Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

مونتاني صاحب "المقالات" الذي اختلف حوله مفكرو عصره

الأميركي إمرسون استلهمه والتنويري فولتير دافع عنه واضعاً حداً للسجالات الشوفينية

الفرنسي ميشال دي مونتاني أحد كتاب عصر النهضة  (غيتي)

ملخص

الفرنسي ميشال دي مونتاني أحد كتاب عصر النهضة مفكر جمع الفرنسيين وغيرهم على احترامه ووصفه معظمهم بالفيلسوف الفرنسي الأول ورجل الحكمة

يروي المفكر الأميركي إمرسون في بعض مذكراته أن من المشاهد التي استوقفته حين كان يزور العاصمة الفرنسية في عام 1835 ذاك الذي لن ينساه أبداً، "حتى وإن كان لا يعني شيئاً لكثر من الناس". فهو إذ توقف مصادفة حين وجد نفسه أمام مدخل مقبرة "بار لاشيز" الباريسية وجد لزاماً عليه أن يدخل ليتجول بين قبور كبار كان يعرف كثيراً عنهم وعن مكانتهم الفكرية خصوصاً. لكنه ذات لحظة وصل إلى جانب قبر لرجل مجهول تماماً يدعى أوغست كالينيون إذ استوقفته اللوحة التي تعلو القبر وقد حفر عليها أن الرجل توفي في 1830، وهو في الـ78 من عمره، الذي "أنفقه كله في فعل الخير وسلوك درب الفضيلة كما قرأ عنهما في (مقالات) مونتاني".

بدا الأمر مدهشاً وحافلاً بالعبر بالنسبة إلى إمرسون إلى درجة قرر معها أن تلك اللوحة على قبر مجهول تكاد تكون أعمق ما شاهده في عاصمة النور. والحقيقة أن مونتاني كان، حين زيارة إمرسون إلى باريس بعد نحو ثلاثة قرون وأكثر من رحيله، مفكراً يجمع الفرنسيون كما غيرهم على احترامه وقد توجه معظمهم بوصفه الفيلسوف الفرنسي الأول ورجل الحكمة غير منازع. لكن الأمر لم يكن كذلك دائماً.

كبار وقفوا ضده

الواقع أنه خلال نصف الألفية تقريباً التي تفصلنا عن الزمن الذي عاش فيه ميشال دي مونتاني مبدعا أفكاره الإنسانية وكتاباته، لم يتوقف السجال إلا أخيراً من حول مكانة هذا المفكر والسياسي رجل العقل والعمل، لا سيما في فرنسا إذ نعرف أن كبار المفكرين الأوروبيين وحتى الأميركيين من بعدهم اكتشفوا قيمته الفكرية باكراً وذلك على خطى الفيلسوف الأنغلو ساكسوني هاليفاكس الذي حسم الأمر على طريقته القاطعة مفتياً أن "من بين الفرنسيين جميعاً وحده مونتاني يمتلك حسّ الحرية الحقيقي".

وهي فتوى لا شك أن نيتشه الذي "لا يعجبه العجب عادة" كان في مقدوره أن يتبناها هو الذي كان يرى أن "روح مونتاني هي الروح الأكثر انعتاقاً ونبلاً وقوة". ومهما يكن فإن فولتير الذي اعتاد الفرنسيون الوثوق برأيه، كان يشاطر نيتشه حكمه على مونتاني، وكذلك كانت حال لا برويير الذي قد يكون عبر عن بعض التحفظات إزاء صاحب "المقالات" لكنه عرف كيف يتصدى بشدة لعدد من كتاب استصغروا شأنه، لا سيما منهم باسكال الذي كان الأقسى في عدائه الفكري لمونتاني في كتابه "الأفكار" حيث لام هذا الأخير خصوصاًعلى "إفراطه" في الحديث عن نفسه معتبراً أن "الإتيان بالحماقات الكتابية بفعل المصادفة والضعف الإنساني أمر عادي ولكن الإتيان بها عن قصد أمر لا يحتمل".

متعة القراءة وأخطارها

كان باسكال واحداً من كاتبين، لاما مونتاني في مؤلفات لهما. "صحيح، كما يقول لا برويير أنه لا يقل عنهما لوما لمونتاني في بعض الأمور، ولكن يبدو لي أنهما لا يكنان له أي تقدير"، أما الكاتب الثاني في رأي لابرويير فهو ماليبرانش الذي فوجئ كثر في زمنه بهجومه "الساحق" على مونتاني الذي أكد فيه بصورة حاسمة أنه "ليس من الخطر فقط قراءة مونتاني للتزجية عن النفس بالنظر إلى أن متعة قراءته تحض على ذلك، بل كذلك لأن تلك اللذة أكثر إجراماً مما نعتقد. فهي إنما تولد من طغيان الملذات الحسية أساساً بشكل لا يمكنها معه إلا أن تنقل صاحبها إلى عالم الشغف والأهواء: فالطريقة التي يكتب بها هذا المؤلف ليست ممتعة إلا لأنها تلمسنا مباشرة وتوقظ أهواءنا بطريقة لا يمكن إدراكها".

 

 

فولتير يحسم

والحقيقة أن فولتير كان يستحضر في ذهنه بدوره موقفي هذين الكاتبين المعاديين لمونتاني، لا سيما في مجال حديثهما عن الطريقة "البسيطة" بل "الساذجة" التي كتب بها عن نفسه، حين كتب نصاً بات شهيراً عن مونتاني يقول فيه، "إنه لمشروع ساحر ذاك الذي خاضه مونتاني إذ صور نفسه على الطريقة الساذجة التي أتت بها تلك الصورة، فهو في نهاية الأمر إنما شاء أن يرسم صورة للطبيعة البشرية من خلال تصوير ذاته. والحقيقة أنه لو أن نيكول، ويقصد بالطبع باسكال، وماليبرانش لم يكتبا إلا عن ذاتيهما لما كان من شأنهما أن يحققا أي نجاح. لكن نبيلاً ريفياً في عهد هنري الثالث كان عالماً في زمن الجهل وفيلسوفاً في بيئة مليئة بالمتعصبين، لكنه عرف مع هذا، كيف يصور تحت اسمه الشخصي ضروب عيوبنا وجنوننا، نبيل كهذا سوف يكون على الدوام رجلاً محبوباً".

فهل نضيف هنا أن هذا الحكم الذي أطلقه فولتير وضع حداً حينها للسجالات التي كان بعضها يسعى إلى الانتقاص من قيمة مونتاني؟ الواقع أن هذا ما حدث حينها. إذ منذ ذلك الحين توقفت النقاشات الكبرى من حول مونتاني لتحل محلها نقاشات أقل أهمية بكثير في وقت راحت فيه مكانة صاحب "المقالات" تكبر وتكبر معه قيمة أفكاره وتنتشر حكايات حياته وتفاصيل أسفاره التي ربما كان من أبرزها تلك التي زار خلالها إيطاليا المجاورة التي كانت تعيش زخم نهضتها، لا سيما في أبعادها الإنسانية. ونعرف طبعاً أن ذلك الزخم بالتحديد هو ما حمله مونتاني من أفكار بحيث أن كثراً من الباحثين والمفكرين الفرنسيين وغيرهم ينظرون إلى مونتاني بوصفه نهضوياً آخر من غلاة المفكرين الذين ساروا على خطى الفكر الإنساني الإيطالي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

شوفينية فرنسية

يقيناً أن هذا الارتباط المبكر للفكر الإنساني الفرنسي كما ولد لدى مونتاني بجذور إيطالية لا لبس فيها ولم ينكرها الفيلسوف نفسه على الإطلاق، هو ما أزعج عدداً من المفكرين الفرنسيين لا سيما من بينهم قاطنو باريس والعاملون فيها، انطلاقاً من نظرة دونية كانوا اعتادوا إلقاءها على جيرانهم الأقربين.

وهي نظرة لم يكن في مقدورها أن تقبل ذلك "الترياق الفكري" يمد به مونتاني قارئي الفرنسية آتياً به من إيطاليا. ومهما يكن من أمر، فمن الواضح أن هذا كله كان قد بات من الماضي بعد قرنين من ظهور "المقالات" وبعد أن تمكن كبار من أمثال فولتير من وضع مونتاني في مكانته الصحيحة.

مكانة الفيلسوف الفرنسي الأول وهي مكانة تفترض أن صاحبها لا بد أن يكون قد نهل من منابع أخرى، لأن ليس ثمة فكر يطلع كالعشب الشيطاني في صحراء مقفرة. وفي هذا السياق لا شك أن فولتير، وحتى في الفقرة المختصرة التي أوردناها أعلاه عرف كيف يعبر عنها بقوة ووضوح حين وصف مونتاني بالنبيل الريفي الذي عرف كيف يفكر في عصر مليء بالجاهلين وكيف يكتب فلسفة في بيئة تزدحم بالمتعصبين.

ومن الواضح أن هذا الوصف نفسه كان يمكن أن ينطبق على النهضويين الإيطاليين الذين اختلط مونتاني بهم وأخذ عنهم بل أكمل خطاهم ولو في وطنه الفرنسي الذي كان في حاجة إليه حينها.

حياة كبيرة لإنتاج قليل

ونعرف بالطبع أن ميشال إيكويم مونتاني (1553 – 1592) الذي ستكون صداقته مع لابويسيه صاحب كتاب "العبودية الطوعية" واحدة من أعمق الصداقات التي أقامها في حياته بما نتج عنها من تفاعل بين الكاتبين، ولد وعاش معظم سنوات حياته في منطقة بوردو التي كان واحداً من نبلائها وعضواً في برلمانها وابناً فيها لعائلة موسرة، انصرف منذ وقت مبكر في حياته إلى القراءة والسفر اللذين كوناه وأعطياه ذلك الحس الإنساني العميق الذي من المؤسف أنه لم ينتج بصورة عملية سوى كتابيه الأساسيين: "المقالات" الذي  ظل يكتب فصوله وفقراته ببطء مدهش طوال نحو ثلث قرن بادئاً به في عام 1560 ليرحل بعد ذلك عن عالمنا مخلفاً فصولاً عديدة أخرى لن تضم إلى المتن الأصلي إلا لاحقاً؛ ناهيك عن فصول ستكتشف لاحقاً وتضم بدورها إلى الكتاب الذي يعتبر أول نص فلسفي فرنسي؛ أما الكتاب الثاني الذي لا تقل متعة قراءته عن متعة قراءه "المقالات"، فهو الذي لن يصدر إلا بعد قرنين ونصف القرن من موت كاتبه بعنوان "يوميات رحلة إلى إيطاليا عبر سويسرا وألمانيا".

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة