ملخص
بعد أن كان ساحة جاذبة للحركات الاحتجاجية خلال السنوات الأخيرة لإيصال رسائله إلى السلطة تحول الشارع في تونس إلى فضاء خال من الحركة السياسية، فما أسباب ذلك؟
تحول الشارع في تونس بعد 2011، إلى ساحة جاذبة لعديد من الحركات الاحتجاجية ما جعل منه وسيطاً جديداً في إعادة رسم العلاقة بين المجتمع والدولة، ولم يكن هذا الفضاء العمومي حكراً على فئة بعينها بل تقاسمته مختلف الاتجاهات السياسية والفكرية.
وبعد الزخم القوي الذي شهده الشارع في تونس مباشرة إثر الإطاحة بنظام الرئيس الراحل زين العابدين بن علي، عندما تغنى التونسيون بـ"الثورة"، وظهرت على الساحة أطياف سياسية جديدة، ساد الاستياء من أداء الطبقة السياسية التي أغرقت البلاد في سيل من الوعود الانتخابية في التنمية والرفاه الاقتصادي والاجتماعي، وهو ما راكم حال اليأس من النخب السياسية وحولها إلى لحظة 25 يوليو (تموز) 2021، التي بدأها رئيس الجمهورية قيس سعيد وقطع بمقتضاها مع تلك المنظومة السياسية.
ومباشرة إثر الإعلان عن الإجراءات الاستثنائية، استعاد الشارع السياسي زخمه الذي فقده لسنوات، وانقسم بين مساند لهذا المسار بقوة، ومن يرفضه رفضاً قطعياً، ومن يقف منه مسافة نقدية بمنطق المساندة المشروطة بعدم الانزلاق إلى مربع الاستبداد.
الانشغال عن السياسة
اليوم، وبعد أقل من عامين على تدابير 25 يوليو، يشهد الشارع التونسي هدوءاً مشوباً بالحذر، فهل نجحت السلطة القائمة في لجم صوت المعارضة؟ أم أن المعارضة التي تعاني من انقسامات قلصت حضورها في الشارع، وهي بصدد إعادة التشكل ورص الصفوف للعودة إلى التحرك؟ ثمة حقيقة جلية لا يختلف حولها اثنان، وهي أن الشارع السياسي في تونس فقد خلال هذه الفترة زخمه ويسوده الفتور، وهو ناتج بحسب عدد من المتابعين عن حال اليأس من الطبقة السياسية التي فقدت جاذبيتها لدى الرأي العام، سواء كانت في السلطة أو في المعارضة، وتعكس نسبة المشاركة الضعيفة التي لم تتجاوز 11 في المئة بالانتخابات التشريعية الأخيرة حقيقة القطيعة بين المواطنين والنخب السياسية.
يؤكد هشام الحاجي النائب السابق في البرلمان والكاتب الصحافي، في تصريح لـ"اندبندنت عربية" هذه المقاربة موضحاً "أن الانشغال التونسي بالمعيشة اليومية جعل الناس لا تولي أي اهتمام للعمل السياسي، كما أن الأحزاب والمنظمات فقدت قدرتها على التأثير والتأطير واستقطاب المواطنين وتجميعهم حول برامج أو مشاريع واضحة".
السلطة استفردت بالمشهد
ويقول الحاجي، إن "السلطة نجحت نسبياً في لجم صوت المعارضة، واستفردت بالمشهد مستفيدة من الأجهزة الصلبة للدولة وهي قوات الأمن والجيش، وفي المقابل، انحسر فعل المعارضة التي باتت تكتفي ببعض البيانات والندوات الصحافية من دون أن يكون لها الحضور القوي في الشارع".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ويعزز مقاربته بالتأكيد على "تراجع دور الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان حاضناً لتحركات الشارع علاوة على كونه خيمة للأصوات المعارضة للسلطة، بينما هو الآن منشغل بترتيب بيته الداخلي".
تراجع حضور الأحزاب في الشارع وعدم قدرتها على الاستقطاب يعود في تقدير النائب السابق إلى "عدم استفادتها من التجربة السابقة"، ويتهمها بأنها "خربت العمل السياسي ولم تجدد من نفسها ولم تصعد جيلاً جديداً ليحمل المشعل وهو ما جعلها متكاسلة تجتر الخطاب نفسه منذ أكثر من ثلاثة عقود من الزمن".
ويرجح الحاجي أن "تستمر السلطة القائمة بتحجيم دور المعارضة في الاستقطاب" مشدداً على أن "ميزان القوى اليوم في صالح السلطة، وهو ما دفع بالمعارضة إلى المراهنة على الخارج لاستجدائه من أجل تخفيف ضغط السلطة والسماح لها بالتحرك بحرية".
عودة الشارع بأدوات مختلفة
في المقابل، يعتبر صلاح الجورشي الكاتب والأكاديمي ورئيس منتدى الجاحظ، في تصريح خاص، أن "الحركة قد تدب في الشارع السياسي قريباً وربما بآليات أخرى وبشخصيات مختلفة"، مستبعداً استمرار الوضع على ما هو عليه حالياً.
ويقول الجورشي إن "الشارع من المفروض أن يتحرك في ظل غلاء الأسعار والظروف الاقتصادية الصعبة التي يعيشها التونسيون"، لافتاً إلى أن "الاتحاد العام التونسي للشغل المدافع عن الطبقة العاملة تخلى عن دوره لأنه يمر بوضع خاص جعله ضعيفاً إزاء السلطة".
ويشدد على أن "التونسيين يهربون اليوم من العمل السياسي أكثر من أي وقت مضى، بحكم أن السلطة السياسية القائمة باتت تجرم كل فعل تشتم منه رائحة المعارضة"، مستحضراً حملة الاعتقالات التي شنتها السلطة على رموز المعارضة.
ورغم أنه يشكل جزءاً من المعارضة، فإن الجورشي لا يتوانى في تحميل المعارضة مسؤولياتها كاملة، فهي في نظره "مفككة وغير متضامنة في ما بينها" مستخلصاً أن "السياسة في تونس باعتبارها فن إدارة العلاقة بين السلطة والمواطنين باتت في حالة احتضار".
ويضيف أن "ما يشغل الطبقة السياسية في تونس حالياً هي الاعتقالات التي تشنها السلطة على المعارضة، علاوة على انشغال الناس بهمومهم اليومية"، مرجحاً عودة الشارع إلى صخبه في دورة جديدة وفي سياق مختلف عما نعيشه اليوم.
احتدام الأزمة الاقتصادية والاجتماعية ومكابدة أغلب التونسيين لصعوبات الحياة، عزز حالة العزوف عن الفعل السياسي، علاوة على ما تواجهه المعارضة من تضييقات واعتقالات وانحسار دور الاتحاد العام التونسي للشغل جعل الشارع خالياً من الحركة التي تعود عليها التونسيون لسنوات.