Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

17 سنتيمترا خضرة لكل مواطن... ماذا يتنفس المصريون؟

يتجاوز تلوث الهواء في القاهرة المعدلات العالمية بأكثر من 15 مرة

فقدت منطقة مصر الجديدة ما يقرب من 2500 شجرة (اندبندنت عربية)

ملخص

تفيد ورقة علمية لباحثين من جامعة القاهرة إلى أن كل أحياء العاصمة المصرية تفتقر إلى الحد الأدنى من الغطاء الأخضر

على قطعة القماش ذات المربعات الزرقاء أو الحمراء غالباً، يجلس الأب والأم أمامهما بعض من الشطائر والعصير، من حولهما يلعب طفلاهما يتقاذفان الكرة في ما بينهما، أسفل تلك الشجرة البعيدة يجلس شاب يقرأ كتابه في هدوء وتأمل، وثمة حبيبان يتمشيان وسط الخضرة الرومانسية يتنقلان بين رحيق الزهور العطرة في تلك المساحة الخضراء التي تتوسط الحي، وعلى الطريق الرئيس في الخارج تصطف الأشجار الخضراء صامدة في كفاحها ضد عوادم السيارات التي تكتظ بها العاصمة المصرية، لتمنح المارة نسمة هواء رطب يهدئ من لهيب حرارة الصيف، ويُهدي الناظر رشفة جمال تروى ظمأ ضيق المعيشة.

هكذا كان المشهد المعتاد في عديد من أحياء القاهرة قبل سنوات، إلى أن استيقظ المصريون على عملية تطوير كبرى غيّرت معالم الطرق. يسّرت العملية حركة السير، وسرعت الوصول إلى الوجهات المختلفة لتلك المحافظة التي يقطنها أكثر من 25 مليون نسمة، لكنها أصبحت أكثر رمادية بعد أن جرت إزالة مساحات واسعة من الشجر، بينما تلاحق نسب مرتفعة من تلوث الهواء مواطنيها.

قبل أسبوع، دافع الرئيس التنفيذي لصندوق التطوير الحضري خالد صديق، عن عملية التطوير الجارية والرد على الانتقادات الخاصة بتآكل المساحات الخضراء في مصر. موضحاً في تصريحات تلفزيونية، أن إزالة الأشجار القديمة هدفها "تنفيذ سيولة مرورية بطريقة منظمة". وفي المقابل تنشأ مسطحات خضراء في معظم مناطق العمران الجديد، بما في ذلك العاصمة الإدارية التي ستشهد واحدة من أكبر حدائق العالم، بحسب وصفه، مما يدفع بالتساؤل عن أحياء القاهرة وما يتنفسه سكانها؟

تلوث الهواء

يتجاوز تلوث الهواء في القاهرة المعدلات العالمية بأكثر من 15 مرة، وفق منظمة الصحة العالمية. ففي حين أن تعرض الأشخاص للجسيمات الضارة يجب أن لا يتجاوز خمسة ميكروغرامات لكل متر مكعب من الهواء سنوياً، فإن المستويات في القاهرة بلغت 15.2 ضعف هذا المعدل في عام 2018.

وتحدد منظمة الصحة العالمية جودة الهواء بناءً على مقياسين PM10 وPM2.5، والنوع الأول هو عبارة عن مادة جسيمية في الهواء يبلغ قطرها 10 ميكرومترات أو أقل، وPM2.5 يبلغ قطرها 2.5 ميكرومتر أو أقل، وغالباً ما توصف بأنها جسيمات دقيقة أو رذاذ، لذا فإنها قادرة على اختراق الجهاز التنفسي، ومن ثم فإن تعرض الأشخاص للجسيمات يجب أن لا يتجاوز خمسة ميكروغرامات لكل متر مكعب من الهواء سنوياً، بينما في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، يتعرض السكان لأكثر من 10 أضعاف هذا المعدل.

وفي القاهرة، يتجاوز المستوى الآمن 11.7 فوق الحد الآمن لجزيئات PM2.5 و14.2 فوق الحد الآمن لجزيئات PM10، وفق برنامج حلول للسياسات البديلة التابع للجامعة الأميركية في القاهرة.

بحسب تقرير صادر عن شركة الأبحاث البريطانية "إيكو أكسبرت" شمل 48 بلداً، فإن القاهرة بين أكثر المدن تلوثاً في العالم مع دلهي وبكين وموسكو وإسطنبول وقوانغتشو وشنغهاي وبوينس آيريس وباريس ولوس أنجليس، وهو التقرير الذي نفته الحكومة المصرية آنذاك.

وفي حين تأتي القاهرة في المرتبة 34 في تقرير "إيكو أكسبرت" بين 105 بلدان العام الماضي، لكن يفيد تقرير البنك الدولي "سماوات زرقاء، بحار زرقاء" لعام 2022 أن القاهرة هي الأكثر تلوثاً بجسيمات PM2.5 شديدة الخطورة بين دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا بالنسبة إلى الناتج القومي.

كما تأتي العاصمة المصرية في المستوى الثاني في العالم (بعد دول منها الصين والهند) من حيث تلوث الهواء بجسيمات PM10 الضارة أيضاً بالصحة.

زيادة معدلات الوفاة نتيجة للتلوث

وفق تقرير منظمة الصحة العالمية لعام 2021 فإن سبعة ملايين شخص يموتون سنوياً في أنحاء مختلفة من العالم نتيجة للتعرض للهواء الملوث بتلك الجزيئات الدقيقة التي تخترق الرئتين والقلب، مما يتسبب في أمراض مثل السكتة الدماغية وأمراض القلب وسرطان الرئة والانسداد الرئوي المزمن والتهابات الجهاز التنفسي، بما في ذلك الالتهاب الرئوي.

كما أن تلوث الهواء يؤثر تأثيراً كارثياً في الأطفال. في جميع أنحاء العالم، يعاني ما يصل إلى 14 في المئة من الأطفال الذين تتراوح أعمارهم بين خمسة أعوام و18 عاماً من الربو المتصل بعوامل تشمل تلوث الهواء.

وفي كل عام يموت 543 ألف طفل دون سن الخامسة بسبب أمراض تنفسية مرتبطة بتلوث الهواء. ويرتبط ثلث الهواء أيضاً بسرطانات الأطفال، وتتعرّض النساء الحوامل لتلوث الهواء، بما يمكن أن يؤثر في نمو مخ الجنين، كما يرتبط تلوث الهواء بالضعف الإدراكي لدى الأطفال والبالغين.

 

وفقاً لدراسة البنك الدولي الخاصة بتقرير التنمية لمنطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، فإن سكان القاهرة يعانون آثاراً صحية على الجهاز التنفسي والقلب والأوعية الدموية، بسبب تلوث الهواء. ويمكن أن يعزى نحو 11 في المئة من الوفيات المبكرة في القاهرة الكبرى إلى تلوث الهواء بجسيمات PM2.5 الدقيقة، لعدم استيفاء إرشادات منظمة الصحة العالمية.

ووفق التقرير فإن عديداً من المدن الرئيسة في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لا تستوفي الإرشادات العالمية، فقط الجهراء في الكويت وسلا في المغرب تظهران مستويات تلوث هواء قريبة إلى حد ما من عتبة منظمة الصحة العالمية.

فيما كشفت دراسة أميركية عام 2018 حول تأثير جزيئات PM2.5 على متوسط العمر على الصعيدين العالمي والإقليمي، عن أن تلوث الهواء سبب لفقدان نحو عامين في المتوسط من عمر كل مواطن مصري بسبب الاعتلال أو الإعاقة الصحية.

يقول الباحث لدى وحدة العدالة البيئية بالمبادرة المصرية للحقوق الشخصية محمد يونس، إن أعداد الوفيات المبكرة في مصر بلغت بسبب تلوث الهواء أكثر من 90 ألف حالة عام 2019، كما كان تلوث الهواء السبب في أكثر من 12 في المئة من إجمالي الوفيات في مصر خلال عام 2017 بحسب بيانات معهد القياسات الصحية والتقييم.

ووفقاً لقاعدة بيانات منظمة الصحة العالمية فإن الأمراض المسببة للوفاة المبكرة نتيجة تلوث الهواء في مصر في 2016 هي أمراض القلب بنسبة 57.9 في المئة، والسكتة الدماغية 17.7 في المئة، وأمراض الرئة والجهاز التنفسي السفلي والسرطان 24.4 في المئة.

ليس ذلك فحسب، بل إن الأمراض غير المعدية تعتبر السبب الأول للوفاة في مصر، حيث تتسبب في 82 في المئة من إجمالي الوفيات، و67 في المئة من إجمالي الوفيات المبكرة.

الشجر درع حماية

تشمل استراتيجيات مكافحة تلوث الهواء التحول الأخضر بما يعني الابتعاد عن مصادر الطاقة الأحفورية والاعتماد على تلك المتجددة أو ما يعرف بالطاقة النظيفة، لكن لا يمكن في سبيل ذلك التغاضي عن الدور الرئيس المهم لتوفير الحدائق والمساحات الخضراء التي تلعب دوراً مزدوجاً يتعلق أيضاً بمقاومة تغير المناخ.

تقول المسؤولة لدى الإدارة المعنية بالصحة العامة والبيئة والمحددات الاجتماعية للصحة في منظمة الصحة العالمية، ناتالي روبيل، إن عدداً متزايداً من الدراسات الوبائية أثبتت أن المحافظة على المساحات الخضراء الحضرية تحقق آثاراً صحية إيجابية متنوعة، بما في ذلك تحسين الصحة العقلية وخفض الاكتئاب وتحسين نتائج الحمل وخفض معدلات الإصابة بأمراض القلب والأوعية الدموية والوفيات الناجمة عنها والسمنة والسكري.

 

فيما كشفت دراسة بعنوان "ظل الشجر يخفض استخدام الطاقة وانبعاثات ثاني أكسيد الكربون" عن أن كل شجرة مزروعة في موقع استراتيجي بهدف توفير الظل يمكن أن تؤدي مباشرة إلى خفض نحو 10 كغم من انبعاثات الكربون من محطات توليد الطاقة، عن طريق خفض الطلب على مكيفات الهواء.

وتتعدد أهمية الأشجار في الأحياء الحضرية، وفق منظمة الأمم المتحدة للأغذية "الفاو"، بين تبريد الهواء بنسب تتراوح بين درجتين إلى ثماني درجات مئوية، وهي مرشحات ممتازة للملوثات الحضرية والجسيمات الدقيقة الضارة جداً، إذ يمكن لشجرة واحدة أن تمتص ما يصل إلى 150 كغم من غاز ثاني أكسيد الكربون سنوياً، بالتالي التخفيف من آثار تغير المناخ.

كما أن الأشجار الموضوعة بشكل صحيح حول المباني يمكن أن تقلل من الاحتياج إلى تكييف الهواء بنسبة 30 في المئة، وتوفير الطاقة المستخدمة لأغراض التدفئة بنسبة 20 - 50 في المئة، كما تعمل على تنظيم عملية تدفق المياه وتحسين نوعية المياه.

ومن الناحية الاستثمارية فإن المناظر الطبيعية، لا سيما بوجود الأشجار، يمكن أن تزيد قيمة العقارات 20 في المئة. وعلى النحو البيئي، توفر الأشجار الموائل والغذاء والحماية للنباتات والحيوانات وزيادة التنوع البيولوجي في المناطق الحضرية.

17  سنتيمتراً خضرة نصيب الفرد في مصر

في حين تنص المادة 45 من الدستور المصري على أن "الدولة تكفل حماية وتنمية المساحة الخضراء في الحضر"، وتجرم المادة 367 من قانون العقوبات قطع النباتات والأشجار، إلا أنه خلال عملية تطوير الطرق التي بدأتها الحكومة المصرية قبل سنوات قليلة جرى تجريف آلاف الأمتار من المساحات الخضراء والشجر.

ونظراً إلى غياب البيانات الرسمية، لم يتسنَ لـ"اندبدندنت عربية" الحصول على رقم دقيق في شأن المساحة المقطوعة، بينما حاولنا التواصل مع وزارة البيئة المصرية من دون رد، لذا جرى جمع بعض البيانات عبر الأخبار المنشورة في الصحافة المصرية للمناطق الرئيسة في القاهرة الكبرى التي شملتها عملية تطوير الطرق والاستناد إلى دراسات المجتمع المدني وتقديرات النشطاء والباحثين المعنيين بالبيئة.

 

ومن خلال جولة عبر صور القمر الاصطناعي باستخدام تطبيق "غوغل إرث" يتضح حجم خسارة المساحات الخضراء في عديد من الأحياء، بخاصة حي مصر الجديدة. فبمقارنة صور للمنطقة بين عامي 2010 وحالياً، تظهر التغييرات في حجم المساحة الخضراء.

وتنص المعدلات العالمية على الحاجة إلى توفير ثلاثة آلاف متر مربع من المساحات الخضراء لكل خمسة آلاف نسمة يوجدون داخل حي واحد، وبتطبيق المعدل المذكور على عدد سكان مصر البالغ 104 ملايين نسمة حالياً داخل الدولة، نحتاج إلى أن يكون متوافراً لدينا نحو 62 مليون متر مربع من الحدائق والمتنزهات، بينها 15 مليون متر مربع داخل القاهرة الكبرى.

لكن المساحات المتوفرة بالفعل المرصودة من قبل الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بعيدة تماماً عن المساحة الواجب توافرها على مستوى الجمهورية. فوفقاً لبيانات الجهاز المركزي، فإن متوسط نصيب الفرد في مصر من المساحات الخضراء بلغ 17 سنتيمتراً فقط حتى عام 2020.

وتتقلص هذه المساحة إلى سنتيمترين اثنين في محافظات القليوبية والغربية والفيوم وقنا ومطروح، بينما تزيد إلى 39 سنتيمتراً فقط في القاهرة والإسكندرية وبورسعيد والسويس.

تجريف 96 فدان خضرة في مصر الجديدة

شملت مناطق التطوير في القاهرة الكبرى أحياء كبرى مثل مصر الجديدة وجسر السويس والحلمية ومدينة نصر والمعادي والمهندسين والعجوزة. ووفقاً لدراسة أصدرها المشروع البحثي التابع للجامعة الأميركية بالقاهرة "حلول للسياسات البديلة" جرى قطع 96 فداناً من المساحات الخضراء في مصر الجديدة في 2020، إضافة إلى قطع مزيد في السنوات اللاحقة ومن بينها إزالة أجزاء من حديقة الميريلاند التاريخية.

ويشير المحامي المتخصص في قضايا البيئة أحمد الصعيدي إلى أن مصر الجديدة "فقدت ما يقرب من 2500 شجرة".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وتستشهد ورقة بحثية بعنوان "حتى لا يزول الأخضر: الأشجار والحدائق في مدن مصر من منظور العدالة البيئية" أعدها باحثو المبادرة المصرية للحقوق الشخصية في نوفمبر (تشرين الثاني) 2022، بدراسة حول كثافة الأشجار عالمياً نشرتها دورية "نيتشر" العلمية عام 2015، تشير إلى أن نصيب الفرد من الأشجار في مصر يبلغ شجرة واحدة فقط، وهي أقل نسبة مقارنة بدول شمال أفريقيا.

وتفيد ورقة علمية لباحثين من جامعة القاهرة إلى أن كل أحياء القاهرة تفتقر إلى الحد الأدنى من الغطاء الأخضر، وعن طريق دراسة عوامل مترابطة مثل الحرارة القصوى والكثافة السكانية والفئات الأكثر هشاشة (الأطفال تحت خمس سنوات والسكان فوق 65 سنة) ومستويات الفقر في كل حي، كانت النتيجة أن 13 من أصل 46 منطقة في القاهرة معرضة لأخطار مرتفعة أو مرتفعة جداً من التعرض لموجات الحرارة.

وتؤكد الباحثة البيئية، راجية الجيزاوي، أن الحكومة المصرية بحاجة إلى دراسة الآثار المحتملة للبنية التحتية الضخمة والمشاريع الاستثمارية، إذ يسهم قطع الأشجار في الاحتباس الحراري، نظراً إلى أهمية الأشجار في امتصاص ثاني أكسيد الكربون الموجود بالفعل في الغلاف الجوي، علاوة على أن قطع الأشجار وإزالة المساحات الخضراء يرفعان درجات الحرارة ويزيدان الاعتماد على أجهزة التكييف.

ويقول يونس إن الأشجار تعتبر حلاً بديهياً لتخفيف انبعاثات ملوثات الهواء والمناخ، والتكيف مع الاحترار العالمي تحديداً داخل الكتل العمرانية، لكننا نشهد تعديات متكررة على الأشجار الناضجة في الضواحي والمدن المصرية.

والمفارقة هنا أن معظم التعديات حدثت خلال مشروعات مركزية قومية ضمن خطط الحكومة للتنمية المستدامة، سواء لمد وتوسعة شبكة الطرق أو مشروع تبطين الترع، الذي كان يتطلب إزالة الأشجار الممتدة على جانبي الترع والمصارف، بينما لم يتم الإعلان عن دراسة الآثار البيئية والاجتماعية لقطع الأشجار، رغم أن مشروع تبطين الترع هو أحد مشروعات التكيف مع تغير المناخ، ومشروعات الطرق يتم النظر إليها باعتبارها أحد مشروعات التخفيف من انبعاثات تلوث الهواء والمناخ.

اقرأ المزيد

المزيد من بيئة