Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

بريطانيا الخارجة من الاتحاد الأوروبي على شفير "إنهيار وطني"

أمضى باتريك كوبيرن الأشهر الستة الأخيرة يطوف في أنحاء بريطانيا، سائلاً النّاس رأيهم عن قرار الانسحاب من الاتحاد الأوروبي... وخلُص إلى أنّ الانقسامات السّياسية العميقة أكثر خطورةً من تبعات بريكست الاقتصادية.

متظاهرون مؤيدون لخروج بريطانيا أمام مقر البرلمان  (غيتي)

شعر في الأعوام الثّلاثة الأخيرة بالخيبة إزاء ما تبيّن لي أخيراً بأنّه مجرّد تغطية إعلاميّة سطحيّة لهوس البرلمان البريطاني بمسألة بريكست. فالبريكست، أزمة لم يشهد تاريخ البلاد الحديث مثيلاً لها، وعلى الرّغم من زعزعتها أُسس المجتمع والحكومة على السّواء، اكتفت التّقارير والتّعليقات الصّحافية حولها بتسليط الضّوء على السّياسات الحزبية وعمليّة الخروج من الاتحاد الأوروبي، بدلاً من الأسباب الدّاعية إلى هذا الخروج.

ما الذي وسّع رقعة الانقسامات ولماذا كان النّقاش السّياسي، وهذا هو التعبير المهذب البديل للمشاجرة الكلاميّة، بهذه الحدة وهذا التصلّب؟ وما الفائدة التي رآها الشّعب البريطاني في بريكست ولماذا دافعوا عن رؤيتهم هذه بحماسة المتديّنين للتمسّك بدينهم؟ وهل صحيح أنّ بريطانيا تتعرّض "لإنهيارٍ عصبي"، وفق ما ورد على لسان السّير جون سواير، الرّئيس السّابق لجهاز الاستخبارات الخارجيّة البريطانيّة "أم آي 6"، وإذا كان الأمر كذلك حقاً، فلماذا؟

يُمكن تشبيه بريكست بالزلزال من ناحية القوى الكامنة التي يمكن أن يُفجّرها بشكلٍ مفاجئ متسبباً ببروز خطوط تصدّع جديدة وتحريك خطوط أخرى قديمة، على شاكلة عدم المساواة وتراجع النّشاط الصناعي والعولمة والاعتكاف الامبريالي والهجرة والتقشّف. لطالما كانت لهذه الخطوط القدرة على إشعال فتيل الأزمات، لكنّ لم يسبق لها أن أشعلت أزمةً بالحجم الذي توقّعه كثيرون. وفي الوقت الحاضر، يبدو أنها تمتزج ببعضها البعض لتُشكّل المكوّنات المتفجّرة للأزمة العامة التي ستُمسي الأعظم في تاريخ بريطانيا منذ "الثورة المجيدة" لعام 1688. ولم يكن اختيار التّاريخ عشوائياً؛ ففي القرن السّابع عشر، كانت الجزر البريطانية مضرب مثل في عدم الاستقرار والعنف، وليس هناك ما يدعو إلى الاعتقاد بأنّ التاريخ لن يُعيد نفسه.

لكنّ اعتياد سكان المملكة المتحدة، باستثناء إيرلندا الشّمالية، على سياسة داخليّة مستقرّة نسبيّاً على امتداد أربعة قرون من الزّمن، هو ما يحملهم على الاعتقاد أن ذلك الاستقرار هو المسار الطبيعي للأمور. وهذا يتناقض مع تجارب سائر الدّول الأوروبية في تلك الفترة، والتي إما تكبّدت هزيمة عسكرية نكراء أو خضعت لاستعمارٍ أجنبي أو شهدت ثورة شعبية. ولذلك، يُمكن القول إنّ موقف بريطانيا حالياً أكثر حنيناً للماضي من مواقف جاراتها، وهذا من شأنه أن يُرسّخ أولاً، القناعة بقدرة بريطانيا على تحقيق النّصر مهما كانت الظّروف وثانياً، الشعور بأنّ "الأمور ستكون على ما يُرام الليلة"، كما في عنوان المسلسل الكوميدي الشهير.

لقد أمضيتُ الأشهر الستة الأخيرة من حياتي أتجوّل في أنحاء المملكة المتّحدة خارج لندن، في محاولة منّي لتحديد جوانب هذا "الإنهيار العصبي" الوطني، إذا صحّ التعبير. اخترتُ مدناً وأماكن تعجّ بالتنوّع وتُمثّل، برأيي الخاص، مختلف الموجات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي كانت جزءاً من قصة بريكست.

وفي أثناء جولتي في المملكة، وصلتُ إلى مقاطعة محرومة في كانتربري، كانت قد شهدت عملية إعادة تطوير في الماضي بفضل هبة أوروبية ضخمة. إلا أنّ ذلك لم يمنع أهلها من التصويت لصالح مغادرة الاتحاد الأوروبي. ومن هذه المنطقة اتّجهتُ جنوباً نحو مدينة دوفر التي سيكون ميناؤها الكبير في مقدّمة الجبهة المؤيّدة لبريكست من دون اتفاق. ثم زرت كارديف التي حصدت مكاسب كثيرة جراء ارتباطها بالاقتصاد العالمي، مثلها مثل العديد من المراكز الحضريّة الضّخمة في أوروبا. وهذا ما يجعلها مختلفة تماماً عن الوديان الويلزية التي تقع على بعد ساعة واحدة بالسيارة والتي لم تستفق بعد من صدمة إغلاق المناجم ومعامل الصلب فيها.

وفي برمنغهام التي شهدت ارتداداً إيجابيّاً عقب تداعي قطاعها الخاص بصناعة السّيارات خلال سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي، أخبرني السّير ألبرت بور، أحد صنّاع هذا الارتداد، أنه يخشى على اقتصاد المدينة أن يتعثّر من جديد وينقلب رأساً على عقِب بعد الخروج من الاتحاد الأوروبي الذي أسهم بشكلٍ مهول في نهضتها. وقال لي بالحرف الواحد إنّ "دماغي يكاد ينفجر من شدّة الغضب" لدى سماعه النّاس يلومون الاتّحاد الأوروبي على المشاكل التي تسبّب بها أصلاً فشل الحكومة البريطانية. أما في شمال شرق انجلترا، فإن الصّدمة الجارفة لتراجع النّشاط الصناعي، وهي شعور عززته السّياسات التقشفيّة،  لعبت دوراً مهماً وأساسياً في تصويت المنطقة ضدّ صفقة بريكست.

وقد تكون إيرلندا الشّمالية قضيةً قائمة بذاتها، لكنّها أيضاً يضاالمنطقة البريطانية التي بدأ أثر قرار بريكست المُزعزع يتجلّى واضحاً على استقرارها. أنا مصدوم للغاية من اللامسؤولية التي يتعاطى فيها السّياسيون البريطانيون مع "اتفاق الجمعة العظيمة" الذي وضع حدّاً لحرب عصابات استمرّت 30 عاماً وكانت الأعنف والأكثر حدّةً في أوروبا منذ الحرب العالمية الثانية. قال لي المعلّق والمؤرّخ بريان فيني شارحاً "كلّ هذه الأشياء عن الرّموز والكاميرات (لمراقبة الحدود) غير منطقية. ولا يُمكنها أن تدوم عطلة نهاية أسبوع واحدة لأنّ الناس لن يتوانوا عن التخلّص من أيّ كاميرات أو ترتيبات من هذا القبيل".

وممّا لا شك فيه أنّ المقيمين في البرّ الرئيسي لبريطانيا يجهلون الكثير عن إيرلندا الشمالية. لكنّ الأمر لا يتوقّف عليهم وحدهم، فالبلاد برمّتها باتت أكثر تشرذماً وأقلّ اطلاعاً على مواقف المناطق الأخرى وأوضاعها. وفي هذا الخصوص، أعرب كريس داي، رئيس "جامعة نيوكاسل" عن دهشته إزاء تصويت المملكة المتحدة على قرار الخروج من الاتحاد الأوروبي "قل لي مَن تعاشر أقل لك من أنت. الناس في الجامعة ولندن لم يفهموا طريقة تفكير سندرلاند وويلز".

وفي بعض الأماكن، كانت دوافع التّصويت على الخروج من الاتحاد الأوروبي، والسّبب الكامن وراء ثبات الناخبين على موقفهم، واضحة بما فيه الكفاية. فما الذي قد يُحفّز "المنسيين" و"المهمشين" على التّصويت لصالح الوضع الرّاهن بواعزٍ من السلّطات التي غضّت الطّرف عن مشاكلهم لعقود؟ والأكثر غموضاً من ذلك هو تصويت المزراعين ميسوري الحال في هيرفودشاير الرّيفية لأجل الانسحاب من الاتحاد الأوروبي الذي لطالما قدّم لهم إعانات ضخمة لمجرّد أنّهم يمتلكون الأراضي. وما يظهر جليّاً في استفتاء بريكست ويحظى غالباً بتعليقات هو تصويت عدد كبير من النّاس ضدّ مصالحهم الاقتصادية الخاصة، وفي طليعة هؤلاء مربّو الأغنام في تلال ويلز الذين يُواجهون خطر الانقراض بعيداً عن أحضان الاتحاد الأوروبي. ورغم ذلك، فقد صوّتوا بـ"نعم" على استفتاء بريكست لأنّهم، بحسب مصادر محليّة، يخشون على أنفسهم من الهجرة الوافدة ، علماً أن المهاجرين غائبون بشكل شبه التام عن تلال ويلز.

وعلى خلفيّة عملي المكثّف في دول الشّرق الأوسط التي تُعاني من انقساماتٍ واضطراباتٍ سياسيّة مزمنة والتي أمضيتُ فيها مسيرتي المهنيّة كصحافي منذ تسعينيات القرن الماضي، مع بعض الأعمال الصّغيرة في بلفاست وموسكو وواشنطن، يُمكنني أن أقول إنّ لصفقة بريكست بعض الإيجابيات. وثمة عناصر في  هذه الأزمة من شأنها أن تُقرّبها من أزمات أخرى شهدتُها في أماكن أخرى في العالم، لكن بعض التطورات التي شهدتها تُعتبر خاصة ببريطانيا. من جهتهم، يميل " أنصار الخروج"  من الاتحاد الأوروبي إلى الإيمان الشديد، سواء بوعي أو من دون وعي، بـ"استثنائية" بريطانيا ويسكتون عند عقد المقارنات بين بريطانيا ودول أخرى. أما "أنصار البقاء" في الاتحاد فيشيدون بأنفسهم وبنظرتهم الأكثر شمولية مقارنةً بآفاق خصومهم الضيّقة، متناسين تصوّراتهم المسبقة التي يتبيّن غالباً بأنّها انعزالية بنفس القدر.

من ناحية، ثمة سهولة في فهم الإيديولوجية التي تدفع ببريطانيا خارج الاتحاد الأوروبي، إن لم يكن مصطلح "إيديولوجيّة" فضفاضاً عليها، فمؤيّدو الخروج المعروفون بـ"بريكستير" هم حركة وطنيّة على غرار العديد من الحركات الوطنيّة التي غيّرت وجه العالم الحديث من بغداد إلى كاراكاس ومن ملبورن إلى كيبيك. فالرّغبة في تقرير المصير وإحقاق الحرية الوطنية هي غريزة سياسية عالميّة وغالباً ما تكون مصحوبة بوعود بمكاسب اقتصادية، ولو أنّها قلّما تتحقّق.

لا خلاف على أنّ إيرلندا كانت أسوأ حالاً على مدى نصف قرن من الزّمن بسبب انفصالها عن بريطانيا عام 1922. ومع ذلك، قلّة قليلة من الإيرلنديين كانت لتعتبر ذلك حجةً مقنعة للتخلّي عن الاستقلال. فالحركات الوطنية والثورية تتفّق جميعها تقريباً على تحميل قوّة استبداديّة، أجنبية أو محليّة، مسؤولية المشاكل التي تقف حجر عثرة في وجه مجتمعاتهم، ولسببٍ وجيه غالباً. لكنّ لابد أن ينطوي تحويل اللوم إلى طرفٍ آخر على جرعةٍ قوية من التهرب واتخاذ جهة أخرى كبش فداء، على نحو ملائم سياسياً للجانب الذي يلقي باللوم.

في العراق، على سبيل المثال لا الحصر، اتُّهم صدام حسين من قبل أعدائه بإزكاء الانقسامات بين السنّة والشيعة. وكان الانطباع السائد لفترةٍ طويلة أنّ غياب صدّام عن مقاليد الحكم سيضع حدّاً لهذه العداوات. لكن الحقيقة أنّ سقوطه مهّد الطريق لحربٍ أهليةٍ طائفية وهمجيّة بشكلٍ استثنائي. وفي مناطق أقرب إلينا، أدانت المستعمرات البريطانية والفرنسية خلال القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، كلاً من لندن وباريس محمّلةً إياهما مسؤولية مشاكلها، تماماً كما يتّهم حزب "بريكست" والمحافظون اليوم بروكسل وسط تبريرات أقل بكثير.

ومن خلال حديثي مع "أنصار الخروج" المنتشرين في أنحاء البلاد، شعرتُ بأنّ الجزء الأخطر من نسخة هؤلاء من القوميّة الانجليزية هو تشبّعها بتخيلات مواتية عن التفوّق الانجليزي على مختلف الأصعدة. فمثل هذه الافتراضات لم يكن أبداً صحيحاً حتى عندما كانت الامبراطورية البريطانية في ذروة مجدها. لكنّ مثل هذه التهيّؤات هو الذي يمنع " أنصار الخروج " اليوم، ولاسيما في المناطق البريطانية الأكثر حرماناً والأكثر تأييداً للانسحاب من الاتحاد الأوروبي، من تكوين رؤية واقعيّة لتوازن القوى الاقتصادية والسياسية في العالم الحقيقي. يلفت ديفيد هاردمان، ممثّل حزب العمّال السابق في المجلس المحلي في نيوكاسل، إلى أن " النّاس يقولون إنّهم فعلوها من قبل وسيفعلونها مجدداً..لكننا لا نمتلك الإمكانات ولا المؤهلات التعليمية التي تُخوّلنا المنافسة. ولا شكّ بأنّ اقتصاد شمال شرق بريطانيا سيتلقّى ضربة قوية. ببساطة، نحن نفتقر للميزة التنافسية".

والجدير ذكره أنّ الفرضيّات المغلوطة بشأن التفوّق الوطني كانت أساساً لحسابات خاطئة عظيمة في تاريخ أوروبا الحديث، فأحدها استدرج فرنسا لخوض حربٍ كارثيّة عام 1870 ، كما دفع حساب خاطئ آخر من هذا النوع بألمانيا إلى إشعال حربين عالميتين مدمرتين في عامي 1914 و1939. هل يُعقل أنّ يتكرر الأمر نفسه الآن مع بريطانيا؟

خلال الأعوام الثلاثة الماضية، شعر المسؤولون المؤيّدون لانسحاب بريطانيا من الاتحاد الأوروبي بالحيرة والغضب إزاء فشل المفاوضين البريطانيين في المضي قدماً في محادثات بروكسل وإلقائهم أسباب فشلهم على غياب قوّة الإرادة، و ضعف الالتزام ببريكست، وحتى على الغدر. يبدو أنّ هؤلاء قد تناسوا حقيقةً واضحة، وهي أنّ أيّ مفاوضات أو محادثات مع دول الاتحاد الأوروبي السبعة والعشرين مجتمعةً، لا بدّ أن تخضع لسيطرة هؤلاء باعتبارهم الطرف الأكثر نفوذاً. وحسبما أُفيد، يعتزم بوريس جونسون، فور تولّيه منصب رئاسة الوزراء، السّعي من أجل عقد اتفاق تجاري مع الولايات المتحدة ليكون بمثابة تعويض عن فقدان إمكانيّة الوصول إلى أوروبا، مع العلم أنّ 45% من صادرات بريطانيا اتجهت نحو الاتّحاد الأوروبي عام 2017 و18% منها فقط نحو الولايات المتّحدة. أما وارداتها للفترة نفسها، فاستُقدمت بنسبة 53% من الاتحاد الأوروبي و11% من الولايات المتحدة. ولأنّ القرب الجغرافي مهم عندما يتعلّق الأمر بعمليات التّبادل التّجاري، من الطّبيعي أن يتفوّق حجم صادراتنا إلى إيرلندا على حجم صادراتنا إلى أستراليا بواقع أربع مرات.

من المفترض باختلال موازين القوى أن يكون واضحاً في حدّ ذاته. لكنّه ليس كذلك؛ وفي كل مكانٍ قصدته في بريطانيا، من دوفر وصولاً إلى وديان ويلز، كان "أنصار الخروج" يتجاهلون هذه الوقائع الاقتصادية والسياسية. ففي جنوب ويلز مثلاً، قيل لي إنّ تلك المسائل كانت جزءاً من "مشروع الخوف". وبفضلها، لن يتوانى الفرنسيّون يوماً عن بيع منتجاتهم من الجبن إلى بريطانيا، كما لن يمنع الألمان من توريد ما يصنعونه من سيارات إلينا. وفي برمنغهام، شرح لي الطالب مايكل دوغلاس من جامعة برمنغهام، أنه قد صوّت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي "لشعوره بأنّه غير ديمقراطي إلى حدٍّ ما" وهو "بحاجة إلينا بقدر ما نحن بحاجة إليه". وفي نيوكاسل، برّر أحد قادة الحملات المؤيّدة للخروج من الاتحاد الأوروبي، وهو إنسانٌ ذكي ومتعلّم لم يرد الكشف عن اسمه، موقفه بالقول إنّ أوروبا تشهد ركوداً وعلى بريطانيا أن تتطلّع نحو آفاق عالمية أوسع في إطار بحثها عن شركاء تجاريين جدد، كالّصين والهند والبرازيل.

أما "أنصار البقاء"، فهم يعضّون على شفاههم في كلّ مرة يواجهون فيها ما يعتبرونه جهلاً إجرامياً ومتعمّداً للسياسات الاقتصادية من جانب خصومهم. لكنّهم بهذه الطّريقة، يرتكبون خطأً مدمّراً ويغيب عنهم أنّ الضّرر الذي يُمكن أن يلحق باقتصاد بريطانيا ككلّ ليس بالضرورة حجةً دامغة تدعم موقفهم لدى الأكثرية التي تعيش حالياً في  مجتمعٍ بريطاني غير متكافئ اجتماعياً يكاد الازدهار أن ينحصر فيه ضمن منطقتي لندن وجنوب شرق بريطانيا.

وقد تكون هذه الحجّة مقنعة في قلب المدن الكبرى، على غرار برمنغهام وكارديف ونيوكاسل، لكن ليس في الأمكان المهمّشة مثال دوفر وهارتلبول ووديان ويلز. هنا، ينظر إيدي موريتون، وهو موسيقي وصاحب حانة ومطالب عنيد بالحفاظ على عضويّة بريطانيا داخل مجموعة دول الاتحاد الأوروبي، بعين العطف إلى أبناء مسقط رأسه والسال الذين صوّتوا جميعاً لصالح بريكست، قائلاً "لم تشهد والسال أي استثمار منذ أربعين عاماً، أيّ منذ دمّرت تاتشر قطاع التصنيع فيها. لدينا (في بريطانيا) الآن اقتصاد قائم على التمويل. وهذا الأمر لا يُفيدهم البتة، ولهذا السبب ينتفضون عليه. هم لا يأبهون لو تراجع الناتج القومي الإجمالي، لأنه لا يخصّهم، على حد تعبير الرجل".

وهذه النّقطة نفسها تناولها أليكس سنودن، أحد المؤيّدين اليساريين للخروج من الاتحاد الأوروبي في نيوكاسل، في معرض حديثه عن شمال شرق بريطانيا، موضحاً أن كثيرين ممّن كلّمهم أثناء فترة الاستفتاء لم يبدوا أيّ نوع من الحماسة، لكنّهم سألوا أنفسهم السؤال التالي "الحالة ميؤوس منها بالفعل. ما الذي سنخسره لو منحنا صفقة (بريكست) فرصة. فلننتظر لنرى ما الذي سيحدث". هذا الشّعار ذاته يتردد في أنحاء ويلز وانجلترا اللتين تشهدان تراجعاً في النشاط الصناعي: بغضّ النّظر عمّا فعله الاتحاد الأوروبي لغاية الآن، فهو لم يفعل ما يكفي بعد لقلب حياتهم رأساً على عقب، لافتين إلى أنّ مرحلة الانكماش تتناسب أكثر مع دخول بريطانيا إلى الاتحاد الأوروبي عام 1973.

إلى ذلك، تطرّق سنودن في كلامه إلى نقطةٍ أخرى جديرة بالاهتمام لأنّ تداعياتها لم تتبلور بعد، إذ قال إنّ إحساس النّاس بالهوية والصّورة التي يرسمونها لأنفسهم ولبلادهم أضحيا منذ العام 2016 متصلين اتصالاً وثيقاً بمسألة الخروج من الاتحاد الأوروبي، ولذلك باتت المواقف من بريكست، معه أو ضدّه، أصعب وأكثر تصلّباً ممّا كانت عليه منذ ثلاث سنوات.

وصورة بريكست هذه كدليل واضح وظاهر على حدّة الانقسامات في بريطانيا، تؤكدها بيانات انتخابية جاء فيها أنّ الدوائر التي تضمّ أعلى متوسط عمري وأدنى مؤهلات تعليمية، هي بالتحديد الأوساط التي صوّتت لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي. ومن بين 1283 شخصاً شملتهم دراسة للخبير مارتن روزنبوم، 82.5% صوّتوا ضدّ الاتحاد الأوروبي؛ وهؤلاء في معظمهم من دائرتي برامبلز وثورنتون في ميديلزبره التي تحوي أقلّ نسبة من المتعلّمين وأصحاب الشهادات بين دوائر انجلترا وويلز، قل 4% فقط  من مجمل السكان.

لماذا يعتبر النّاس في المناطق المحرومة أنّ الاتّحاد الأوروبي هو مصدر مشاكلهم؟ ليس الأمر كما لو أنّه ما من أطراف أخرى محتملة تستحق اللوم مرشحين عنه. وفي هذا الصّدد، سألتُ غراهام سيمونز، وهو عضو مستقلّ في مجلس بلدية كارفيلي جنوبي ويلز، عن دوافع المناطق المحرومة للتفكير على هذا النّحو وعمّا إذا كان من العدل جعل بروكسل كبش فداء في الوقت الذي تستحقّ فيه الحكومة البريطانية، و"جمعية ويلز الوطنية" بدرجة أقل بكثير، الحصّة الأكبر من اللوم؟

وافقني سيمونز على أنّ الأمر بالفعل هكذا، لكنّ "الشّعب اتّخذ قرار إلقاء اللوم على الاتّحاد الأوروبي". مرة بعد أخرى، وفي أيّ منطقة فقيرة حللتُ، كان النّاس يشتكون لي من أنّ وجهات نظرهم لم تلقَ اهتماماً في الماضي والاستفتاء كان فرصتهم الأولى ليقولوا كلمتهم. وتعليقاً على ذلك، أكّد إيريك سيغال، أحد النّقابيين من فولكستون، أنّ بعض الأشخاص صوّتوا في الاستفتاء، رغم أنّهم لم يصوتوا في حياتهم من قبل. وهذا ما حمله على التفكير بأنّ "الشّوارع ستغرق في الدماء" لو لم يُؤخذ بتصويت هؤلاء أو تقرر إجراء استفتاء ثان.

لا يُمكن لأيّ تعميمات مُطلقة بشأن بريكست أن تكون صحيحة تمام الصحة. ربما يكون الاتحاد الأوروبي قد فشل في القيام بما يكفي من أجل مساعدة ضحايا التّراجع الصّناعي وسياسات التقشّف في معظم أجزاء انجلترا وويلز، لكنّ مناطق محددة كثيرة استفادت من مساعدته. وقد اتّضح لي أخيراً أنني عشتُ بالقرب من إحدى هذه المناطق في ضواحي كانتربري، وهي مقاطعة ثانينغتون الحضرية الفقيرة التي يقطنها حوالي 2794 نسمة.

قبل عشرين عاماً، كانت ثانينغتون تُلقّب بـ"بيروت الصّغرى" لأنّها كانت مسرحاً لأعمال العنف ولأنّ عدداً كبيراً من منازلها كان فارغاً. وفي تلك الأثناء، كان على مجموعات الأطفال فيها أن يُخبئوا ألعابهم في كوخ حفّاري القبور المجاور للمقبرة من أجل الحفاظ عليها. إلا أن أحوال المنطقة انقلبت رأساً على عقب بفضل مساعدة مالية بقيمة 2.5 مليون جنيه إسترليني خصّها بها الاتحاد الأوروبي لترميم المنازل وتشييد مركزٍ مجتمعي، وكانت نتيجتها الأولى والمباشرة تراجع مستوى الجريمة في المنطقة وضمان وجود أماكن آمنة للأطفال للدراسة واللعب. وعلى الرّغم من كلّ ذلك، أفادت التقارير عن أن  أكثرية سكان ثانينغتون صوتوا لصالح خروج بريطانيا من الاتحاد الأوروبي في خطوةٍ يُصنّفها العديد من "أنصار البقاء" على أنّها مثال آخر للجحود ونكران الجميل.

ومن جهّته، ذكر نيك أيدن-غرين، عضو حزب الديمقراطيين الأحرار في المجلس البلدي للمنطقة، أنّ هناك سببين رئيسيين للنتيجة التي أفضى إليها الاستفتاء: أراد الناخبون أن "يلعنوا جميع" الأحزاب السّياسية ويقولوا بأعلى الصوت إنّهم يشعرون بالتهديد من الهجرة الوافدة. "لو قرعتَ أبواب النّاس ستلقى منهم الجواب التّالي: هؤلاء هم حتماً المهاجرون غير الشرعيين" (الذين يملؤون "خدمة الصّحة الوطنية" ويعيشون على مساعدات الحكومة)"، على حدّ تعبيره.

وضع الهجرة الوافدة في أزمة بريكست، مثير للفضول؛ والجميع يتّفقون على أنّها واحدة من المسألتين المهيمنتين اللتين منحتا حملة تأييد الخروج من الاتحاد الأوروبي نصرها بفارق ضئيل قبل ثلاث سنوات. ومنذئذ وقادة حملة البريكست، مثل بوريس جونسون ومايكل غوف، إلى جانب الإعلام المؤيّد لبريكست، يُحاولون التّقليل من خطر المهاجرين الوافدين الذي روّجوا له في مرحلةٍ سابقة.

أما الليبراليّون، فيُواسون أنفسهم بالاستطلاعات التي تُظهر تراجع اهتمام الرأي العام بالهجرة الوافدة مقارنةً بما كان عليه قبل ثلاثة أعوام. لكنني أشكّ بأن تكون المشكلة قد ولّت إلى غير رجعة أو اختفت بشكلٍ مؤقت. ولو حدث ذلك فعلاً، فإنّ اختفاءها لن يستمرّ طويلاً. ودوفر مثال جيد في هذا الشأن: فهي معروفة كمدينة تشهد توترات عنصرية ناتجة عن وجود الغجر أو الرّوما السلوفاكيين الذين قدموا إليها في تسعينيات القرن الماضي؛ ولدى سكانها المحليين وعيٌ تام بالتوافد االتدريجي لملتمسي اللجوء تدريجيا ومعظمهم من الإيرانيين الذين يُجازفون بعبور القناة الانجليزية بواسطة قوارب مطاطية هشّة للوصول إليها.

وبالنسبة إلى سام هول، وهي معلمة تشتغل في مدرسة محلية، فإنّ السّكان يشتكون إليها قائلين "إن لم يكن بمقدورنا رعاية أنفسنا، ما الذي يُجبرنا على تقديم الرّعاية للآخرين؟" أما بالنسبة إلى قائد نقابي في دوفر لم يرد الكشف عن هويته، فقد "كان التّصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي يتمحور حول موضوعٍ واحدٍ ألا وهو الهجرة". ورفض الرأي القائل بأن فكرة استعادة بريطانيا لعظمتها التاريخية في  نسخة تتمثل تشرشل عن أميركا التي يمثلها ترمب، هو في وقاع الحال ماحفز النّاس على التّصويت لصالح الخروج من الاتحاد الأوروبي. بالفعل، ثمة أشخاص يُفكّرون بهذه الطريقة، لكنّهم لا يُشكّلون المكوّن الرئيس في الائتلاف الدّاعي إلى الخروج من الاتحاد الأوروبي.

ومن وجهة نظر "أنصار البقاء" والعديد من الخبراء الاقتصاديين، فإنّ الهجرة تؤثّر إيجاباً في الاقتصاد من خلال مساهمتها في تجديد القوى العاملة المحلية المتقدّمة في السن. يبدو أنّ هؤلاء يُحاولون التقليل من أهمية دور المهاجرين في خفض الأجور واستيلائهم على وظائف شاغرة بدلاً من السّكان المحليين. لكن بالنسبة لأولئك الذين بالكاد يستطيعون أن يتدبروا أمورهم، يٌعتبر المهاجرون عبئاً إضافياً، حقيقياً أو خيالياً، على كواهلهم إلى جانب أعباء أخرى عديدة.

والفكرة الأخيرة هي نقطة مهمة للغاية: كلّ ما نعرفه عن العالم من حولنا هو ثمرة تجاربنا وخبراتنا الخاصة، فضلاً عمّا يُخبرنا به الآخرون أو ما نراه على شاشة التلفزيون أو ما نقرأه في الصّحف. فمنذ حوالى ست سنوات وقبل بروز حزب استقلال المملكة المتحدة والوعود بإجراء استفتاء بريكست، أصدرت شركة "إيبسوس موري" استطلاعاً نجحت من خلاله برسم صورةٍ مذهلة لوجهة نظر العامة حيال الأحداث الراهنة ومقارنتها مع أرض الواقع. وفي ملفّ الهجرة تحديداً، أظهر الاستطلاع إياه أنّ الشعب البريطاني يعتقد بشدّة أن 31% ممن يعيشون بينهم هم من المهاجرين فيما الرّقم الحقيقي هو 13%، وأن 30% من السكان هم من الآسيوين وأصحاب البشرة السوداء فيما الرقم الحقيقي هو 11%. وبيّن الاستطلاع كذلك أنّ ربع سكان البلاد يعتبرون أنّ المساعدات التي تقدمها بريطانيا لجهات خارجية تمثل جزءاُ مهماً من الإنفاق الحكومي، فيما لا تتعدّى نسبتها الحقيقة الـ1.1% فقط من الانفاق الحكومي.

سُئلتُ خلال الأشهر الستة الأخيرة، مرّاتٍ عدّة عن رأيي بالنتيجة التي ستتخمّض عن أزمة بريكست. وأنا دائماً أجيب بأني لاأعرف وأنّه لا يزال من المبكر جداً الخروج بأيّ معلومة. وهذه الإجابة صحيحة فقط بما يتعلق بتداعيات بريكست الاقتصادية التي لم تتبلور بعد، مع استمرار بقاء بريطانيا في الاتحاد الأوروبي إلى اليوم. لكنّها لا تنطبق أبداً على التغيّرات السياسية التي حدثت بالفعل على خلفية انقسام حزبي العمال والمحافظين ومحاصرة "حزب بريكست" لهما من جوانب مختلفة.

وصحيح أنّ الاستقطاب بشأن البريكست عميق ويزداد عمقاً يوماً بعد يوم، لكنّ تحقيق الغاية منه أيّ خروج بريطانيا فعلاً من الاتحاد الأوروبي لن يضع حداً نهائياً لهذا الاستقطاب. ويرى عضو سابق في حزب استقلال المملكة المتحدة كان ينظّم الحملات في مختلف أنحاء البلاد،  أنه لو كُتب لحزب "بريكست" الوصول إلى الحكم، فسيكون الانقسام مصيره الفوري، بسبب ميل ناشطيه إلى التصرّف بتاتشرية مفرطة في سعيهم لخلق بريطانيا نيو ليبرالية قائمة على اقتصاد سوقيّ حر أقرب إلى النموذج الأميركي منه إلى النموذج الأوروبي. ولكن الجماهير المؤيدة  للخروج التي التقى بها في شمال شرق بريطانيا وفي بلدتي ايسيكس وكنت الساحليتين، كانت تريد من الدولة أن تتدخل بشكل لا بشكل اقل، وينسحب الأمر نفسه على مؤيدي حزب "بريكست".

في الوقت الحاضر، ثمة تغيير سياسي آخر يفرض نفسه علينا، ألا وهو إضعاف الدولة البريطانية. نعم، هذا صحيح. فتأثير بريطانيا اليوم على أوروبا لم يعد كسابق عهده، ومرد ذلك إلى قرارها بالانسحاب من الاتحاد الأوروبي. وفي حين يعتبر الوطنيّون في إيرلندا الشمالية واسكتلندا أنّ النّزعة الانفصالية هي خيار مجدٍ وعمليّ بصورةٍ متزايدة، يتفهّم الفرنسيون بواقعيّة أكبر من البريطانيين أنفسهم، الطبيعية الثّورية لما تعتزم المملكة المتحدة القيام به.

وفي مقالٍ في صحيفة "لوفيغارو"، يُلخّص الصّحافي الفرنسي أدريان جولمس بدقّة التحوّلات والتغيّرات التي حصلت بالفعل، قائلاً إنّ "المملكة المتحدة بنت قوّتها على مبدأين: الحفاظ على وحدة الجزر وانقسام القارة الأوروبية. وها هي اليوم أقرب إلى تحقيق العكس".

كان ثمة أمر عبثيّ بشأن المرشحين لمنصب رئاسة الحكومة. فقبل فوز بورس جونسون بانتخابات زعامة حزب المحافظين  وعد هو ومنافسه السابق جيريمي هانت بتوحيد البلاد في حين أنهما كانا يوسّعان خطوط تصدّعها العديدة. وبالنسبة إلى "أنصار البقاء"، فهم لا يزالون يرتكبون خطأ التعريف عن أنفسهم على أنّهم حزب الوضع الراهن. وقد تكون الكارثة الاقتصادية على قاب قوسين أو أدنى، لكنّ الإصلاح السياسيّ الذي أفضى إليه البريكست لا رجعة فيه والتفكك الذي أحدثه سيبقى محفوراً في ذاكرة التاريخ إلى ما لا نهاية، سواء أكانت بريطانيا داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه.

© The Independent

المزيد من تحقيقات ومطولات