Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

هنري واليس ينبهر بانتحار الشاعر المزيف تشاترتون دفاعا عن كرامته

الرسام زار موقع المأساة ورتب المشهد ورسمه قبل أن يترك التيار مرتحلاً إلى إيطاليا فمصر

لوحة "تشاترتون" (1856) بريشة هنري واليس (موقع غاليري تيت اللندني)

ملخص

عندما زار الرسام هنري واليس موقع انتحار الشاعر تشاترتون وانبهر بمأساته ورسمها

كان توماس تشاترتون بالكاد تجاوز السابعة عشرة من عمره عام 1770 حين وصل به شجنه وإحساسه بتلك الفضيحة التي أفقدته كرامته، أن وضع حداً لحياته مستخدماً سم الآرسنيك الذي قتله من دون أن يمهله طويلاً. ومن المعروف أن تلك المأساة قد فتنت غلاة الشعراء الإنجليز الرومانطيقيين من الذين خصوا المنتحر بقصائد عبرت عن ذلك الافتتان، بل إن الاهتمام بحكايته تجاوز دياره الإنجليزية ليصل إلى فرنسا، حيث كتب الشاعر ألفريد دي فينيي عنه تلك المسرحية الفرنسية المعنونة "تشاترتون" والتي سبق أن قدمناها قبل أسابيع في هذه الزاوية تحديداً. والحقيقة أن دي فينيي إنما كان يسير في مسرحيته وتمجيدها للكرامة الإنسانية على خطى الشعراء الإنجليز الكبار من جون كيتس إلى روبرت براوننغ، وصولاً إلى وليام وودذورث من الذين تحدثوا عن تشاترتون وكان لسان حالهم جميعاً ما قاله وودذورث عن الشاعر المنتحر "يا له من فتى رائع، يا لها من روح لا تركن إلى راحة، روح انهارت دفاعاً عن كبريائها!". ونعرف أن الاهتمام بانتحار تشاترتون على تلك الشاكلة قد انتقل خلال فترة يسيرة من الزمن من الكتاب والشعراء إلى الرسامين، ولا سيما رسامو التيار الذي عرف بتيار "الما - قبل - رافائيلي" الذي استلهم أجواءه ومواضيعه والشخصيات التي يرسمها، من الآداب والمآسي الكبرى سواء كانت إغريقية أو لاتينية أو شكسبيرية، ومن علاقة من كثب مع الطبيعة وأشيائها.

قطيعة مفاجئة

ومن هنا كان انتحار الشاعر ابن السابعة عشرة موضوعاً ملائماً تماماً لعدد من رسامي ذلك التيار ولكن خاصة منهم للرسام هنري واليس (1830 - 1916) الذي سيعرف دائماً بكونه واحداً من أكثرهم موهبة، حتى وإن كان لن يلبث أن يتخلى عن رسم اللوحات المنتمية إلى التيار نهائياً وهو بعد في الثامنة والعشرين بعد عامين فقط من رسمه تلك اللوحة الرائعة التي خلد فيها انتحار تشاترتون (1885) وألحقها في العام التالي بلوحته "قاطعو الحجارة"، ليرحل من فوره على رغم نجاحه الكبير إلى مصر مروراً بإيطاليا، متفرغاً لرسم لوحات مائية تصور مشاهد محلية على النسق الذي سيكاد مواطنه ديفيد روبرتس أن يختص به محققاً نجاحات هائلة. ولعل في إمكاننا قبل أن نعود إلى لوحة "تشاترتون" أن نذكر أن سبب رحيل واليس كان غرامياً. فهو في ذلك الحين ارتبط بعلاقة مع زوجة الشاعر جورج ميريديث فهرب معها متخلياً عن مجده الفني وعن رفاقه في التيار الما - قبل - رافائيلي كما عن مرابع شبابه، مفضلاً العيش بين إيطاليا ومصر.

ضد رافائيل!

ومع ذلك كانت لوحة "تشاترتون" تعد بأن واليس سيكون له مستقبل كبير في تلك الحركة الفنية التي كانت انطلقت أصلاً من توافق ثلاثة من مؤسسيها الأول، روزيتي وجون إيفريت ميلليه ووليام هانت، حيث تعرفوا إلى بعضهم بعضاً عندما كانوا في بداية مراهقتهم طلاباً في كلية الفنون، ليكتشفوا ولعاً مشتركاً بينهم بشعر كون كيتس والحكايات الرومانطيقية والطبيعة، إلى جانب عداء استبد بهم تجاه رسام النهضة الكبير رافائيل الذي رأوا أنه قد "ابتذل فن الرسم وأنزله من عليائه" وعليهم هم أن يعودوا إلى ما قبل رافائيل للسمو بالفن من جديد. ومن هنا سيحمل تيارهم اسم الما - قبل - رافائيلي وينضم إليهم لاحقاً خمسة أو ستة آخرون من بينهم واليس، الذي وكما أشرنا سيبادر إلى التخلي عن كل ذلك في سبيل حكاية غرامه. وطبعاً بعد أن يرسم تلك اللوحة التي لا تزال تعتبر حتى اليوم من أعظم الإبداعات التي خلدت حكاية تشاترتون ومأساته. فما تلك الحكاية؟ وما المأسوي فيها؟ وكيف قيض لفتى السابعة عشرة أن ينهي حياته على تلك الشاكلة وأن يعتبر في تلك السن المبكرة شاعراً رومانطيقياً، وأكثر من هذا أن يلقب بـ"الشاعر المزيف" فيشعر أن كرامته قد أهينت فتملي عليه كبرياؤه أن يهرب من العار إلى الموت؟

مسرح الحادثة

قد تبدو الحكاية عند هذا المستوى من أحداثها أغرب من أن تصدق، لكنها حدثت حقاً تماماً كما رويت. ولعل لوحة واليس ستبدو دائماً الأقرب إلى تصوير ما آلت إليه نتيجتها النهائية، وذلك بالنظر إلى أن الروايات المكتوبة شعراً ونثراً مسرحياً قد تغالي هنا بعض الشيء وتسهب هناك بعض الشيء، لكن اللوحة التي لا يزيد عرضها على 94 سم وارتفاعها على 63 سم، والمعلقة منذ زمن طويل في متحف "تيت اللندني"، تختصر الحكاية في مشهد النهاية بقوة وجلال. فما هذه الحكاية؟ في الحقيقة أن على مشاهد اللوحة أن يبدأ من منظر الصندوق الماثل تحت رأس الفتى المنتحر مباشرة ليجده مليئاً بل يفيض إلى جواره بقصاصات أوراق ممزقة مرمية كيفما اتفق لا شك أنها هي لب الحكاية. ومن الواضح في اللوحة أن الفتى كان هو من مزق تلك الأوراق في ساعة يأس وغضب باعتبارها ما يكمن خلف المأساة التي دفعته إلى الانتحار. قبل ذلك وفي مستهل مراهقته كان توماس يشتغل عاملاً متدرباً لدى كاتب عام ويعتبر قارئاً نهماً لمسرحيات شكسبير. وهو وجد بعد ذلك أن عليه الآن أن ينصرف إلى الكتابة على خطى ذلك الأستاذ الكبير. وهكذا ربط اسمه براهب متأدب من القرن الخامس عشر يدعى توماس راولي راح كاتبنا الشاب ينسخ من كتاباته التي عثر عليها ما راح يزعم أنه من تأليفه. والحقيقة أن تلك الخديعة انطلت أول الأمر على البعض، مما راح يجعل لتشاترتون مكانة واعدة في عالم الأدب. غير أن الفضيحة سرعان ما اندلعت وبدأت تلوح في الأفق إجراءات لمحاكمة "المزيف الشاب"، فما كان منه إلا أن قرر أن يضع نهاية لذلك كله.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

أكثر من ولادة واحدة

وهكذا قصد موقعاً يطل على كاتدرائية سانت بول في لندن كان الرسام الألماني هولباين قد اتخذ منه محترفاً له يوماً، ورتبه بصورة مسرحية منظماً مسرحيته في إخراج فني بديع وتناول مادة الآرسنيك القاتلة التي كان قد أحضرها معه إلى المكان، ثم مزق كل الأوراق التي تحوي "كتاباته" واستلقى صامتاً حزيناً على سرير كان أعده لتلك الغاية وفاضت روحه. ولعل غرابة ذلك الانتحار والسن المبكرة للمنتحر جعلتا منه بطلاً رومانطيقياً حتى وإن كان عدد من أدباء زمانه ومن بينهم هوراس والبول اعتبروه مجرد مزيف لا أكثر. ومهما يكن من أمر فإن هنري والاس وغيره من الما قبل رافائيليين كانوا من بين الذين عرفوا كيف يسبغون على الفتى، وتحديداً بسبب انتصاره لكرامته، آيات البطولة ودائماً في لغة تفخيمية لا تخلو كما فعل والاس من أداء مسرحي. فالحال أن والاس حين قرر أن يرسم تلك اللوحة قصد أولاً مكان الانتحار الذي بقي محفوظاً على حاله منذ ما يقرب من قرن من الزمن، وذلك بهدف التآلف مع مكان الحادثة. وهو صحب معه حين شرع في رسم المشهد الشاعر جورج ميريديث الذي استخدمه كموديل بديلاً عن تشاترتون، وكان ميريديث في الثامنة والعشرين لكنه بدا لواليس شبيهاً بالمنتحر. وهكذا ولدت تلك اللوحة - التي لا بأس أن نقول هنا بصددها، ولكن في مجال آخر - إنها شهدت زمن ولادتها، ولادة تلك العلاقة التي ستقوم بين الرسام وزوجة موديله الذي كان قد أضحى صديقه لينتهي ذلك كله بلوحة رائعة وبهرب العاشقين إلى مصر! مهما يكن لا بد من أن نختم هنا قائلين إن هذه اللوحة قد حققت في زمنها من الشهرة والنجاح الجماهيري ما أسفر من ناحية عن عودة حكاية توماس تشاترتون إلى واجهة الأحداث الأدبية والفنية اللندنية من جديد، ومن ناحية ثانية عن اقتباس المصور الفوتوغرافي جيمس روبنسون الذي كان شهيراً في أواسط القرن التاسع عشر لها، في سلسلة من مشاهد فوتوغرافية لم تقل عنها شهرة ورواجاً في ذلك الحين.

اقرأ المزيد

المزيد من ثقافة