عندما يتعلق الأمر برد الفعل الروسي على الهجوم بالمسيرات على موسكو، لا بد أن الكرملين استنتج أنه إذا شاء الرد والاقتصاص، عليه أن يتحمل التبعات. فما يحصل اليوم هو أن عمليات القصف الدورية على كييف ومدن أوكرانية أخرى تُقابَل بإجراءاتٍ مضادة [تستهدف] العاصمة الروسية.
بالنسبة لسكان موسكو، وبعد 15 شهراً من خطاب الحرب الذي شنه فلاديمير بوتين وضماناته بأن "هذه العملية العسكرية الخاصة الثانية" لن تؤثر عليهم، هم من غير شك أمام مرحلة أخرى [ترتسم معالم وضع آخر].
أما بالنسبة لسكان كييف في المقابل، فيشكل هذا الأمر عاملاً جديداً مرحباً به. يدرك هؤلاء الآن أن بوسعهم شن الهجوم وليس فقط الدفاع. وفيما لا تزال موسكو تملك الكثير من الذخيرة في متناول يديها – علماً بأن هذا الأمر ليس مجالاً متكافئاً بين البلدين، حتى مع الدعم الغربي – لا شك في أن هذه المرحلة ستعزز المعنويات الأوكرانية وتقوض بالتالي المعنويات الروسية.
ستندد موسكو بما يجري [ازدواجية المعايير] وتطلق صفات كثيرة على ذلك بدءاً بالجريمة والإرهاب والدعوة للانتقام. ولكنها ستكون كالكلب الذي ينبح من دون أن يعض [يعلو صوتها بالوعيد]. فهي لا تستطيع أن تقدم على ما هو أسوأ مما تبلي اليوم من دون "الاستعانة بالنووي" الذي سيشكل كارثة حقيقية للجميع على حد سواء.
ما زال بوتين يحاول الزعم أن الأمور تجري على ما يرام فيما هدد وزير دفاعه "باتخاذ أقسى الإجراءات الممكنة" رداً على ذلك التصعيد. بيد أنه روسيا كانت لوقت طويل مرتاحة [آمنة] في صرحها من الحقائق والوقائع المتناقضة، حتى وإن كانت تداعيات هذا الغزو تتردد في الداخل.
لم تجرِ الأمور كما خططت روسيا حتى الآن. إذ كانت الخطة الأساسية تقوم على الانتهاء من كل هذا في غضون أيام. وثم مددت المهلة إلى أسابيع أو أشهر قليلة. وبعدها سعت إلى أن تتسبب في تجمد أوكرانيا من البرد من طريق تدمير بنيتها التحتية خلال فصل الشتاء. واليوم، لم يحقق عدوانها الهجومي أي مكاسب ملحوظة. وليس بوسع روسيا سوى الجلوس وانتظار الهجوم المضاد الأوكراني.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
رأت العائلات الروسية أبناءها وأحباءها يساقون إلى التجنيد وهي تعاني مالياً بسبب الضغط على الاقتصاد الروسي فضلاً عن الحاجة إلى بذل موارد الحكومة واحتياطاتها في سبيل الحرب، وها هي اليوم تواجه هجمات أوكرانية بالمسيرات.
ووسائل التواصل الاجتماعي التي بالكاد لا تزال متوافرة سيف ذو حدين في روسيا. فتستغلها الحكومة الروسية، من جهة، ولكنها تعكس أيضاً الإرباك الكبير، من جهة أخرى.
وفي هذا السياق، ينقسم الشعب الروسي إلى ثلاث فئات: القوميون المتشددون المقتنعون بالكامل "بصواب" الحرب الروسية ويشكل هؤلاء حوالى 20 في المئة. وهنالك نسبة أقل بكثير في الطرف المقابل من المشهد ممن يعتبرون بأن بلدهم الأم هو الطرف الشرير. ويتراوح شطر راجح من الروس بين هاتين النظريتين فمنهم اللاأدريين (غياب اليقين) والمتنازعين [مشاعر متناقضة] وغير المبالين. وعلى الأرجح، لم يشأ هؤلاء الحرب مطلقاً، ولكنهم اليوم طرف فيها [واقعون في براثنها] وفي مرمى الهجوم المباشر ولهذا يفضلون بشكلٍ كبير أن يكون النصر فيها لبلدهم طبعاً.
من غير المرجح أن تدفع الهجمات الأخيرة على موسكو أعداداً ملحوظة من هذه الغالبية إلى أحد المعسكرين الآخرَين. ولكنهم على الأقل يدركون حق الإدراك بأن بلدهم في وضعٍ صعب لا يُحسد عليه.
بيد أن هنالك مشكلة متوسطة المدى تلوح بالنسبة لروسيا أيضاً. فإن حجم الحصة الذي بوسع بوتين إنفاقها من "الفطيرة المالية" [الموارد العامة] على رفاهية مواطنيه تتضاءل شيئاً فشيئاً مع استمرار الحرب. وفي هذا الإطار خسائر روسيا كبيرة على المستويين العسكري والمالي. وبشكلٍ إجمالي، يتم استخدام الموارد الروسية بسرعةٍ أكبر مما يستغرقه إنتاج ذخائر وعتاد جديدة.
شكل الهجوم الأخير بالمسيرات على موسكو صدمة للكثيرين ولكنه وجه رسالة أيضاً لسكان العاصمة والبلاد كلها، بأن الأمور لا تجري على ما تشتهي سفنهم، وهذا ما زاد الطين بلة.
لا تزال أوكرانيا من جانبها تقوم بكل الخطوات الأذكى في هذا المجال.
*جيمس نيكسي هو مدير برنامج روسيا وأوراسيا في "تشاتام هاوس"
© The Independent