Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

 تحية الإسباني إريثه إلى السينما تهز المشاعر في "كان" 

التركي نوري جيلان يثير الدهشة مع بطله الوجودي الفاشل في الحب

من فيلم "إغماض العينين" للمخرج الإسباني فيكتور إريثه (ملف الفيلم)

ملخص

لفترة طويلة افتقدت السينما مخرجاً اسمه فيكتور إريثه. جمهور الدورة السادسة والسبعين من مهرجان "كان" السينمائي كانوا محظوظين. فقد تسنى لهم أن يشهدوا على عودة المعلّم الإسباني إلى السينما بعد أكثر من ثلاثة عقود من الغياب.

لفترة طويلة افتقدت السينما مخرجاً اسمه فيكتور إريثه. جمهور الدورة السادسة والسبعين من مهرجان "كان" السينمائي (16 - 27 مايو / أيار) كانوا محظوظين. فقد تسنى لهم أن يشهدوا على عودة المعلّم الإسباني إلى السينما بعد أكثر من ثلاثة عقود من الغياب. صاحب تحف مثل "روح خلية النحل" و"الجنوب" كان من الأسماء المنتظرة جداً هذا العام، خصوصاً عند شلّة من الهواة الذين يضعونه في مصاف الكبار. الفيلم الذي أعاده إلى الشاشة يأتي في عنوان "إغماض العينين"، وهو عمل يمتد ثلاث ساعات، لكنّ مشاهدته، خلافاً لأفلام أخرى طويلة، متعة خالصة، لكونه يأخذنا في رحلة داخل الذاكرة والسينما والماضي والطبيعة البشرية والمرض والشيخوخة، بقدرة رهيبة في تجديد الخطاب في كلّ لحظة. 

إريثه، البالغ من العمر 83 عاماً، كان من المتوقع ان يأتي إلى "كان"، ليقدم فيلمه المعروض في قسم "كان بروميير" (فقرة حديثة تضم أفلاماً تُعرض خارج المسابقة)، اعتذر عن المجيء، واكتفى بإرسال الفيلم، في بادرة من الممكن أن لا تعجب محبيه. لكنّ مشاهدة العمل تجعلنا نرى قراره صائباً: فماذا يضيف حضوره على الفيلم؟ لا شيء على صعيد الخطاب. فهذا فيلم وصية، تلقّي الجمهور له لا يتطلب حضور المخرج الجسدي. حضوره المعنوي كاف، وهو في كل لقطة. يبقى أن إريثه كان يستحق أن يرى الحب الذي في عيون المشاهدين ليلة عرض الفيلم في "كان". غيابه عن المسابقة، لغز آخر شغل هواة الفيلم الذين استغربوا كيف من الممكن أن يبقى فيلم كهذا خارج السباق على "السعفة"، في حين أن أفلاماً عادية مرشّحة لها.

هذا لا يضع المهرجان في قفص الاتهام، لأن العديد من السينمائيين يفضّلون عرض أعمالهم خارج المسابقة. صحيفة "ليبراسيون" الفرنسية لمّحت إلى أن عدم حضور إريثه قد يكون سببه اعتراضه على عدم ضم فيلمه إلى المسابقة، لكنها لم تؤكد بل طرحته كاحتمال. في حديث لي مع مديرة أعماله والمسؤولة عن شؤونه الإعلامية، نقلت لي قناعة إريثه بأن الفيلم يتحدّث عن نفسه بنفسه، ولا يحتاج إلى أن يرافقه إلى المهرجان. 

تجربة عميقة ومتعددة

من الصعب شرح الفيلم في كلمات، فهو تجربة وجدانية وحسية ونفسية لا تهدر دقيقة واحدة من ساعاتها الثلاث. يبدأ كتحقيق يجريه مخرج (مانولو سولو) بحثاً عن الممثل الذي كان لعب في فيلمه والذي اختفى فجأةً خلال التصوير، ما حال دون إكماله. لكن التحقيق يتحول إلى بحث في الأعماق. البحث عن هذا الذي كان نجماً في أحد الأيام، يقود بطلنا إلى مناطق جديدة لم يكن يدرك وجودها. هذا البحث يكون أيضاً وقفة مع الذات، ثم اعادة اكتشافها في ضوء التقدم في السن.  

مثالية، رغبة إريثه في عدم الإذعان لمتطلبات السوق وإنجاز عمل يشبهه ويطرح تساؤلاته وهواجسه عن الوجود عموماً، من خلال هذا التصادم بين الواقع والخيال. ببساطة مطلقة، يحملنا إلى ينابيع الفن، محاصراً المشاهد بانفعالات تتجه تدريجاً إلى القلب. لا يسلّم الفيلم كل أوراقه منذ اللحظة الأولى، بل خطوة خطوة نمشي إلى حيث الخاتمة العظيمة التي ستبقى في أنطولوجيات السينما، وهي خاتمة تنبع أيضاً من رأي وموقف حيال اندثار صالات السينما. 

يتعامل إريثه مع السينما كسرّ ولغز وسؤال مستمر. فيلمه شخصي للغاية، حسّاس إلى درجة غير معقولة، ولا يمكن التعامل معه إلا استناداً إلى تجربته الخاصة في مجال السينما، مع الأخذ بما صوّره في حياته من أفلام وما بقي في جوارير مكتبه. شخصية المخرج الذي توقّف عن السينما بعد فيلمين، صدى لإريثه نفسه. وإذا قرر يوماً ما الإكتفاء بهذا القدر (4 أفلام في نصف قرن)، فهذا يعني أنه سيكون قد افتتح فيلموغرافيته بمشهد يتفرج فيه الأطفال على فيلم لفرنكنشتاين وينهيها بمشهد مشابه ولكن مع كبار في مرحلة متقدّمة من تجربتهم. وفي كلا المشهدين نرى الدهشة نفسها. 

الدهشة التركية

الدهشة هي أيضاً ما أثاره "فوق الأعشاب الجافة" (مسابقة) للتركي  بيلغي نوري جيلان عند العديد من المشاهدين. ثلاث ساعات من سينما خالصة، ثرثارة ولكن لمّاحة، برفقة ثلاث شخصيات رئيسية يعيشون ويعملون في قرية في الأناضول، الأرض التي لطالما أحبّها جيلان وصوّرها، وهذه المرة تغمرها الثلوج مثلما يغمر الحزن والكآبة قلب سيميت (دينيز سليلوغلو) المدرّس الصعب المراس الذي يبحث عن فرصة له خارج مدرسة القرية النائية التي يدرّس فيها. على غرار فيلمه الماضي، "شجرة الاجاص البرية"، يضعنا جيلان في قلب القلق الوجودي الذي عدّه بعضم اجتراراً لليأس والعدمية. لكن هذا عالمه الذي يجيد تصويره ولا يجيد سواه. طبعاً، يجب أن نتوقّع منه لقطات طويلة وكلاماً كثيراً وإحساساً طاغياً بالزمن. 

تتغير الأشياء في حياة سيميت عندما يتعرف على نوراي (مروى ديزدار)، التي يُعجب بها، لكنّ الأخيرة معجبة أكثر بزميله الذي يتشارك معه شقّته. هذا اللقاء وما ينتج منه، يعمّقان الشرخ بينه وبين نفسه، ويكون بداية تساؤلات يعيشها كسلسلة أزمات، خصوصاً في تعامله مع التلامذة. حادثة أخرى تلعب دوراً في تطور الأحداث وتأخذ الأمور إلى حيث يحاول جيلان أخذنا اليه، للمزيد من الصدمات النفسية: بعض التلميذات، ومن بينهن تلميذة يوليها اهتماماً خاصاً، يتهمن سيميت بتصرفات غير لائقة معهن. الأمر الذي يزج المدرس في المزيد من الوحدة والخيبة. سيميت، هذا البطل المضاد الذي يحوله جيلان شمّاعة، يعاني من إحساس بالدونية نتيجة اعتقاده بأنه يستحق أكثر ممّا هو فيه، الشعور الذي يجعله عدائياً ومتعالياً في تعامله مع الآخرين.

كما الحال مع "اغماض العينين"، هذا فيلم يأخذ وقته ليبني نفسه، وهو يتكوّن نتيجة تراكمات، ولذلك يصعب الحديث عنه بإيجاز، وأي اختزال له في بضعة سطور لا يفيه حقه. يعاين جيلان الطبيعة البشرية، محاولاً التقاط حيز غير مسكتشف منها، موظفاً الطبيعة القاسية التي لا ترحم والمناظر الجافة للنظر في عزلتنا والتباسنا.

فيلم جيلان مزيج من الأحاسيس المتضاربة، خصوصاً في ما يخص البطل ونياته. في رفضه للسهولة، يحملنا إلى لقاء بين القسوة والرقة، مانحاً المشاهد الكثير من الحرية. وهذا كله يضعه مجدداً في دائرة السينمائيين الذين يستحقون "السعفة الذهبية" للدورة الحالية.  

المزيد من سينما