Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

قبائل "البجا" السودانية... يحركها الأمن وتحبطها الوعود

سماتها الشك في الغرباء والانطواء والحذر الشديد والاستعداد الدائم للحرب وكراهية الهرب من المعركة

القانون العرفي هو ما ما توافقوا عليه واتخذوه دستوراً لهم بناء على أسس أخلاقية (اندبندنت عربية – حسن حامد)

ملخص

من العادات المرتبطة بقدسية النساء عند البجا عندما تشتد الحرب بين قبيلتين تدخل المرأة وتكشف عن رأسها فتتوقف الحرب فوراً... فما قصة تلك القبيلة السودانية؟

عند شروق الشمس على مضارب قبائل "البجا"، إحدى أقدم القبائل في شرق السودان، تدب الحياة في الأرياف البجاوية، إذ تداعب رائحة البن المحمص على الجمر حاسة الشم مع نسائم الصباح الأولى، ثم يكون أول صوت تسمعه هو الهون المستخدم لطحن البن لإعداد قهوة الصباح المسماة محلياً بـ"الجبَنة".

وغير بعيد منها أصوات صغار الماعز والضأن تطارد أمهاتها ليأخذوا نصيبهم من الحليب بعد أن تحلب ربة الأسرة مقداراً لشاي الصباح الذي يعقب القهوة، ثم تبدأ رحلة الصبيان مع ماشيتهم للرعي وأميزها الإبل التي اشتهرت بها المنطقة. أما النساء فتبقى لأداء الأعمال المنزلية من طحن الذرة وإعداد الطعام يتخللها شرب القهوة ورمي الودع واستخراج السمن وجلب الماء من البئر. وتستمر النشاطات داخل وخارج المنزل حتى مغيب الشمس ليتناول الجميع عشاءهم ثم يسمرون قليلاً ويخلدون إلى النوم.

وعلى رغم تشابه الملامح العامة في بعض الأرياف البعيدة، فإن لشرق السودان نكهته الخاصة، فهناك تصور أنه يفترض أن يكون قريباً من المدنية بوصفه ملتقى حضارات وطرق تجارية بحرية وبرية، وتلاحقت على أرضه ثقافات عدة، شكلت جزءاً من نسيجه الاجتماعي، وفي الوقت ذاته بعيد عن التنمية، لأن أجزاءً منه لا تزال شبه مغلقة وأخرى تحاول الانفتاح على المركز ولكن معوقات كثيرة تحول دون حصولها على حقوقها. ومع كل آلام التهميش يعتز "البجا" بحضارتهم القديمة الممتدة على طول المنطقة من صحراء قوص شمالاً على الحدود مع مصر إلى مداخل إريتريا وإثيوبيا جنوباً حيث مصوع وجزر دهلك ومنطقة بركة. ومن ساحل البحر الأحمر شرقاً حتى نهر النيل غرباً.

 

 

هذه هي الحياة في الريف البجاوي، بشعوبه التي تحاول النفاذ عبر الإعلاء من وتيرة الحس القومي وقد ملت من وعود التنمية، بعد معاناة طويلة من التهميش السياسي والاقتصادي. ومثل كل الأحزاب حدثت انشقاقات في الأحزاب التي تتبنى قضايا شرق السودان ومنها "مؤتمر البجا"، وحاول النظام السابق الاستفادة من ذلك بإشراك جناح منه في السلطة مثلما فعل مع بعض الأحزاب الأخرى، مما أدى إلى انقطاعه عن قواعده في الإقليم. ويحمل كثيرون الحزب مسؤولية عدم تنمية الإقليم، وتهميشه المستمر منذ الاستقلال بسبب مشاركة أجنحة منشقة منه في السلطة وعدم الاستمرار في رفع مطالبه. وتواصلت الانشقاقات بعد ثورة ديسمبر (كانون الأول) 2018، نتيجة لانعكاس التسييس القبلي السابق، وانقسامات بين قبائل البجا نفسها الناطقة بالبداويت والناطقة بالتقراييت.

رشق الموتى

قال العمدة أحمد هبناي قاضي المحكمة العامة ببورتسودان عن البجا "تتكون النظارات والعمد والمشايخ من نظارة البجا في كسلا وهي الهدندوة، وفي البحر الأحمر بورتسودان نظارتهم الأمرأر، وفي الحدود السودانية المصرية توجد نظارة العبابدة والبشاريين. أما العموديات المستقلة فهي الأشراف والكميلاب والأرتيقة. وكل هذه المكونات المجتمعية تتحدث لغة واحدة، ويتداخلون مع الحدود الإريترية والإثيوبية والمصرية بكثافة. وهذه القبائل هي الناطقة بلغة البجا (البداويت)، وأما البني عامر والحباب فتسمى بقبائل التقراي وهي الناطقة بلغة التقراييت وهي من القبائل الحدودية بين السودان وإريتريا".

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

وأضاف هبناي "ارتبط التراث البجاوي بالعادات الوثنية القديمة في الأفراح والأتراح، ومنها التفاؤل والتشاؤم ببعض الأشياء والظواهر وفي المناسبات وغيرها، ولكن الإسلام غير كثيراً من العادات الوثنية ومنها أنهم كانوا عندما يزورون المقابر يضعون الحجارة البيضاء الصغيرة فوق القبر". وأوضح أنها "عادة ترجع إلى ما قبل أربعة آلاف سنة حين كان البجا لا يعرفون الدفن فكانوا يضعون الجثة فوق الجبل ويرشقونها بالحجارة البيضاء حتى تغطى ويعتقدون أنها تخفف على الميت، ثم يضعون قرن ماعز فوقها. ويؤدون هذا الطقس وهم يضحكون، ولكن اندثرت العادة بعد مجيء الإسلام وتعلموا كيفية دفن الموتى".

سر الرقم 7

من جهته قال الباحث في الثقافة والتراث البجاوي أوبشار آدم أوهاج "من أشهر العادات والطقوس عند البجا مرتبطة بالرقم سبعة، فأيام الزواج سبعة تبدأ من يوم الأربعاء، وتأسيس البيت البجاوي يتكون من سبع شعب من الخشب، وكذلك بيت العريس يتكون من سبعة بروش وملابس العريس البجاوي تتكون من سبع قطع، ويتحرك العريس سبع خطوات إلى الأمام ناحية الشرق، ويحرق سبع شعلات ويرميها سبعة صبية، ويطوف الرجال حول بيت العريس سبعة أشواط مع المدح، وتطوف النساء حول بيت العريس سبعة أشواط مع الغناء، ويربط في يد الطفل سبع حبات من الودع، ويربط السنكاب [رأس الطفل] بسبعة خيوط ملونة من شعر الغنم، وأدوات اللعب [الكندبيت] سبع قطع. ويرتبط ذلك بالسعي بين الصفا والمروة سبعة أشواط، ورمي سبع جمرات عند أداء فريضة الحج".

 

 

وذكر أوهاج "يتزوج البجا في ما بينهم، ولو تقدم أحدهم من خارج القبيلة تكون الفرصة الكبيرة أمام المتقدم من داخل القبيلة، وإذا كان لا بد من قبول شخص غريب يتم التشاور مع الأهل والأصدقاء والعمد والمشايخ، فلو اتفقوا جميعاً يتم الزواج". وأوضح "عند التجهيزات ليوم الزواج تتم الشورى بين والد وعم العريس لشراء الحاجات المناسبة، ومنها بيت الزوجية المكون من السعف والشعر والخشب، ومراحل الزواج الوجبة الأساسية العصيدة بالحليب. وأغلب أصحاب المواشي يوقفون البيع ليأتوا به إلى مناسبة قريبهم أو صديقهم".

وضع خاص

ويتفق الباحث أوبشار مع العمدة هبناي في أن "للبداويت وضعاً خاصاً للمرأة في المجتمع البجاوي وإن كانوا قد ضربوا حولها أسواراً من الأعراف التي أقعدت بدورها طويلاً، ولعل المنطقة تستشرف أوضاعاً مختلفة إذ قد اقتحمت فتياتهم أبواب التعليم، مما أسهم في محاربة بعض العادات الضارة التي تستشري في المجتمع".

ويضيف هبناي "ومن العادات المرتبطة بقدسية المرأة عند البجا، عندما تشتد الحرب بين قبيلتين، تدخل المرأة وتكشف عن رأسها فتتوقف الحرب فوراً. ومن عاداتهم أن ابن البنت مدلل أكثر من ابن الابن عند جده وجدته وينسبون ذلك إلى ضعف المرأة وخصوصيتها كأنثى تحتاج إلى السند والمؤازرة".

فض النزاعات

وعن الآلية التي يتبعها البجا في فض النزاعات قال أوهاج "تعارف البجا في معاملاتهم على القانون العرفي وهو ما يتعارف عليه في ما بينهم وما توافقوا عليه واتخذوه قانوناً على أسس أخلاقية يتبناها الفرد منهم منذ نشأته. وقلما يلجأ البجا إلى المحاكم والقانون العام فهم يتخذون مجالس من كبارهم لحل مشكلاتهم، لما لهذه المجالس من أهمية ولأنها أثبتت فاعليتها في حل المشكلات وفض النزاعات".

 

 

وأضاف "تمر مرحلة فض النزاعات بمرحلة [أندأور] وتعني الإدارة الأهلية والنظارة والمشايخ والعمد المشهود لهم بالدراية والكفاءة والجدارة في فض النزاعات الأهلية ورتق النسيج الاجتماعي، وذلك لما يتمتعون به من خبرات تراكمية اكتسبوها من أجدادهم في إدارة الحوار وهو واجب اجتماعي يقع على عاتق الأطراف غير المشتركة في النزاعات".

وتابع "وتأتي مرحلة [القلد] أو عقد العهد وتعني إحاطة الشيء واحتواء المشكلة ومنعها من الانتشار، وهي بمثابة وقف العدائيات والصراعات بكل أنواعها، ثم مرحلة [الكلات] وهي أصعب وأطول المراحل وتتم فيها دراسة المشكلة وأسبابها كما هي ويتم فيها طرح الحلول ويختار الحل الأمثل. و[الكلات] عبارة عن مال رمزي يدفع نقداً أو عيناً ويعد بمثابة اعتراف بالأخطاء والقبول بجهود الوسطاء".

وواصل "أما في مرحلة [الياي حماد] فيتم تكسير الحواجز النفسية والمادية ويدار فيها الحوار بشفافية ومباشرة مع الأطراف المتنازعة بواسطة الأجاويد، وهنا يتم تقريب وجهات النظر في الحوار لحل المشكلة، ويتم تحديد الخسائر لكل طرف وتقسيمها، إذ يتم الفرق بين الخسائر غالباً ما يترك كدين أو رصيد للأيام المقبلة (سلف) ويسمى [دهريب] وهو حق يتم استرداده في أي وقت كان، ويعد بمثابة ضمان اجتماعي ثم يعلن العفو واعتذار كل طرف للآخر للتعايش السلمي وسط المجتمعات".

"ثم تأتي أخيراً، مرحلة الشرع وهي آخر مرحلة يتم اللجوء إليها في النزاع وهي [اليمين] إذا لم تستطع الوساطة التوصل إلى حل المشكلة يتم اختيار أحد أطراف الحكم الشرعي عبر المفتي الشرعي لكل الأطراف".

وذكر أوهاج "عند فض النزاعات يدير الجلسة أحد كبار القبيلة وهو بمثابة القاضي وكذلك تفعل زعامات الإدارات الأهلية. ويدير الحوار ويستمع لآراء جميع الأطراف وهو يمسك بعصا ملتوية، وعندما يبدأ بالتحدث يرسم بالعصا بعض الخطوط على الأرض، فإذا تمت مقاطعته يضرب بالعصا على الأرض ليلزم الجميع الصمت. وإذا لم يلتزم أي من الحضور توقع عليه عقوبة".

هاجس أمني

وضع الباحث في تراث البجا، جعفر بامكار، رؤية مختلفة حول قومية البجا فأفاد بأنها "ثقافة وليست عرقاً أو جنساً لأن معظم الموجودين حالياً بالسودان أو إريتريا ومصر يدعون لأنفسهم أنساباً عربية وهم، الأشراف والهدندوة والأمرأر والعتامنة والأرتيقة والحسناب، والكميلاب والبشاريون والنابتاب والملهيتكناب والحلنقة". وأوضح "هكذا لا نجد قبيلة بجاوية واحدة إلا وتنتسب للعرب، مع غياب لعرق أو جنس البجا الأصلي، ولذا فإن عامل التصنيف الوحيد في هذه الحالة هو اللغة إذ إنهم رغم ادعاء العروبة يتحدثون بالبداويت أو بالتقراييت".

وأورد بامكار "لدى البجا هاجس قوي وقديم حول مسألة الأمن الشخصي والجماعي، لأن منطقتهم القاسية والوعرة والمعزولة عن العالم لفترات طويلة من التاريخ لم تعرف الدولة المركزية القوية التي تحفظ الأمن والقانون، وسادت منطقتهم ولفترات طويلة الفوضى والحروب مع القوى الخارجية الغازية أحياناً وحروب قبلية داخلية لا نهاية لها".

وأضاف "هاجس الأمن القوي والعميق شكل نفسية البجاوي فأعطاها سماتها الشخصية البارزة كالشك في الغرباء والانطواء على النفس والعزلة والحذر الشديد والمكر والتكتم والاستقلالية والاستعداد الدائم للحرب، وحمل السلاح والتدرب عليه والولاء الشديد للقبيلة، وإعلاء صفات الشجاعة والفروسية والبسالة وكراهية الجبن والهرب من المعركة، والأنفة وقبول التحدي وغيرها".

ودلل على ذلك بأن "تحية البجا [دبايوا] تعني [لعلك محفوظ] أو هل أنت في أمان؟ وكلمة [مدبي] تعنى مكاناً آمناً أو مأمناً، مما يعكس مدى تغلغل هاجس الأمن في نفسية البجاوي حتى أصبح جزءاً من تحيته".

وعن هذا يقول الباحث أوهاج "عندما تطلب من شخص من البجا أن يتمنى شيئاً، يقول إنه يتمنى (أومسقه) وهي كلمة تعني الاستقرار خصوصاً الأمني".

اقرأ المزيد

المزيد من تحقيقات ومطولات