Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

ثلاثية روائية للإسباني إنكلان للعودة إلى العام الأكثر عارا في تاريخ إسبانيا الحديث

الرجوع إلى "الحروب الكارلية" تفسّر بشكل ملتبس بداية الكارثة في ذكراها الـ 150

دون كارلوس (موقع الأدباء الإسبان)

حين رحل الكاتب الإسباني رامون ديل فالي إنكلان عن عالمنا عام 1936، كان وطنه يعيش حرباً أهلية مدوية يتواجه فيها الديمقراطيون الجمهوريون، مع أنصار الديكتاتور فرانكو، مات إنكلان من دون أن يعرف نتيجة ذلك الصراع، وأن فرانكو سيكون هو المنتصر في نهاية الأمر، ولسنا ندري ما الذي كان سيبدو عليه موقف هذا الكاتب، وأي من الفريقين كان سيختار لو عاش ووجد نفسه في الدوامة التي عايشها عدد كبير من مفكري إسبانيا ومبدعيها.

من ناحية منطقية، كان يمكن الافتراض أن إنكلان لن يكون راضياً عن انتصار فرانكو، هو الذي كان، منذ عام 1918، قد بدأ يتجه يساراً في نشاطه وأفكاره، معارضاً ديكتاتورية ميغيل بريمو دي ريفيرا، التي منها انبثق فرانكو وجماعته لاحقاً، غير أن الأمور، بالنسبة إلى إنكلان، ليست على تلك البساطة، فهو خلال الحقبة من حياته، ومساره المهني، السابقة على الحرب العالمية الأولى، كان يميني التفكير قومي النزعة إلى حد التعصب، بل إنه كان عام 1898، من مؤسسي تلك الحركة الأدبية المسيسة التي سميت "مجموعة 98"، في إشارة إلى أن ذلك العام كان عام عار وذلّ آخر بالنسبة إلى إسبانيا، إذ فقدت فيه ثلاثاً من مستعمراتها في العالم، أمام القوى الناهضة حديثاً، كوبا والفيليبين وبورتوريكو، ما دقّ ناقوس النهاية لعظمة إسبانيا، وكان من الواضح أن أعضاء تلك المجموعة إنما قاموا كرد فعل غاضب على ذلك الذل، من موقع شوفيني قومي، راح كل واحد منهم يعبر عنه في أعماله الأدبية وحتى في مواقفه.

 

غضب يميني ينتج أدباً كبيراً

غير أن إنكلان، وإذ هدأ غضب رفاقه مع مرور السنين، ومع الجديد الذي جاء به القرن الـ 20 من عار لأمم أخرى، تبدّى أكبر من "العار" الإسباني، واصل غضبه 20 سنة أخرى، ودائماً من موقع يميني، موصلاً ذلك الغضب إلى ذروته في ثنايا عمل أدبي، سيكون أشهر أعماله، أصدره عام 1909، في عنوان جامع هو "الحروب الكارلية"، ولأن أموراً كثيرة في تاريخ إسبانيا تنسب عادة إلى عام معين، أنتجها، أو حدثت خلاله، فإن إنكلان جعل الأجزاء الثلاثة من روايته تدور في عام واحد هو عام 1873 ما يعني أن عام 2023 يجب أن يعتبر عام الذكرى 150 لذلك العار الذي تفيدنا الرواية بأنه عام العار الحقيقي في تاريخ إسبانيا الحديث، والحال أن ذلك العام كان مفصلياً في حياة إسبانيا، بل هو بالنسبة إلى كثر، العام الذي شهد الصراعات العنيفة التي ستكون أشبه ببروفة عامة للحرب الأهلية التي ستنشب بعد ذلك بعقود، وإنكلان لا يستبعد هذا، حتى وإن لم يكن عارفاً، بالطبع، منذ كتابته رواية أحداث 1873، أن هذه الأحداث سوف تستعاد في أواسط ثلاثينيات القرن الـ 20، وبالنسبة إليه، كل الدلائل تشير إلى أن ثمة أموراً ما سوف تحدث، وفي روايته، فإن أحفاد أولئك "الكارليين" نسبة إلى انتمائهم إلى الدون كارلوس أحد المطالبين بعرش إسبانيا الحديثة آنذاك، هم الذين سوف يقاتلون إلى جانب فرانكو في الحرب الأهلية التي ستطبع القرن الـ 20 بميسمها.

أحداث مدمرة متتالية

غير أن ما نقرأه في "الحروب الكارلية" لم يكن قد وصل إلى ذلك الاستطراد بعد، ومن هنا، فإننا نبقي أنفسنا عند حدود أحداث عام 1873، التي وزعها إنكلان على ثلاثة أجزاء: "صليبيو الملك"، و"شعاع الجمر"، و"مثل طيران السنقر"، وعام 1873 هو عام النهاية لتلك "الحروب الكارلية" التي أجريت على مرحلتين، الأولى بين 1833 - 1839، والثانية بين 1872 - 1873، وخلالهما خاض أنصار الملكية الثيوقراطية المطلقة معارك عنيفة غايتها إيصال الدون كارلوس إلى العرش، في مقابل أنصار الملكية الدستورية، ثم أنصار الحكم الجمهوري العابر الذي تحقق بين العامين 1872 و1874، لكنه سرعان ما أزيل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

واحدة من روايات عدة

في رواية إنكلان بأقسامها الثلاثة، لدينا إذاً، أحداث عام 1873 منظوراً إليها من وجهة أنصار دون كارلوس إذ من الواضح أن الكاتب كان متعاطفاً معهم، علماً أن ثمة في الأدب الإسباني روايات أخرى، أهمها روايتان للكاتب ر.ج. سندر، تتحدثان عن معارك مماثلة جرت في قرطاجنة الإسبانية، ولكنها هنا منظور إليها من وجهة نظر قوى يسارية كانت تسعى إلى تركيز ملكية دستورية، أما بالنسبة إلى رواية إنكلان، فإنها في القسم الأول، والذي يمكن أن يُقرأ وحده، لمن شاء، كرواية مستقلة، تتحدث عن دير غير بعيد عن شاطئ البحر في منطقة غاليسيا، يستخدمه بعض المقاتلين مستودعاً للأسلحة والذخيرة، وتدور الصراعات من حوله، وفي القسم الثاني، لدينا أحداث هي في قلب الصراع داخل منطقة نافارا، بين الجمهوريين والكارليين، أما في القسم الثالث، والذي يبدو فيه إنكلان وقد طور نظرته بعض الشيء مفرقاً بين نمطين من الكارليين، فنمط يميني محافظ يسعى إلى ملكية مطلقة، ونمط آخر يبدو أكثر اعتدالاً، ويسعى إلى حكم تكون فيه إلى حد ما، مصلحة للشعب انطلاقاً من حكم كارلي مقيد بقوانين، وهذا التفكير يجسده في هذا القسم الثالث من الرواية، قسيس متنور يدعى سانتا كروز، وهو شخصية تاريخية حقيقية، خاض القتال بنفسه على الجبهات، من أجل ترسيخ نوع من الحكم الملكي اللامركزي، الذي يقف خارج أفكار الكارليين اليمينيين، وخارج أفكار الجمهوريين اليساريين.

نحو حكم ذاتي

بالنسبة إلى سانتا كروز، يجب أن ينتهي الصراع بالوصول إلى نمط حكم في إسبانيا يعطي المناطق والأقاليم شيئاً من الحكم الذاتي، مبنياً على حقوق سكان هذه الأقاليم، في مقابل واجباتهم تجاه دولة اتحادية لا يتعين أن تضعفها الانقسامات، بل يجب أن تقويها، وواضح هنا أن إنكلان، إذ طور موقفه في القسم الثالث من روايته، في هذا الاتجاه الذي جعله يتبنى، إلى حد كبير وإن مع شيء من النقد والتحفظ، موقف القسيس المقاتل سانتا كروز، إنما دنا تماماً من رؤية لإسبانيا كان يحملها في ذلك الحين الفيلسوف ميجل ديه أونامونو، وتنطلق من نوع من "الكارلية الشعبية" المستندة كما قلنا إلى لا مركزية وضروب حكم ذاتي تبدو في أزماننا هذه، على أي حال، نوعاً من الحل العجائبي لمعضلات هذا النوع التعددي من الأمم، ومهما يكن، من الطبيعي القول هنا إن رواية "الحروب الكارلية" لإنكلان، تُقرأ قبل أي شيء آخر كعمل روائي، فيه شخصيات وصراعات خارجية وداخلية وتطورات درامية، كذلك من الطبيعي القول إن هذه الرواية يمكن أيضاً أن تُقرأ كنص تاريخي، لكن الواقع هو أن الكاتب، على رغم تميز لغته الأدبية، وعلى رغم غرفه من الأحداث التاريخية، في شكل لا غبار عليه، لم يكن في الحقيقة مطلق الاهتمام لا بالجانب الأدبي وحده ولا بالجانب التاريخي بمفرده، كان مهتماً بالأحرى بالتعبير عن تصوره لكيف يمكن أن تبنى إسبانيا، في تشتتها، وبعد أن فقدت ما كان يجمع بين أقوامها (أي المستعمرات التي كانت تشكل ثروة ومنفذاً مشتركين لكل تلك الأقوام).

وهو في طريقه، اهتم كثيراً بالتأثير الذي كان للأحداث التاريخية على الأفراد والجماعات الصغيرة، وفي هذا الإطار، كانت غايته الأساس أن يصدم، ثم يترك كل واحد من قرائه أمام الاستنتاجات التاريخية التي يجد أنها تناسبه، ورامون ديل فالي إنكلان (1869 - 1939) لم يخف أبداً توخيه هذه الغاية من كتابته، هو الذي لم يتوان عن وضع أدبه كله في تلك المرحلة في خدمة فكره الذي كان يرى أن أصحاب الفكر الليبرالي هم المسؤولون عن الانحطاط الذي تعيشه إسبانيا.

أدب شعبي وترفيهي

مهما يكن، فإن إنكلان لم يكتف في كتاباته بالتعبير عن الواقع السياسي أو التاريخي، بل إنه خاض الأدب بشكل شعبي وترفيهي أيضاً، وكتب شعراً وأغنيات، كما كتب للمسرح وكتب القصة القصيرة، ومن أعماله الشهيرة إضافة إلى "الحروب الكارلية"، "حدائق مظللة" و"تيرانو بانديراس" التي رسم فيها صورة لديكتاتور بشكل جعل كثراً يعتبرون معظم ما كتبه روائيو أميركا اللاتينية من أعمال تتحلق من حول ديكتاتوريين، محاكاة لروايته تلك أو استيحاء منها.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة