Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

نبيل سليمان يكتب رواية العمى العربي... فيزيائيا ومجازيا

"تاريخ العيون المطفأة" تفتتح افقا سرديا جديدا

رواية نبيل سليمان (يوتيوب)

 لا يحتاج المرء إلى كبير عناء كي يدرك أنّ العالم المرجعي الذي يستقي منه الروائي السوري نبيل سليمان ويُحيل إليه في روايته الجديدة "تاريخ العيون المطفأة" (دار ميم للنشر ودار مسكيلياني للنشر والتوزيع) هو العالم العربي لا سيّما في لحظته التاريخية التي أعقبت اندلاع الربيع العربي. فالصراع الكامن الذي طفا على السطح في هذا العالم بين السلطة والمعارضة، والممارسات السلطوية، وتحكّم أجهزة الأمن بمفاصل الحياة السياسية، ونموّ ظاهرة الإرهاب على هامش هذا التحكّم، والسوريالية التي تحكم القرارات وتطغى على العلاقات بين المكوّنات الاجتماعية، وغيرها من الظواهر المستشرية في العالم العربي تجد لها أصداءً في الرواية. مع فارق أنّ هذه الظواهر الواقعية في العالم المرجعي تختلط بظواهر غرائبية متخيّلة في العالم الروائي، في إشارة روائية واضحة إلى تخلّف العالم المرجعي وتحكّم الغيبيات بمفاصل حياته اليومية.

 انطلاقًا من هذا الفارق، يُطلق الكاتب ثلاثة أسماء متخيّلة على المدن / البلدان التي تدور فيها الأحداث، هي: بر شمس، كمبا، وقمّورين. غير أنّ القرائن النصّية المتفرّقة التي تتناثر في الرواية، على مسافات متباعدة، تكفي للاستدلال على البلاد المستهدفة. ولعلّ الكاتب يلجأ إلى الخيال الغرائبي تعبيراً عن واقع البلاد المتخلّف، من جهة، واتقّاءً للسلطات الغاشمة التي تُحصي على الكتّاب أنفاسهم، من جهة ثانية. وهذا مبرَّرٌ في هذه اللحظة التاريخية الحرجة. مع العلم أنّ نبيل سليمان يتقن ممارسة التقيّة الأدبية، وقد سبق له أن مارسها في روايات سابقة.

 في العتبات، يُجاور الكاتب في العنوان بين ثلاث مفردات، فَيُوفّق  في حسن الجوار حين يصف كلمة "العيون" بـ "المطفأة" ما يمنح العنوان شعريّته القائمة على التضاد بين الكلمتين، فالغالب في العيون أن تكون مبصرة والنادر أن تكون مطفأة. ويجانبه التوفيق حين يستخدم كلمة "تاريخ" في عنوان روائي، فالرواية ليست تاريخاً للأحداث بل هي انقلاب على ترتيبها التاريخي. أمّا في عناوين الوحدات السردية الثماني والأربعين التي تشكّل الرواية فهو يستخدم كلمة "العين" ثمانيَ وأربعين مرّة موصوفةً، في كلّ منها،  بعدد ترتيبي. وهذا التكرار يشير إلى المكانة التي تشغلها المفردة في العتبات والمتن، على حدٍّ سواء، مع فارق أن ورودها في المتن يتمّ بمعنى سلبي هو "العمى"، على المسويين الحقيقي والمجازي / الرمزي.

في المتن الحكائي والخطابي، يتخذ سليمان من العمى، على أنواعه، موضوعة لروايته، ليحيل إلى عالم مرجعي أعمى منذ العام 1948، فظاهرة ضعف البصر "أخذت تفشو في كمبا وقمّورين، بل وفي بر شمس، ربما منذ حرب 1948"، يقول الراوي (ص 103). على أن هذه الموضوعة تكاد تكون غير مطروقة في الرواية العربية بينما يطرقها الأدب العالمي في رواية "العمى" للبرتغالي جوزيه ساراماغو، ورواية "أرض العميان" للبريطاني هربرت جورج ويلز، ومجموعة "صراع العميان" القصصية الساخرة للتركي عزيز نيسين، على سبيل المثل لا الحصر. وتَناوُلُ هذه الموضوعة يتمّ، من خلال الأحداث الروائية، بطبيعة الحال، تلك التي تقول: هيمنة السلطة الأمنية وطغيانها، استشراء الفساد، تفكّك الأسر، إجهاض العلاقات قبل أن تؤتي ثمارها، ولادة الإرهاب كردّ فعل على القمع ومصادرة الحريات، وغيرها. وهي أحداثٌ تنخرط فيها الشخصيات من موقع الفعل حيناً وردّ الفعل أحياناً. ولكلّ شخصية سلكُها الذي يطول أو يقصر بحسب مقتضى الحال الروائي / الفني. مع العلم أنّ طول السلك أو قِصَرَه ليس بالضرورة مؤشراً على أهمية الشخصية الروائية. أليست هذه حالنا في العالم العربي؟

 الطبقة الوسطى 

تنتمي شخصيات الرواية بمعظمها إلى الطبقة الوسطى، فنجد بينها: الطالب الجامعي (مولود، أماني، مليكة)، رئيسة اتحاد الطلبة ( جورية رمضان)، الأستاذ الجامعي (الدكتور لطيف)، الكاتبة والعازفة والرياضية (آسيا)، المحامي (الأستاذ شعيب)، الطبيب والناشط الانساني (سدير الركني)، المهندسة الزراعية (مرتا)، صاحب المؤسسة (الدكتور أغيد، شيماء)، تاجر السلاح (عبد المهيمن)، الضابط (الكولونيل رائد دوكان، اللواء مشرق، العقيد معاوية). وهي شخصيات تتحرك في فضاء مكاني واسع ومتعدّد، يشمل المدن المتخيّلة الثلاث وأثينا وباريس. وتتفاعل فيما بينها في فضاءات مكانية ضيقة، تشمل الفيلا والمطعم والفندق ومركز الأمن وغيرها. على أن الحضور النصّي يختلف من شخصية إلى أخرى، وتتفاوت الأسلاك التي تنتظمها في الطول، وتخضع في حضورها على مسرح الرواية لجدلية الظهور والاختفاء، مع الإشارة إلى أن أهمية الشخصية وحضورها في العالم المرجعي لا يتوازيان مع أهميتها وحضورها في العالم الروائي؛ فسلكُ مولود، الطالب الجامعي والموظّف، في الرواية هو أطول بكثير من سلك أخيه معاوية، ضابط المخابرات، ورغم ذلك فإنّ الدور الذي يقوم به الأخير هو أخطر بكثير من دور الأوّل، على سبيل المثل.

 يتبيّن لنا، من خلال رصد حركة الشخصيات، أنّ العمى، بمعنييه الحقيقي الحصري والمجازي المتعدّد، هو محور اهتمامها. ففي كلّ مدينة من المدن المتخيّلة الثلاث ثمّة حارة للعميان. الدكتور لطيف وشيماء مصابان بالعمى الطبيعي. مولود يشغله هاجس العمى بعد إصابة والديه به. أماني تعدل عن الزواج من مولود في اللحظة الأخيرة لخوفها أن تُصاب به، الأمر الذي يحدث لاحقاً. آسيا تُصاب بضعف البصر. ومعاوية ضابط المخابرات الذي يجعل من قلع العيون تجارة له يأكل من السمّ الذي طبخه في نهاية الرواية. مع الإشارة إلى أن العمى الطبيعي تحوّل إلى امتياز لصاحبه على المبصرين في حالات لطيف وشيماء وفرقة الكفيفات الراقصات بينما شكّل العمى المجازي، بتمظهراته السياسية والأمنية والاقتصادية، نقمةً على المصابين به الذي هم في عمائهم يعمهون.

  الانقسام السياسي

ويتبيّن لنا أن هذه الشخصيات تنقسم فيما بينها، في الموقف من السلطة والمعارضة، فيقف الضباط في صفّ السلطة ويشكّلون أدوات للاستبداد، ويقف معظم النساء والمحامي والأستاذ الجامعي والناشط الانساني في صف المعارضة ويدفعون الأثمان الغالية التي تتراوح بين الاختطاف والقتل والإخفاء والنفي والتهجير. وثمة فريق بين الفريقين تبعاً للمصالح والظروف. ويصل الانقسام إلى داخل الأسرة الواحدة؛ فتنقطع العلاقة بين آسيا وأبيها الكولونيل الذي تتهمه بالوقوف وراء خطف صديقها سدير وقتله مع رفيقيه، وتعارض مليكة السلطة بشجاعة بينما ينخرط أخوها وعد في أعمال الإرهاب ويقف أخوها عهد المهندس الانتهازي على الحياد، وفي حين يتورّط عبد المهيمن في تجارة السلاح والتعاون مع الإرهابيين يرتكب أخوه العقيد معاوية أبشع الممارسات ويتعاطى أبشع التجارات فيما يترجّح أخوهما الأكبر مولود بين الموقفين تبعًا لانتهازيته والضغوط التي تُمارس عليه. وتتعاون شيماء مع السلطة بينما يتعاطف زوجها صقر مع المعارضة.  على أنّ المنظور الغالب على الرواية هو تحميل السلطة المسؤولية عمّا آلت إليه الأمور.

 في ضوء هذا التموضع للشخصيات المختلفة، في فضاء روائي حربي، تتمخّض الأحداث عن علاقات مُجهَضة لا تؤتي ثمارها، ومسارات وعرة تؤول إلى مصائر قاتمة؛ فعلاقة الحب بين مولود وأماني تنقطع بموقف مبدئي من الثانية، والعلاقة بين مولود ومليكة تنتهي بعد اكتشافها خيانته وتآمره عليها. والعلاقة بين آسيا وسدير تموت بعد اختطافه والتخلّص منه.   فالرواية مختبر لأنماط مختلفة من العلاقات، يغلب فيها السلبي على الإيجابي، الأمر الذي يتناسب مع العالم المرجعي الذي تُحيل إليه. ولعلّ المصائر التي آلت إليها الشخصيات المختلفة هي نتاج طبيعي لمساراتها الوعرة، التي نادرًا ما اختارتها وأُجبرت على سلوكها غالبًا؛ فالأستاذ شعيب يموت في السجن، وأماني تُصاب بالعمى، وسدير يُخطَف ويُقتَل، وآسيا يضعف بصرها، ومليكة تهاجر، ومولود تقتله أجهزة الأمن، ومعاوية يَعمى، والآخرون ينتظرون مصائر مشابهة.

بالعودة إلى الخطاب الروائي، يمتلك نبيل سليمان قدرة واضحة على هندسة الرواية، فهو يُمسك بالأسلاك المختلفة، التي تنتظمها ثمانٍ وأربعون وحدة سردية، تستقلّ الواحدة منها عن الأخرى، ويُخضع تلك الأسلاك للعبة الظهور والاختفاء بما يخدم استراتيجيته الروائية. ويستخدم تقنيات سردية مختلفة، بينها السرد والحوار والرسالة والمذكّرات واليوميّات والحكاية الشعبية وغيرها. وهو يفعل ذلك بلغة طلية، رشيقة، تؤثر الجمل القصيرة والمتوسطة، وتتكئ على الأمثال الشعبية، ما يوهم بواقعية النص على غرابة بعض أحداثه. وبهذه الأدوات والحكايات، استطاع الكاتب أن يبصر العمى، ويبصّرنا به، لعلّنا ننجح في اجتنابه.

   

  

المزيد من ثقافة