوعاً ما - تدريجاً. وآخر مثال لهذه الإجراءات ضد المسؤولين الذين لا يتبعون آراء المرشد علي خامنئي، بالكامل هو إقصاء علي شمخاني من منصب سكرتير مجلس الأعلى للأمن القومي بهدف تقليص الخلافات الداخلية.
شمخاني، كان قد اختلف مع بيت المرشد وبعض من مسؤولي حكومة إبراهيم رئيسي حول الملف النووي (خطة العمل الشاملة المشتركة) وقمع الاحتجاجات. في ما يتعلق بالملف النووي، وبعد مرور عام أو عامين من الاتفاق، أصبح شمخاني يميل إلى وجهة نظر المرشد علي خامنئي. وأما عن الاحتجاجات، كان قد التقى خلال الاحتجاجات بعض المسؤولين الإصلاحيين ووردت بعض التقارير أنه لم يتبع وجهة نظر المرشد خامنئي في صد الاحتجاجات.
ولهذا السبب تم الاستغناء عنه. يعمل النظام على مثل هذه الخطوات بالتدريج حتى لا تؤثر على الرأي العام - لا سيما جمهور النظام - كما يحرص النظام على عدم تعميق الفجوات الداخلية.
ثانياً: تقسيم الغنائم. وبما أن الاختلافات على الموارد ومكاسب الأفراد والمؤسسات، فإن خامنئي يحاول أن تكون ملكية هذه الموارد والمؤسسات باسمه - أي بيت المرشد -، وهذا من أجل التستر على العناصر الموالية. وعليه، فإن جميع مسؤولي النظام فاسدون من الألف إلى الياء. وعادة ما يغلق خامنئي معظم الأفواه بنفس هذه الطريقة. ولهذا السبب كان قد صرح رئيس لجنة مكافحة الفساد في البرلمان، نصرالله بجمان فر: "إن مكافحة الفساد في إيران مجرد مزحة ليس إلا". (صحيفة جام جم 29 مايو (أيار) 2023)
ثالثاً: تناوب المناصب بين مسؤولي النظام. ومن أبرز وظائف القيادة في إيران تناوب المسؤولين الموثوق بهم من منصب إلى آخر، في فترات تكون من أربع سنوات (الحكومة والبرلمان) وخمس سنوات (مجلس تشخيص مصلحة النظام والإذاعة التلفزيون والسلطة القضائية) وعشر سنوات (قائد الحرس الثوري). حيث يتم نقل حوالى ألفي مسؤول عسكري وحكومي ذات الرتب العالية باستمرار من منصب إلى منصب آخر. هذا التناوب يجعل المسؤولين يتخيلون وجود حظوظ للترقية وكسب المزيد من المزايا والامتيازات على الرغم من الاختلافات وعدم الرضا وحتى القساوة التي يتطلبها العمل ضمن النظام، فيجب عليهم أن يكونوا ضمن فرق الموت والقتل وجميع عصابات المافيا الاقتصادية والسياسية المحتلة للبلاد من أجل الوصول إلى الأموال. في بلد يبحث فيه الأطفال عن الطعام في القمامة. وبالتالي، وبدون هذه الامتيازات لا يمكن وخلال ساعات فقط، إنقاذ نجل أحد المسؤولين من حبل المشنقة بسبب انضمامه إلى منظمة مجاهدي خلق.
رابعاً: الاتساق في الكذب والخداع. وإذا ما أمعنا في مواقف المسؤولين والسلطات يخيل لنا أن مجزرة عام 1988 لم تحدث، وفي عام 2022 لم يقتل أحد ولم يفقد أحد بصره بفعل آلة القمع، ولم يدفع قادة الحرس الثوري بشباب إيران للموت في فترة الحرب مع العراق، ولم تنهب الطبقة الحاكمة ثروات البلاد وأنهم ما زالوا ثواراً حفاة ومن المعصومين الشيعة! فهذا الاتساق في الخداع والكذب هو أحد العوامل التي يحافظ من خلالها النظام على تماسك العناصر الموالية له على الرغم من اختلاف مشاربها وآرائها. وبنفس الطريقة التي يمكن أن تحافظ بها على تماسك الناس وبناء الثقة وزيادة الرصيد الاجتماعي من خلال الثقة والأمانة والصدق، فإن عامل الخداع والكذب والسرية والإنكار يمكن أيضاً أن يكون سبباً في تماسك مجموعة اجتماعية معينة (كالمافيات مثلاً).
خامساً: المزايا والامتيازات غير المحدودة للطبقة الحاكمة. دخول الأفراد إلى أروقة الطبقة الحاكمة تضعهم فوق كل القوانين والقيود في إيران، وتوفر لهم إمكانيات الحياة لمئة جيل قادم. فالثروات تقدر بعشرات المليارات، فأطفالهم يتلقون التعليم في مدارس فاخرة، ويقضي أبناؤهم الخدمة العسكرية في معسكرات الحرس الثوري في نفس المدن التي يسكنوها، والهروب من العقوبة متوفر لهم حتى في حالات القتل، كما يتمتعون بسهولة الحصول على التأشيرات وتصاريح الإقامة، والاستثمار في الدول الغربية، ولهم الحرية المطلقة في الرأي والسلوك وغيرها من الخدمات... هذه الأشياء لا يمكن خسارتها لمجرد خلاف مع مسؤول أو من أجل المصلحة العامة، فخيمة النظام توفر الكثير من الدفء والراحة للمسؤولين وبالتالي التخلي عنها ليس بالأمر السهل، وإن قام شخص ما على شاكلة حسين شريعت مداري (رئيس تحرير صحيفة كيهان) بإهانتهم وباستمرار.
سادساً: إقصاء المعارضين الداخليين. أبواق الحكومة والأجهزة الأمنية تعمل بالتنسيق في ما بينها، وتصف العناصر التي تبتعد عن المرشد خامنئي والإسلام الشيعي وسياسات النظام بالنخب العلمانية (أنصار حكومة بازركان) والنخب الجاهلة (أنصار حكومة هاشمي رفسنجاني) أنصار الفتنة (مؤيدو حكومة محمد خاتمي) والتيار المنحرف (مؤيدو حكومة محمود أحمدي نجاد) وعادة ما يتعرض هؤلاء للهجوم ولا يجرؤ أحد على التواصل معهم.
ولهذا السبب، فإن الأمل بأن تؤدي الخلافات والانشقاقات داخل النظام إلى إسقاطه ضرب من المستحيل ما لم تحدث ثورة عارمة في البلاد. وعلى سبيل المثال لا الحصر، فإن الأنظمة في كل من زيمبابوي وفنزويلا وسوريا على الرغم من ضعفها إلا أنها لم تسقط. ليست الخلافات الداخلية هي من تسقط النظام فحسب، بل وحدة القوى المعارضة في الداخل والخارج هي التي تطيح بالنظام. وبالتالي، فإن المستفيدين من النظام في شتى الظروف أو المتأملين بالاستفادة منه لم ولن يوافقوا على الإطاحة به. المستفيدون يخشون فقدان مكاسبهم، والمتأملون بالحصول على المزايا ينتظرون لحظة دخولهم ضمن الطبقة المتميزة في النظام.
نقلا عن "اندبندنت فارسية"