Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الخبزة" مزيج من "دقيق" التاريخ و"خميرة" النضال السياسي في تونس

علاقة المواطن بقوته اليومي تصل إلى درجة "التقديس" وفقدانه ينبئ بالإضرابات

مثلت الخبزة رمزاً احتجاجياً في أحداث يناير 2011 في تونس (أ ف ب)

ملخص

يتجاوز الخبز في تونس كونه المكون الأساسي للمائدة ليحضر في المخيال الشعبي ويختزل تاريخاً سياسياً واقتصادياً واجتماعياً في البلاد.

التصقت عبارة "الخبزة" في تونس بالثقافة الشعبية فهي تعبيرة رمزية عن الكد والاجتهاد من أجل الحد الأدنى من متطلبات الحياة وهي رغيف الخبز، كما تُعتبر تاريخياً من المكونات الأساسية للغذاء عند التونسيين، ويتراوح معدل استهلاك المواطن التونسي للخبز سنوياً بين 70 و80 كيلوغراماً. و"الخبزة" في تونس ليست فقط مجرد مكوّن غذائي، بل هي جزء من "الثقافة الشعبية" ملتصق بشدة بالتاريخ الاجتماعي والسياسي الحديث للبلاد.

الخبز في المدونة الشعبية

ويتجاوز الخبز كونه المكون الأساسي للمائدة في تونس ليحضر في المخيال الشعبي وبقوة في الأمثال الشعبية التي تختزل تجارب التونسيين في الحياة عبر التاريخ، فالتونسي متوسّط الحال يفنى عمره وراء لقمة العيش، أي في المدلول الشعبي "يجري وراء الخبزة"، ومن يصطدم بمطبّات الحياة وصعوباتها يقال إن "خبزته صعيبة"، ومن لم يذق الطعم اللذيذ للحياة فيقول إن "الخبزة مرّة". أما من اختار الغربة فالخبزة هي من أخذته خارج حدود الوطن.

ويستحضر التونسيون تعبيراً هجيناً في سياق الحفاظ على مورد الرزق، فيقولون عنه إنه "خبزيست" وهو نعت هجين مشتق من الجذر العربي لكلمة خبز وأُلحق به تتمة "يست" (iste) باللغة الفرنسية.
وتمتد المدونة الشعبية في التعبيرات الرمزية للخبز لتشمل التونسي السعيد، فيقال عنه "خبزه مخبوز وزيته في الكوز"، أي أن الخدم يعدون له الخبز ويحضرون المائدة، من دون أن يشقى، إلا أن هذه المدونة تعتبر أن الكرامة قبل الخبز، لذلك نبَت المثل الشعبي القائل "خبز وماء، والراس في السماء"، وهو المثل الذي تحوّل إلى شعار الثورة في عام 2011، ليصبح "خبز وماء، وبن علي لا".
 


الخبز هو النعمة

علاقة التونسي بالخبز تلامس التقديس، والرائج استخدام عبارة "النعمة" للحديث عن الخبز ومشتقاته، كما يُقسم بعض التونسيين بهذه النّعمة فيحلف التونسي قائلاً "وراس هالنعمة"، فهو قسم عظيم، والذي "يحلف بالنعمة ثم يحنث يعمى" أي يفقد البصر، وهو سجع تونسي متداوَل تقديساً للخبز يدفعه إلى التقاط أي قطعة منه ملقاة في الشارع وتقبيلها أحياناً ثم وضعها جانباً حتى لا يدوسها المارة أو السيارات.

هكذا هي دلالات الخبز إنه "كيمياء الحياة اليومية" في تونس، به يعيش التونسي ولأجله يشقى ويتعب، فالخبز قوت يومي وخزان ثقافي ومسار تاريخي في ذلك البلد، فهو الذي رتّب علاقة التونسيين بالسلطة منذ الاستقلال وحتى اليوم.

تغيّر السياق و"الخبزة" نفسها

قبل الاستقلال، حين كان عدد السكان لا يتجاوز 4 ملايين نسمة، كان التونسي يتزوّد بالقمح من الفلاح مباشرة ثم يتوجّه إلى الطاحونة ومنه يستخرج مؤونة السنة من الكسكسي والمحمصة والدقيق الخاص بإعداد الخبز طوال السنة.

وقال أستاذ التاريخ المعاصر في الجامعة التونسية، عبد الجليل بوقرة، "في عهد الاستعمار لم يكن عدد المخابز يضاهي العدد الحالي (حوالى 4 آلاف مخبزة)، وبدأت أزمات ندرة الخبز بعد السبعينيات، عند دخول المخابز العصرية التي عوّضت المخابز التقليدية التي كانت تعمل على الحطب، أما في الأرياف فالمرأة تعدّ الخبز وتطهيه بطريقة تقليدية".

ولفت بوقرة إلى أن "الخبز الذي يباع في المخابز العصرية لم تكن له مقبولية في البداية، وكان من العيب اجتماعياً اقتناءه من المخبزة العصرية، فالمرأة الحرّة بمعنى الأصيلة، هي التي تعدّ الخبز وتطهيه بنفسها لزوجها وعائلتها".

وفي أواخر السبعينيات، انتشرت المخابز العصرية بحكم تغيّر نمط الحياة وخروج المرأة للعمل ولم تعد تجد الوقت الكافي لإعداد الخبز في المنزل.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)


صندوق التعويض من نعمة إلى نقمة

وأمام تقلّب مواسم صابة الحبوب، وارتفاع عدد السكان، وعدم التمكن من تحقيق الاكتفاء الذاتي من هذه المادة، توجهت الدولة التونسية نحو استيراد القمح، إلا أنها واجهت مشكلة حيث لا يمكنها بيعه بسعر التكلفة إلى المواطنين فتم اللجوء إلى وضع "صندوق التعويض" من أجل تغطية الفارق بين سعر التكلفة عند التوريد وسعر البيع للتونسيين، إلا أنه بمرور الزمن أصبح الصندوق بدوره مشكلة لأنه بات يثقل كاهل ميزانية الدولة من دون أن يستهدف الدعم مستحقيه بشكل مباشر بل يستفيد منه رأس المال كأصحاب النزل والمطاعم الفخمة التي تقتني المواد المدعمة وتبيعها بأسعار خيالية.
وهنا المفارقة، إذ أصبحت الدولة في نظر المتابعين للشأن العام في تونس، تدعم أصحاب رأس المال، من دون أن تجد حلولاً لآليات وضعتها بنفسها إلا أنها حادت عن أهدافها. وما زاد الطين بلّة، تخلي الدولة عن تجميع الحبوب واستغلال المطاحن وتوزيع الدقيق المدعم على المخابز، فظهرت أزمات جديدة تتعلق بالتحكم في سوق الدقيق والخبز المدعم ما نتج منه اضطراباً في توزيع الخبز على التونسيين.

ودعا بوقرة الدولة إلى "الاضطلاع بمسؤولياتها كاملة، في هذا القطاع الحيوي، والتحكم في عمليات التزوّد بالحبوب والتصرّف فيها"، معتبراً أنه "من الممكن تجاوز أزمة الخبز في تونس في حال توافرت الإرادة السياسية لذلك"، محذراً من أزمات جديدة في قطاعات مشابهة كالدواء والطاقة.

ورأى بوقرة أن "منظومة الاقتصاد الريعي في تونس لم تخلق برجوازية وطنية، بل رأسمال متوحش يستغل الأزمات لمزيد تكديس الأرباح على حساب قوت التونسيين".

الخبز خميرة الثورات الاجتماعية

وتخشى الحكومات المتعاقبة في تونس من تداعيات عدم توافر الخبز للمواطنين، ويسجل التاريخ أن الانتفاضات الاجتماعية التي عاشتها تونس ارتبطت في أغلبها بالخبز، كأحداث الخبز في عام 1984، التي دفع 89 تونسياً أرواحهم دفاعاً عن القوت وأصيب 900 آخرون حين واجهت قوات الأمن بعنف الانتفاضات الاجتماعية التي عمّت مختلف جهات الجمهورية الرافضة لمضاعفة سعر الخبز من 80 مليماً إلى 170 مليماً، ثم انتفاضة عام 2011، حين كانت الخبزة حاضرة بقوة في أغلب التظاهرات كرمز احتجاجي مستلهَم من إرث نضالي وثقافة شعبية يشحذان همم المحتجين.

اليوم وأمام صعوبة توافر الخبز في عدد من الولايات، اتهم الرئيس قيس سعيد، خلال لقائه وزيرة التجارة كلثوم بن رجب، في 20 مايو (أيار) الحالي، أطرافاً من دون أن يسميها "بتأجيج الأوضاع الاجتماعية والعمل على افتعال الأزمات حيث أنه من غير المقبول ألا يتوافر الخبز في ولاية في حين يتوافر في ولايات أخرى مجاورة محذراً من عواقب الاحتكار والمضاربة غير المشروعة وسيطرة بعض اللوبيات على مسالك التوزيع بغاية التنكيل بالشعب"، مطالباً بـ "ضرورة أن تتحمل كل مؤسسات الدولة مسؤولياتها كاملةً لوضع حد لهذا الوضع ولهذه الممارسات".

وأمام مأزق المالية العمومية وتعالي الأصوات المنادية برفع الدعم في أفق عام 2026، وتبني سردية "توجيه الدعم نحو مستحقيه"، ستُترك الطبقات الاجتماعية المتوسطة والفقيرة على حدّ سواء تحت رحمة سوق العرض والطلب ومنطق رأس المال الذي قد يعيد رمز الخبزة مجدداً إلى واجهة النضال الاجتماعي والسياسي.

اقرأ المزيد

المزيد من تقارير