في غير مرّة خلال السنوات الأربع الماضية، يجد مايكل غيدري القادم من تكساس والبالغ من العمر 64 عامًا نفسه عرضة للخطر، وذلك أثناء محاولاته عرض خطته عن إنشاء أول ميناء بحري عميق على الساحل الليبي.
فقد سارع صاحب أحد المقاهي بتهريبه من الباب الخلفي لإنقاذه من رواد المقهى الذين كانوا يهتفون هتافات مناهضة لأميركا، كذلك أوقِفَت سيارته ذات يوم في نقطة تفتيش نصبها مراهقون مسلحون مشبوهون ويحملون بنادق هجومية، والذين راحوا يحدقون فيه بنظرات عدوانية.
إلا أن أسوأ ما مر كان يوم أفلت بأعجوبة من الحصار وكان ممكناً أن يلقى القبض عليه من جانب الميلشيات المسلحة لـ"داعش" على مشارف مدينة درنة شرق ليبيا. ووصف ذلك خلال مقابلة أُجريَتْ عبر الهاتف، قائلاً "لقد مررنا ببعض الأيام السيئة".
بالنسبة للسيد غيدري، فقد أتت المثابرة أكلها بعد أن وافقت هيئة الميناء الليبي في مطلع السنة على إسناد عملية قيمتها 1.5 مليار دولار إلى متعهد الخدمات الأمنية السابق، ويتمثّل الهدف منها في إنشاء أول ميناء في البلاد يصلح لاستقبال أضخم سفن الشحن عالميّاً، في مدينة سوسة بشرق ليبيا.
"إذا حالفنا الحظ، سيكون هذا الميناء جوهرة شمال إفريقيا"، بحسب تصريحاته إلى صحيفة "الاندبندنت".
ووفق ما صار شائعاً، تردّت أحوال ليبيا الغنية بالنفط عقب الإطاحة بحاكمها القديم معمر القذافي في الانتفاضة المدعومة من حلف الناتو في 2011. إذ تزعم الحكومتان المنفصلتان في الشرق والغرب أن كلّا منهما صاحبة السلطة الشرعية، وفي بعض الأحيان لا تعترف الجماعات المسلحة بكلتيهما!
وقد تدهورت الأوضاع الأمنية من جديد في العاصمة (طرابلس) إثر وقوع اشتباكات في الضواحي الجنوبية بين ميليشيات متناحرة تسعى إلى السيطرة على أكبر مدينة في البلاد. وبات السكان يشكون انعدام الخدمات العامة.
في حين تحرك الحاكم الفعلي للشرق الليبي، ضابط الجيش خليفة حفتر، للسيطرة على حقول النفط الجنوبية في البلاد، ما أدى إلى اندلاع اشتباكات في أكثر مناطق البلاد فقرًا في ظل مزاعم عن ضلوع الجيش الشرقي في أعمال "ترهيب واختطاف ونهب".
كما تشهد الساحة تدخل قوى أجنبية كالإمارات ومصر وتركيا وقطر في الدرجة الأولى، كما يُعتقد أنها ترسل الأسلحة إلى عملائها المفضلين في انتهاك لحظر فرضته الأمم المتحدة، على الرغم من إنكار تلك الدول ذلك.
وفي المقابل، يرى بعض المراقبين أن البلاد ستشهد حالة من الاستقرار في النهاية. وعلى الرغم من الانقسامات السياسية والمحاولات الفاشلة لإنشاء مؤسّسات إقليمية تتنافس بصورة إيجابية، لا يزال البنك المركزي للبلاد ووزارة المالية والشركة الوطنية للبترول وهيئات المرافق وعدد من المؤسسات الاخرى، تسعى إلى العمل كوحدات مستقلة. كذلك أشارت تقارير "صندوق النقد الدولي" إلى أنّ ليبيا حققت نموًا بنسبة 11 بالمائة العام الماضي، فيما أعلنت "فالانكس جروب"، الشركة الاستشارية المتخصصة في شؤون الأمن والمخاطر (مقرّها لندن) في تقييم صدر مطلع 2019، أن ليبيا ستصل خلال العام الجاري إلى أعلى سقف في إنتاج النفط الذي يبلغ 1.6 مليون برميل في اليوم للمرّة الأولى منذ سقوط القذافي.
على نحو مُشابِه، ينظر السيد غيدري إلى الأمور نظرة متفائلة أيضًا، لأن مشروع ميناء سوسة يثبت وفق رؤيته، أن البلاد ما زالت قادرة على الالتقاء حول هدف واحد عندما يكون هناك شيء مهم على المحك. وبحسب كلماته، "ما حدث هو أن هيئة الموانئ في الشرق قد تحدثت إلى هيئة الموانئ في الغرب، وأقنعتهم بأن هذه أولوية وطنية".
وفي بيان له، ذكر حسن الجويلي، أحد رؤساء الميناء البحري في شرق ليبيا، إن كلا الجانبين في البلاد "يعملان معًا بشكل وثيق في كل ما يخص الموانئ والقدرات البحرية".
يشار إلى أن ميناء سوسة الذي يقع على بعد 25 ميلًا شمال شرق المقر الإداري الفعلي للشرق في مدينة البيضاء، سينشأ في مرفأ طبيعي يبلغ عمقه 18 مترًا يصلح للناقلات العملاقة الحديثة التي تعتبر السفن الأكثر فاعلية لجهة التكلفة، في نقل البضائع عبر المحيطات. وقد جذب المشروع بالفعل اهتمام المتخصصين في الموانئ والشؤون البحرية.
وعلى الرغم من أن طول الشريط الساحلي الليبي على البحر المتوسط يفوق الـ 1,100 ميلاً، إلا أن الموانئ الليبية قديمة الطراز إلى حدٍ بعيد، وتستخدم تقنيات عتيقة في شحن الحاويات وتفريغها. ويعلّق السيد غيدري على ذلك مشيراً إلى إن الميناء الجديد مجهز بأحدث التقنيات، ويتفوق على الموانئ الرئيسية المنشأة على سواحل البحر المتوسط في مصر وتونس، لجهة السرعة والكفاءة.
في الوقت ذاته، أعربت دولتا السودان وتشاد (الأخيرة غير ساحلية) عن اهتمامهما في استخدام ميناء سوسة لاستيراد البضائع. ويقدر السيد غيدري أن الميناء سيدر إيرادات لا تقل عن 60 مليون دولار سنويًا ابتداءً من 2022 لتتضاعف قيمتها بحلول 2040.
ووفق كلماته أيضاً، "لقد حان الوقت الآن ليحتل الاقتصاد مكانته اللائقة".
وفي تفاصيل متصلة بالموضوع نفسه، من المقرر تنفيذ مشروع ميناء سوسة بواسطة نظام "التصميم والبناء والتشغيل ونقل الملكية"، الذي من شأنه أن يسمح لشركة السيد غيدري بتشغيل الميناء لمدة 25 سنة على الأقل. وقد فاز مع فريقه المؤلف من ثمانية أشخاص، بالمناقصة بعد تفوقهم على ثمانية عروض من شركات صينية وروسية وفرنسية وإيطالية. وآنذاك، صرح غيدري أنه لم يتلق مساعدات سوى تحذيرات أمنية من مسؤولي القنصلية الأميركية المتحصنين في مبنى السفارة المؤقتة في دولة تونس المجاورة.
يذكر أن السيد غيدري قد جاء إلى ليبيا كمتعهد للخدمات الأمنية منذ أربع سنوات مضت. ويشير إلى إنه وقع في حب البلاد، وأراد الاستثمار في شيء من شأنه أن يخلق أيضًا فرص عمل للأشخاص الذين استضافوه في منازلهم. ويوضح أنه موّل المشروع من أمواله الخاصة حتى أنه لجأ إلى السحب من مدخراته التقاعدية. ويوضح أن سوسة تقع قرب موقع أثري قديم تفيد أسطورة قديمة إن مارك أنطونيو أنشأ حمام سباحة لمحبوبته كليوباترا فيه.
وفي ختام حديثه، يذكر السيد غيدري إنّه "قبل خمس سنوات كان الناس يقولون "إنه مجنون. سيخذلونه" أو "سينكسر لا محالة"... لكن الحلم أخذ يتحقق على أرض الواقع".
© The Independent