Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"عين حورس" تسقط "العصفورة" في مهب السخرية

تهافت مصممة الغرافيك المصرية غادة والي في الرد على تهم السرقة جعلها مادة للتهكم ومصدراً للنيل من الجهل والجهلاء

جدلية حورس والعصفورة أدت إلى رسم بروفايل شعبي كامل للإله المصري القديم (أ ف ب)

ملخص

جدلية حورس والعصفورة أدت إلى رسم بروفايل شعبي كامل للإله المصري القديم الذي ثبت أنه صقر عظيم وليس عصفورة صغيرة

أن تشير "مدام عفاف" إلى هذه الطائر الضخم بإعزاز وتقدير، فهذا شأن جليل. وأن يدافع "الأستاذ محمود" عن ذلك الكائن مقطب الجبين الذي يقف مرة على رجلين آدميتين وأخرى على رجلي عصفور، فهذا أمر جميل. وأن تهب "الحاجة سعاد" زوجة "الأستاذ محمود" لتنهر زوجها قائلة إن هذا الكائن ليس عصفوراً، ولو كان بجناحين، لكنه "الإله حورس العظيم"، فهذه معركة أسرية عظيمة.

عظمة الموقف الشعبي المصري المتفجر من رحم "عصفورة" مصممة الغرافيك المصرية غادة والي مستمرة في التعبير عن نفسها على مدار الساعة. والي التي قيل ثم ثبت على رغم النفي والإنكار والتحجج والتهرب، إنها "سرقت" – وفي أقوال أخرى "تطابقت لوحاتها المعروضة باسمها" –أعمال الرسام الروسي غورغي كوراسوف، دفعت المصريين دفعاً للبحث والتنقيب في تاريخهم العميق الطويل كما لم يفعلوا من قبل.

اتهامات وسرقات فنية

قبل ظهور والي منذ أيام في برنامج "الحكاية" مع الإعلامي عمرو أديب للرد على الاتهامات الموجهة لها على مدار أشهر بأنها "سرقت" أعمال فنان روسي وقدمتها في فعاليات عامة ورسمية، بل وتم تعليق بعضها على جدران محطات ومبانٍ ومصالح، اقتصر تداول المصريين للمسألة على العنصر الخبري السريع، لكن توافر عناصر القيل والقال، والضغط الاستفساري من قبل أديب والإنكار العنيد من قبلها، والتضييق عليها بأسئلة صريحة ومباشرة والرد عليها بإجابات أقل ما يمكن أن توصف بها هو "السطحية الأنيقة" أو "الهزلية البديعة" أو "الضحالة الخلابة" دفع الملايين للوقوف على قلب رجل واحد وامرأة واحدة على أبواب "غوغل".

وإذا كان الراحل العظيم كامل الشناوي كتب "على باب مصر تدق الأكف، ويعلو الضجيج، رياح تثور، جبال تدور، بحار تهيج، وكل تساؤل في دهشة، أين؟ ومن" وكيف إذاً؟" قبل ما يزيد على نصف قرن، فإن أكف المصريين تدق على باب "غوغل" وغيره من أدوات ومنصات البحث في محاولات مضنية لمعرفة "أين؟ ومن؟ وكيف إذاً؟ ولكن جميعها منصب على مصممة الغرافيك غادة والي.

كان البحث عنها، وعن الفنان الروسي المنسوبة إليه اللوحات الأصلية التي استنسختها، عاماً مطلقاً، لكن ما أن تفوهت بكلماتها التي أصبحت "أسطورية" والتي سمت فيها الإله حورس العظيم "عصفورة"، حتى انتفضت عمليات البحث، وارتعدت تحركات الرد، وكادت الكابلات البحرية الناقلة للإنترنت تهتز لفرط التفتيش والتنقيب.

المنقبون الأوائل في "فضيحة" غادة والي عرفوا أن سجالاً عنيفاً، ولكن بعيد عن أعين الإعلام وآذان الـ"سوشيال ميديا" جرى قبل نحو خمس سنوات، حين أطلقت شركة مياه غازية شهيرة عبواتها بشكل جديد ورسوم غير معتادة مستوحاة من التاريخ المصري، وتم نسبها إلى والي، وهو ما اعترض عليها الفنان الروسي كوراسوف، مؤكداً أنه صاحب التصميمات.

احتفظ السجال بقدر من الهدوء ولم ينتشر على الملأ، ولسبب ما اختفي بعد أسابيع قليلة، قبل أن يتفجر مجدداً مضافاً إليه جداريات في محطة مترو أنفاق "كلية البنات" في القاهرة، وجميعها يقول الفنان الروسي إنها صورة طبق الأصل من لوحاته. وتجدد السجال، وتراشق المحاميان. وقال هذا ورد ذاك، واجتهد مستخدمون لمنصات التواصل الاجتماعي، فبحثوا عن الفنان الروسي، ودخلوا صفحاته، ووجدوا رسوماته التي تبدو صورة طبق الأصل أو شبه طبق الأصل وأعمال والي وتسابقوا في نشرها على صفحاتهم، وهو النشر العنكبوتي المعروف بانشطاره وتشاركه وتحوله إلى "ترند" و"الأكثر تداولاً" و"الأعلى قراءة" بعد دقائق.

مرور القضايا المثيرة

مر كل هذا مرور القضايا المثيرة الساخنة الجاذبة للاهتمام، سمة العصر الرقمي، كما مر النصف الأول من لقاء والي مع أديب على شاشة التلفزيون وفيه قدر غير قليل من الحكم الشعبي الصادر من قبل المشاهدين على والي بأنها "غير صادقة" أو "تهرب من الإجابات" أو "لا ترد على الأسئلة بإجابات لا علاقة لها بالسؤال" متسلحة بأناقة واضحة وابتسامة عريضة و"سلايد شو" مبهر وإنجليزية صحيحة واستعراض أصول أسرية راقية وخلفية تعليمية دولية ومهارة مهنية مشهود لها بجوائز أممية وخطب في فعاليات رسمية وتكريمات استغرقت صفحات وصفحات.

10 كلمات فارقة

لكن مرور الكرام توقف حين عرض أديب إحدى اللوحتين المتنازع على مصدرها الأصلي بنسختيها للروسي كوراسوف والمصرية والي. بدا عرض اللوحتين على الشاشة وكأنه لعبة "استخرج الفروق بين الرسمتين" بالغة الصعوبة، حيث التطابق سيد الصورتين، باستثناء واحد، هذا الاستثناء وصفته والي بـ"العصفورة".

10 كلمات قالتها والي حولتها بين دقيقة وأخرى إلى مثار سخرية وتهكم، ومصدر نكات وقفشات، ناهيك بمطولات وسرديات وتحليلات وبكائيات حول الجهل والجهلاء، وتاريخ الأجداد العظيم وضحالة البعض من الأحفاد الأقرب ما تكون إلى الخيال غير العلمي. "بص حضرتك، في هنا عصفورة عنده. في الرسمة بتاعتي مافيش" (انظر، لديه عصفورة في لوحته، لكن لوحتي لا توجد فيها عصفورة).

ولما اتضح أن العصفورة المشار إليها هي "حورس العظيم" أو "إله السماء" أو "الإله الأكبر" في ميثولوجيا الحضارة المصرية القديمة، جن جنون المصريين. صحيح أن كثيرين لا يعلمون كثيراً عن "حورس" في الحضارة المصرية القديمة، أو كيف أنه إله على شكل صقر، عينه اليمنى تمثل الشمس أو نجمة الصباح التي ترمز للقوة والسمو، واليسرى تمثل القمر أو نجمة المساء التي ترمز إلى الشفاء والصحة، وعلى رغم أن ملايين المصريين لم يشغلوا أنفسهم كثيراً بمكانة "حورس" في مصر القديمة، أو أثره في ثقافة الأجداد، أو دوره في صناعة الحضارات، أو مكانته في حياة من عاشوا على أرض مصر قديماً معتبرين إياه إله السماء الممثل للحق والعدل الذي يرعاهم، وعلى رغم أن كثيرين لا يعرفون أن الحضارة المصرية القديمة فيها أكثر من حورس ذي صفة مقدسة، فإن موجة هادرة من الغضب اجتاحتهم لدى وصفه بـ"العصفورة".

الصقر المتحول عصفورة

الصقر المتحول عصفورة يهيمن على صفحات المصريين على منصات الـ"سوشيال ميديا". والعصفورة التي فوجئت بمن تختلط عليها الأمور ولا تعرف الفرق بينها وبين الصقر أصبحت حديث المصريين في الشوارع والمقاهي. ورب صدفة جاءت عن طريق "سرقة" أعمال فنية خير من ألف دعوة لقراء كتاب أو مبادرة لزيارة متحف.

كم المعلومات المتداول شعبياً هذه الأيام حول الإله حورس غير مسبوق. معبود الشمس، رمز الخير والهدل، رمز الملكية، ابن "أوزوريس" إله البعث والحساب، وعمه "ست" الشرير الذي تقول الأسطورة المصرية القديمة أنه قتل أخاه أوزوريس وبعثر أجزاء جسده في أنحاء مصر القديمة، وأمه إيزيس التي جمعت أجزاء الجسد المبعثرة وقامت بما يعرف بأول عملية تحنيط. عرف الباحثون والباحثات من الغاضبين والغاضبات أن حورس أصر على أن ينتقم لأبيه بعد أن كبر، فاكتسب اسم "حامي أبيه"، وربما هذا ما جعل عين حورس رمزاً للحماية. ووصل الأمر أن بعضهم – وهو يقرأ عن حورس نكاية فيمن سمته "عصفورة" أذرف دمعة أو دمعتين حين عرف أن "الإله حورس" فقد عينه اليسرى أثناء حربه بغرض الانتقام ممن قتلوا أباه فأصبح بعدها رمزاً للحياة على وجه الأرض.

عين حورس

ومنهم من عرف للمرأة الأولى أن "العين" التي يرتديها في قلادة أو يعلقها في مقدمة السيارة أو يشتريها لخطيبته في سوار أو يلمحها على ذيل طائرة تابعة لـ"مصر للطيران" أو يراها منذ نعومة أظافره شعاراً على البوابات واسماً للقاعات وتوصيفاً للفرق الرياضية وفصول المتفوقين ومجموعات المتدربين ما هي ألا "عين حورس".

جهود البحث والتنقيب التي يبذلها المصريون بمختلف فئاتهم وانتماءاتهم وضعت "حورس" على رأس الترند محققاً نسب تغريد وتدوين تفوق من كانت السبب في تسليط الضوء عليه. بحثوا فوجدوا أن اسم "الإله" الذي قدسه المصريون القدماء وتعاملت معه مصممة الغرافيك والي باعتباره عصفورة لا يخلو كشف أثري جديد أو بحث في علم المصريات قديم أو حديث أو محاضرة لعالم مصريات أو إشارة للحضارة المصرية القديمة من ذكر اسمه أو شرح مكانته أو ترجمة معناه أو التعريف بمكانته في هذه الحضارة التي أذهلت العالم.

صفحات "الإله حورس"

صفحات الـ"سوشيال ميديا" غارقة في تدوينات وتغريدات وصور وكلمات لا يتخللها اسم "الإله حورس"، "لماذا فقط حورس عينه؟"، "المصري القديم قدر المرأة التي ربت الإله حورس"، "قصة الإله المصري حورس الأكثر قراءة بين طلاب مدرسة ابتدائية في أميركا"، "أسطورة حورس في فيلم وثائقي"، "حورس حامي السلالة الملكية في مصر القديمة"، "حورس رمز مصري صميم"، "معبد إدفو هو معبد حورس"، والعناوين لا تنتهي.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتنتهي رحلة البحث عن "العصفورة" التي اتضح أنها صقر لدى البعض عند العين، وتحديداً "عين حورس". وعلى رغم انتشارها قطعة ذهبية أو فضية أو ملونة من معادن غير نفيسة، أو مطبوعة على "تي شيرت" أو فنجان أو حقيبة، فإن الغضب الشعبي الذي أثارته والي أدى إلى معرفة بأصل العين وقصتها. إنها "عين حورس" التي تحمل خصائص تميمية.

استخدمها المصري القديم ظناً منه أنها تحميه من الحسد والأرواح الشريرة والمرض والحيوانات المفترسة. وارتداها ليستمد القوة من الملك الإله، أو النظام والصرامة من الشمس، وحورس يمثل كليهما: الملك والشمس.

الأحفاد يبحثون

عرف الأحفاد في رحلة بحثهم عن "عين حورس" أن الأجداد استخدموها كتعويذات يقول نصها: "عين حورس حاميتك. أوزوريس هو حارسك. سيهزم كل أعدائك، وكل أعدائك هم جزء منك". وتقول تعويذة أخرى: "أحضرت لك عين حورس لتبث السعادة في قلبك". وتقول ثالثة: "أنا عين حورس المشوهة التي فقدت بطريقة مرعبة".

تتوقف رحلة البحث الانتقامي من تحويل الصقر إلى عصفورة عند "عين حورس" بقصصها وحكاياتها وأشكالها المبدعة على أيادي مصممي الأكسسوارات والملابس، لكن الرحلة تستمر بين آخرين قادتهم "عصفورة والي" لاكتشاف الربط بين "عين العناية الإلهية" لدى الحركة الماسونية وبين "عين حورس". هذه الحركة التي تعرف نفسها بأنها "حركة أخوية عالمية أهدافها المساعدة المتبادلة والصداقة وخير الناس"، ويعاديها كثيرون في أنحاء العالم إما متهمين إياها بأنها تعمل على نشر العلمانية، أو تدعو إلى تعاليم شيطانية أو تمهد لظهور المسيح الدجال وتبذل الجهود من أجل القضاء على الأديان بطرق سرية.

البحث المفرط أدى بالبعض إلى "عين العناية الإلهية" التي تعد ضمن أبرز رمزو الماسونية، ويطلقون عليها "عين الله" في حين يتهمهم أعداؤهم أن العين هي "عين الشيطان" الذي يطيعونه ويتبعون أوامره. المثير أن العين تظهر في بعض أدبيات ووثائق الماسونية قريبة إلى حد كبير من "عين حورس"، وهو ما أدى إلى تأجيج محدود لنظريات المؤامرة وأفكار التحالفات الكونية للقضاء على الدول الوطنية، هذه المرة من باب الزج بالعصفورة في جدال "حورس".

جدلية حورس والعصفورة

جدلية حورس والعصفورة أدت إلى رسم بروفايل شعبي كامل للإله المصري القديم. فبين الباحثين المنقبين من وجد نفسه وقد أخذه البحث إلى معرفة جذور وأصول الطائر الصقر. عرفوا أنه دامع العين رحب الصدر ممتلئ الزور، عريض الوسط طويل العنق قصير الذنب، أسود اللسان قصير الساقين، جليل الفخذين، هامته عظيمة قليل الريش، كما عرفوا أنه أسرع طيور الأرض، وأكثرها إخلاصاً في الحياة الزوجية. فالصقور تتزاوج ولا تعرف التعددية أو "البصبصة" لغير الرفيق، وقدرتها على الرؤية تفوق رؤية البشر بثمانية أضعاف.

 

يعتقد المصري القديم أن "حورس" أنجب أربعة أبناء هم: حابي وأمستي ودوموتيف وكبحسنوف. أما المصري الحديث – باستثناء علماء المصريات والآثار والمهتمين بالتاريخ على سبيل الهواية ومن باب القراءة - فيكتفون بالجرعة المعلوماتية المكثفة التي اكتسبوها طواعية من باب مكايدة مصممة الغرافيك واتباعاً لشعور فطري انتابهم بأن المصري القديم بعنفوانه وجبروته وأهراماته ومعابدة وحضارته وعلمه وتحنيطه ومومياواته لا يحمل "عصفورة"، بل يحمل "صقراً". يتفكه البعض بأن أبناء "حورس" لهم رب يحميهم. ويقول البعض الآخر أن حورس على العين والرأس، أما أبناؤه فلم يذكرهم أحد بسوء أو يعتبرهم أحد عصافير.

الطريف أن بين المصريين من يحمل اسم "حورس". هناك حورس عبدالملاك وحورس عبدالوهاب وحورس ابن الـ10 أعوام وحورس ابن الـ70 عاماً. وهناك حورس الفلاح ابن القرية، وحورس المهندس أو الطبيب أو المحاسب ابن المدينة. جميعهم انتفض لدى توصيفه بـ"العصفورة"، إن لم يكن غضباً على تصغير الإله المصري القديم، فتحسباً لما سيتعرض له من تنكيت وسخرية من دوائر الأقارب والأصدقاء.

الشعور العام لدى المصريين من حاملي اسم حورس في ضوء معركة مصممة الغرافيك المصرية والفنان الروسي يتلخص في الجملة التالية التي كتبها بعضهم بطرق مختلفة: "كل ما يضايقني أنني استيقظت لأجد نفسي (عصفورة)، وهذا أمر لا يليق. حورس مش عصفورة" (حورس ليس عصفورة).

المزيد من تحقيقات ومطولات