Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

الاحتراق الوظيفي... أن تقتل نفسك وقتما تريد أن تعيش

كل عام يموت 2.78 مليون شخص حول العالم بسبب أعمالهم ويتعرض 374 مليوناً للإصابة أو المرض

يقول مدير منظمة الصحة العالمية إنه "ليست هناك وظيفة تستحق المخاطرة بالإصابة بالسكتة أو أمراض القلب" (بكسلز)

ملخص

نسبة الوفيات الناجمة عن العمل زادت بـ29 في المئة عام 2000، وكانت أسباب الوفاة ما بين أمراض القلب والسكتة الدماغية، إذ وصلت نسبة وفيات الأولى إلى 42 في المئة، والسكتة الدماغية إلى 19 في المئة ما بين عامي 2000 و2016

حاملاً ثمرة بطيخ في يوم حار داخل حافلة نقل عام ينتظر محطة الوصول القريبة من المنزل، بهذا المشهد الواقعي الذي جسدته السينما يتذكر أحمد صلاح يوم عمل والده في مصلحة حكومية لثماني ساعات يومياً، وكان راتب الأب والأم يكفيان أسرته، لكن عدد ساعات عمل أحمد تجاوز ساعات عمل والده بكثير والراتب لا يكفي.

يعمل أحمد لأكثر من 85 ساعة في الأسبوع، في حين أن ساعات العمل الاعتيادية ثماني ساعات يومياً، أو 40 ساعة في الأسبوع، بحسب تقرير لمنظمة العمل الدولية في يناير (كانون الثاني) الماضي، لكن جمع الشاب بين وظيفتين يلزمه العمل كل تلك الساعات الإضافية التي تلتهم حياته.

تخرج الشاب الذي يعيش بالعاصمة المصرية القاهرة في كلية الآداب قسم اللغة العربية بجامعة بنها، وعمل في التدريس منذ 11 عاماً، وكان يضطر إلى البحث عن عمل مواز، إذ إن راتبه الشهري الذي بدأ بـ400 جنيه في عام 2012 ولم يصل إلى 2000 جنيه في 2020، لم يكن يكفيه شأنه شأن آخرين يبحثون عن عمل إضافي وربما عملين في ظروف اقتصادية بالغة الصعوبة.

كلفة العمل المميتة

ما يفعله أحمد يضعه وآخرين تحت مسمى "الاحتراق الوظيفي"، بحسب تعريف للطبيب والمعالج النفسي هربرت فرودنبرجر، الذي كان أول من يجري أبحاثاً في هذا الشأن عام 1974. وأدرجت منظمة الصحة العالمية تعريفاً للاحتراق الوظيفي في إصدارها الـ11 من التصنيف الدولي للأمراض، باعتباره ظاهرة مهنية حول إدارة الإجهاد المزمن في مكان العمل بنجاح وفاعلية، وبحسب المنظمة فإن له أشكالاً تؤدي إلى الشعور بالإرهاق والانفصال العقلي عن طبيعة العمل والأداء الضعيف.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

في كل عام يموت 2.78 مليون شخص حول العالم بسبب وظائفهم، ويتعرض 374 مليوناً آخرين للإصابة أو المرض بسبب ظروف العمل، بحسب تقرير لمنظمة العمل الدولية في أبريل (نيسان) 2019، لكن وفي بيان مشترك لمنظمة الصحة العالمية ومنظمة العمل نشر عام 2021 فإن دراسة أجريت على 19 من عوامل المخاطر المرتبطة بالعمل تبين أن التعرض لساعات عمل طويلة يزهق أرواح نحو 750 ألف شخص سنوياً حول العالم، في حين أن التعرض للهواء الملوث في بيئة العمل يستبب في وفاة 450 ألف شخص سنوياً.

هذه النسبة من الوفيات الناجمة عن العمل زادت بـ29 في المئة عام 2000، وكانت أسباب الوفاة ما بين أمراض القلب والسكتة الدماغية، إذ وصلت نسبة وفيات الأولى إلى 42 في المئة، والسكتة الدماغية إلى 19 في المئة ما بين عامي 2000 و2016، مما يعني أن نحو ثلث إجمالي الأمراض والوفيات المرتبطة بالعمل سببها عدد ساعات العمل الطويلة (أكثر من 55 ساعة أسبوعياً) بحسب الدراسة، مقارنة بمن يعملون ما بين 35 إلى 40 ساعة فقط، لافتة إلى أن عدد الذين يعملون لساعات طويلة حول العالم يشكلون تسعة في المئة من مجموع سكان الأرض حتى عام 2021، وبحسب الدراسة فإن ذلك يعرض مزيداً من العمال "لمخاطر الإصابة بالعجز والوفاة المبكرة المرتبطة بالعمل".

سعياً إلى حياة آدمية

لكن الشاب أحمد صلاح الذي يعمل 85 ساعة في الأسبوع لديه مبرراته إذ يقول لـ"اندبندنت عربية"، "أرغب في أن أعيش حياة آدمية، لم يتخط راتبي من التدريس حتى عام 2020 مبلغ 2000 جنيه، وهذا رقم لا يعينني على حياة مقبولة".

عمل أحمد ذو الـ32 سنة في مطاعم وصيدليات ومزارع، لكنه الآن يعمل في مدرسة دولية، ويتقاضى راتباً يصل إلى 6 آلاف جنيه (نحو 200 دولار) شهرياً نظير ثماني ساعات عمل في ثلاثة أيام وذلك منذ ثلاثة أعوام، لكن ذلك المبلغ أيضاً لا يكفي حاجاته، لذا لجأ إلى مشروع جديد للطباعة على الملابس يعمل فيه على مدار الأسبوع.

يبدأ يومه بالاستيقاظ في السادسة صباحاً ليذهب إلى المدرسة، وبعد الانتهاء منها يتحرك إلى مكتب الطباعة الذي يباشر العمل به منذ عامين، ويستمر هناك حتى الواحدة بعد منتصف الليل، أي نحو 19 ساعة خلال ثلاثة أيام، فلا يتبقى له من يومه سوى خمس ساعات فقط، وفي غير أيام التدريس فإن الأيام الأربعة الأخرى يكون فيها بورشة الطباعة ما بين السادسة مساء وحتى الواحدة بعد منتصف الليل.

 

 

"الظروف الاقتصادية صعبة للغاية إذ أبحث عن دخل إضافي لنفسي، الذين باتوا يعملون معي في المكان، وهم سبعة أشخاص يصلون أحياناً إلى 12 بحسب العمل وبعضهم يعمل في مكان آخر أيضاً"، يحكي الشاب الذي جمع على مدار سنوات رأسمال صغيراً من عمله الجديد "ظروف هذا الجيل تختلف عن ظروف الجيل الماضي، لم تكن هناك نسبة التضخم الحالية وارتفاع الأسعار بهذا النحو لم يكن والدي مضطراً إلى البحث عن عملين".

على مدار العام الماضي كانت نسب التخضم تشهد زيادة مطردة بالتوازي مع خفض سعر العملة المصرية في مقابل العملات الأجنبية إلى النصف منذ مارس (آذار) 2022، حين كانت العملة تسجل نحو 16 جنيهاً في مقابل الدولار، لكن سعر الأخير الآن يقترب من 32 جنيهاً. وبحسب بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر فإن التخضم السنوي لأسعار المستهلكين بالمدن المصرية تباطأ في أبريل (نيسان) إلى 30.6 في المئة، مقارنة مع 32.7 في المئة في مارس الماضي.

يقول أحمد صلاح إن قيمة العملة الوطنية في انحدار كبير وراتب المدرسة وإن كان مرتفعاً بالنسبة إلى بعض المعلمين، لكنه مبلغ لا يكفي حاجاته ولا يضمن له حياة سعيدة، وربما لذلك السبب تأخر في اتخاذ خطوة الزواج، يتساءل "لا أجد وقتاً لنفسي فكيف أجده لغيري؟"، وبحسب أسرته فإن أحمد على وشك أن "يفوته قطار الزواج".

أن يفوتك "الميري"

كان خريج كلية الآداب يبحث عن وظيفة حكومية كأن يعمل بالتدريس في مدرسة فيضمن لنفسه استقراراً وظيفياً على أقل تقدير، لكنه لم ينجح في ذلك الأمر مبكراً، وحين أتيحت له الفرصة وجد أن الراتب وصل الآن في حده الأدنى للدرجة الوظيفية السادسة إلى 3500 جنيه (113.12 دولار).

يبلغ عدد العاملين في الجهاز الإداري بمصر ما بين 5 إلى 6 ملايين بحسب تصريحات رسمية، وسبق لرئيس الوزراء المصري أن قال في مؤتمر صحافي خلال مايو (أيار) 2022، إن الدولة لا تحتاج إلى أكثر من 30 في المئة من هذا الهيكل الإداري، وهي أمور كانت تقلق الشاب أحمد ففضل العمل في القطاع الخاص بجانب وظيفته الحكومية.

يقول إنه يشعر في بعض الأوقات بضغط العمل الشديد، ويتمنى أن يعمل في مكان واحد يضمن له دخلاً جيداً، لكنه يضطر أحياناً إلى إغلاق هاتفه والانعزال عن الآخرين، "لم أعد أقابل أصدقائي أو أسافر، باتت هذه الأمور من الرفاهيات، الناس جميعها مشغولون ويتقبلون هذا الأمر، لكنني حزين على فترة شبابي التي تضيع سعياً خلف جنيهات".

 

 

يلفت استشاري المناعة أمجد الحداد إلى أن "عدد ساعات العمل الإضافية التي تتخطى سبع ساعات في أيام العمل قد تؤدي إلى مشكلات صحية، لا سيما أن الطعام الذي يأكله كثيرون خلال يوم العمل غير صحي، فإذا كانت ساعات العمل طويلة فإن الشخص سيضطر إلى الأكل خارج المنزل، والوجبات الجاهزة ستضره أكثر مما تفيده، ونرى وفيات بالذبحة الصدرية وأمراض القلب ومشكلات في الكوليسترول والدهون بسبب العمل والطعام".

يقول الحداد إن الإرهاق بشقيه الذهني والبدني يؤثر في مناعة الجسم ويصيب الشخص بأمراض مناعية، لا سيما إذا كان العمل من دون فواصل أو فترات راحة، كما أن العمل الزائد سيصيب الشخص بأمراض مناعية خطرة إذا كان لديه استعداد وراثي، وظروف العمل تلك ستعجل من ظهورها.

وكان المدير العام لمنظمة الصحة العالمية أدهانوم غيبريسوس سبق أن تحدث عن بيئة العمل وساعاتها الطويلة، قائلاً إنه "من الصادم أن ترى هذا العدد الكبير من الأشخاص يلقون حتفهم بسبب عملهم"، معتبراً أن ذلك جرس إنذار للبلدان ومؤسسات الأعمال لتحسين وحماية العاملين والوفاء بالتزاماتهم وتوفير تغطية شاملة لخدمات الصحة والسلامة المهنية. واختتم غيبريسوس كلامه في بيان مشترك مع منظمة العمل الدولية في شأن عدد ساعات العمل عام 2021، بأنه "ليست هناك وظيفة تستحق المخاطرة بالإصابة بالسكتة أو أمراض القلب".

حياة خلف مقود

خلف مقود السيارة كان منذر إمام ذو 40 سنة الذي يعمل في صيانة الأجهزة الإلكترونية في جهة حكومية يبحث عن زبون، فما إن ينتهي عمل الشاب الحكومي يبحث عبر تطبيقات التوصيل عن جنيهات إضافية، يقول "أعمل من دون تعيين في جهة حكومية، وأتقاضى 200 جنيه (6.5 دولار) في اليوم، وهو مبلغ لا يكفيني وأسرتي".

تبلغ عدد ساعات عمل منذر في جهته الحكومية ست ساعات، ولأن راتبه مرتبط بساعات عمله ففي حال الغياب لا يتقاضى أجراً، وله أن يحصل على إجازة متى شاء لكنه لا يفعل ذلك أبداً، يقول "خلال آخر خمس سنوات لم أحصل على إجازة، حتى الأعياد أذهب فيها إلى العمل".

بعد انتهاء الدوام الحكومي يفتح منذر أحد تطبيقات التوصيل، ولجديته في العمل فإن بعض الزبائن يحتفظ برقمه وتهاتفه للسفر إلى المحافظات البعيدة كالإسكندرية على سبيل المثال نظير مبلغ يتم الاتفاق عليه مسبقاً، يقول "في بعض الأيام قد أنهي عملي الحكومي وأبحث عن زبائن، وربما جلب لي العمل 500 جنيه مثلاً من 10 توصيلات، إن لدي أسرة وأنا مضطر إلى ذلك، لكنني أعود إلى البيت في الثانية صباحاً".

 

 

سبق للشاب أن عمل في بيع الهواتف وأجهزة الحاسوب ولا يزال يفعل ذلك بين الوقت والآخر، لكن العمل الأخير كان أفضل بالنسبة إليه، إذ إن لديه ابنتين وابناً وتتكلف نفقاتهم التعليمية عشرات آلاف من الجنيهات سنوياً، وإلى جانب أولاده من زيجتين سابقتين، تزوج منذر مرة ثالثة ويرعى والده ووالدته أيضاً، وهو ما مثل عبئاً اقتصادياً عليه.

يقول إن أكثر ما يشعره بالألم أنه يفتقد أبناءه خلال ساعات العمل الطويلة، وقد يعود للمنزل بعد أن يناموا فلا يجد فرصة للحديث معهم أو ملاعبتهم.

يقول أستاذ علم الاجتماع السياسي سعيد صادق إن ضعف الرواتب والظروف الاقتصادية الصعبة يدفع كثيرين للعمل في أكثر من مكان لتلبية حاجات أسرهم، وهو أمر مكلف نفسياً واجتماعياً، فهناك أزمات نفسية قد تحدث للشخص نتيجة المجهود الذهني الكبير، كما أن علاقته بأسرته تصبح متوترة.

يرى صادق أن غياب الزوج أو الزوجة عن أطفالهما لساعات طويلة وعدم قضاء أوقات معهم داخل المنزل أو خارجه بسبب ساعات العمل أمر ضار على مستوى الأسرة، كما أنه سيؤثر في إنتاج الشخص نفسه، مضيفاً "المصريون لديهم تعبير (صاحب بالين كداب)، بالتالي لن تجد أحداً يعمل في وظيفتين أو ثلاثة وينتج فيها جميعاً بالقدر نفسه والكفاءة المطلوبة نفسها".

أشباح في المنازل

يلفت أستاذ علم الاجتماع السياسي إلى مشكلة أخرى تأكل وقت العاملين لساعات طويلة في أكثر من مكان لها علاقة بالمواصلات والزحام، إذ يقضي العامل أوقاتاً شاقة في وسائل النقل كي يصل إلى العمل، وكذا حين يعود منه إلى المنزل، لكن باسم عبداللطيف (31 سنة) الذي تغيرت ظروف عمله في مجال الترجمة مع ظهور وباء كورونا مطلع عام 2022، يجد نفسه مرتاحاً لعدم اضطراره للذهاب إلى مقر العمل، لكنه لا يزال يعاني مشكلات أخرى.

يقول باسم لـ"اندبندنت عربية" إنه يعمل ثماني ساعات من البيت يدقق الكلمات ويترجمها، ويبحث أحياناً عن ساعات عمل زيادة لتحسين دخله قد تصل إلى 12 ساعة يومياً، لكن ذلك أيضاً لا يكفي حاجات أسرته التي انضمت إليها طفلة جديدة، يقول "العمل من المنزل يبدو مريحاً، لكن الأسرة ترى أنك عبارة عن شبح يعيش معها، لا وقت للأكل أو الحديث إما أن أركز في عملي كما لو كنت في المكتب أو أشترك في نقاشاتهم بالتالي سيتأثر العمل".

مع انخفاض قيمة الجنيه المصري أمام العملات الأجنبية، وعدم تعويض عمل باسم لتلك الزيادات في الأسعار، لجأ الشاب إلى عمل إضافي من المنزل أيضاً، ليكون يومه كله في البيت عمل في عمل، وهو أمر لا يحبه الشاب الذي اعتاد السفر والخروج مع أصدقائه وأسرته، لكن هذه ليست المشكلة الآن، فهو لا يستطيع النوم بشكل صحي ولا يجد ساعات كافية للراحة، يقول "أستيقظ في الصباح ولدي قرار بأن أكتفي بعمل واحد، لكنني لا أستطيع أن أفعل ذلك".

يقول المتخصصون إن على الشخص أن ينام يومياً ما بين سبع إلى ثماني ساعات، لكن بعض من تحدثت إليهم "اندبندنت عربية" لا يجدون هذا الحق، إذ إن ما يتبقى من يومهم بعد العمل في وظيفتين، إضافة إلى الساعات المستقطعة في المواصلات، يصل إلى سبع ساعات أو أقل.

"من الخطأ تماماً أن ينهي أحد عمله ثم يخلد إلى النوم، إذ ينبغي أن يتوقف عن العمل قبل موعد نومه بأربع ساعات"، قالتها نرمين هاني مسعد المعالجة السلوكية لاضطرابات النوم والاختصاصية النفسية الإكلينيكية مؤكدة لـ"اندبندنت عربية" أن "على الشخص أن يقوم بأمور عدة قبل نومه تدفع عقله نحو التفكير في غير شؤون العمل، كالاستحمام وأكل الفواكه والحديث مع المقربين في أمور لا تشغل العقل أو تضغط الأعصاب، أو مشاهدة فيلم أو الاستماع للموسيقى فإذا فعل ذلك سينام بشكل صحي، أما غير ذلك فسيعرض نفسه للأرق بشكل كبير".

تتذكر نرمين حكايات مختلفة للعاملين في أكثر من وظيفة، وقد تأثر نومهم وبالتبعية سلوكهم وإنتاجهم بسبب ساعات العمل الطويلة، لكنها ترى أن الأمر لا علاج سريعاً له إلا بترك بعض الأعمال، أو التوقف عن ساعات العمل الطويلة.

المزيد من تحقيقات ومطولات