في عام 1957 لاحظ مقال نشرته صحيفة "نيويورك تايمز" أن كثراً من متخصصي ونقاد الأدب البوليسي الأنغلو - ساكسوني يسيرون على خطى الكاتب الأميركي سنكلير لويس، معتبرين رواية "9 خياطين" لدوروثي صايرز روايتهم البوليسية المفضلة في كل الأزمان، وذلك على رغم أن الناقد الشهير كان قبل ذلك بدزينة من الأعوام قد قال أسوأ الكلام في حق هذه الرواية، وذلك في معرض هجومه الساحق على رواية أغاثا كريستي "من قتل روجير آكرويد" تحت عنوان استفزازي لئيم هو "من يهتم حقاً بمن قتل روجير آكرويد؟"، والحقيقة أن إعادة اعتبار مقال "نيويورك تايمز" إلى رواية صايرز في عام رحيلها وقبل أشهر من ذلك الرحيل قد أثلج قلب الكاتبة وجعلها تشعر آخر أيامها أن جهودها لم تذهب عبثاً، وهي التي كانت لا تتوقف عن الشكوى من واقع أنه كان لبعض الشخصيات الفنية والأدبية الأساسية في القرن العشرين حضورها الكبير، الذي ألقى بظله الكثيف على شخصيات أخرى لم تقل عنها أهمية من الناحية الإبداعية، لكنها لم تعرف أبداً كيف تحول قيمتها الإبداعية إلى حضور كثيف. ينطبق هذا على فناني عصر بيكاسو كما ينطبق على مبدعي عصر تشارلي تشابلن وعلى عشرات غيرهما. أما في مجال الرواية البوليسية الإنجليزية، وهي الأشهر بين الروايات البوليسية في العالم، فإنه ينطبق بخاصة على أغاثا كريستي "سيدة الجريمة" التي كان حضورها من الطغيان بحيث لم يلتفت كثيرون إلى واقع أن فن الرواية البوليسية هو فن إنجليزي لم تختص به أغاثا كريستي متفردة، بل شاركها كثيرون. ولئن كانت الحياة الأدبية قد انتظرت رحيل هذه الكاتبة لكي تطلق عشرات الكاتبات، النساء بخاصة، فإن هناك في الأقل كاتبة روائية إنجليزية عاصرت أغاثا كريستي ولم تقل عنها أهمية، ومع هذا ظلت شبه مجهولة. هذه الكاتبة هي دوروثي صايرز التي حين رحلت عن عالمنا أواخر عام 1957 رحلت من دون أن يتنبه إليها كثيرون لأن الزمن كان - بالتحديد - زمن أغاثا كريستي.
آفة عدم التركيز
ولعل المشكلة الأولى مع دوروثي صايرز تكمن في كونها وزعت موهبتها وأيامها بين نوعين أتقنتهما من أنواع الكتابة الروائية والأدبية: الرواية البوليسية والشعر الكلاسيكي، بل إنها كانت أيضاً رئيسة لتحرير مجلة "الشعر" التي كانت تصدرها جامعة أوكسفورد العريقة. وهي حين كانت في أوج ازدهارها ككاتبة بوليسية لم تتردد دون إصدار رواية فاوستية كاثوليكية بعنوان "الشيطان الذي يوقع". ناهيك بأن إنجازها الأكبر خلال حياتها كان ترجمتها "الكوميديا الإلهية" لدانتي إلى اللغة الإنجليزية. غير أن هذا كله لم يمنع دوروثي صايرز من تكريس معظم سنوات حياتها للروايات البوليسية، وهي الحائزة أصلاً على دبلوم دراسات أدب القرون الوسطى. ولدت دوروثي عام 1893 في بريطانيا. أما عملها البوليسي فقد ولد في 1923 حين ابتكرت بطلها التحري الخاص اللورد بيتر ويمزي، عبر رواية "لورد بيتر والمجهول". ومنذ تلك الرواية شاءت دوروثي أن تجعل من بطلها "شرلوك هولمز أحياء الأغنياء" في لندن. ولم يكن من قبيل الصدفة أن يكون لورد بيتر من عشاق أدب دانتي والموسيقى الكلاسيكية (وخصوصاً باخ وسكارلاتي اللذين يعزفهما جيداً على البيانو وهو يفكر في حل الألغاز البوليسية التي تنطرح عليه).
الرواية المفضلة
ولورد بيتر هذا هو الذي توقف النقاد طويلاً عند رواية صايرز البوليسية التاسعة التي قام فيها بعمله وهي "تسعة خياطين" التي أصدرتها الكاتبة عام 1934 واعتبرت منذ ذلك الحين القمة في نتاج الكاتبة البوليسي. ومع ذلك علينا أن نلاحظ أن هذه الرواية، ومن بين روايات الكاتبة البوليسية تكاد تكون الأكثر ابتعاداً عن لندن بالنسبة إلى مكان أحداثها. فهي تدور أساساً في لنكولن شير القريبة من مسقط رأس الكاتبة وفي أوساط اجتماعية ريفية موسرة تكاد تكون متطابقة مع الوسط الاجتماعي - والديني - الذي نشأت فيه الكاتبة، مما جعل كثراً بالتالي يعتبرون الرواية، في مناخها إن لم يكن في أحداثها طبعاً، أقرب إلى سيرة الكاتبة الذاتية.
ومع ذلك هي أولاً وأخيراً رواية بوليسية تدور أصلاً من حول سرقة عقد من الزمرد ثمين من واحد من أعيان المنطقة، هو عميد العائلة الموسرة التي تتولى لمكانتها الاجتماعية مهمة قرع أجراس كنيسة البلدة بالتناوب بين أفرادها. ولئن كان رجال الشرطة قد تمكنوا قبل بدء الأحداث الراهنة والتي يستدعى تحري صايرز الأثير اليوم للتحقيق فيها متأففاً وهو ابن المدينة الذي لا يحب التعامل مع الريف وأهله، تمكنوا من اعتقال شخصين اتهماهما بالسرقة فإن هذين لم يعترفا أبداً. وها هو ذا الآن أحدهما يهرب من السجن ليعثر عليه قتيلاً على قارعة الطريق مرتدياً ملابس السجن من دون أن يعرف شيء عمن يكون قد قتله. وهذه الجريمة التي سيجد اللورد بيتر نفسه متورطاً في التحقيق فيها، لن تكون واحدة بل ستتلوها جرائم جديدة تزيد الأمور تعقيداً واللورد بيتر تأففاً والجو كله غموضاً في غموض. ويقيناً أن الإعجاب العام بـ"تسعة خياطين" إنما تركز على المناخ الرائع الذي وصفته صايرز في الرواية بأكثر كثيراً مما تركز على الأحداث، بل حتى على الأسلوب العقلاني الذي عالج به التحري اللورد الحكاية وجرائمها حتى تمكن من حل ألغازها بأحس ما يكون "بل بأفضل مما كان من شأن شرلوك هولمز (بطل سير آرثر كونان دويل المفضل) وهركيول بوارو (أحد أبطال روايات أغاثا كريستي) أن يفعلا" بحسب إجماع النقاد.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
ناطق باسم الكاتبة
ومع ذلك لا بد أن نلاحظ دائماً أن الأهم في الرواية ليس حبكتها ولا الحلول "الإعجازية" التي مكنت اللورد بيتر من الوصول إلى استنتاجاته، بل تحديداً موقفه الملتبس بل حتى المعادي تجاه أخلاقيات الأسر الثرية في الريف الإنجليزي، وهو المديني الذي لا يغادر لندنه الحبيبة إلا على مضض وإلا آملاً في العودة إليها بسرعة. ويقيناً أن هذا التحري المثقف وذواقة الفنون الكلاسيكية الذي لا يبارح اسم أفلاطون وويليام بليك شفتيه، إنما يستخدم هنا من قبل الكاتبة كأنا/ آخر لها ينطق باسمها ويعبر عن مشاعرها من دون أن تتدخل هي في تحقيقاته وبراعته في أداء مهنته. ومن الواضح أن ذلك كان من أسباب الإعجاب العام بالرواية التي ستقتبس للسينما ثم للتلفزة مرات ومرات.
لندن الصمت والضباب
ومهما يكن فإن أحداث معظم روايات دوروثي صايرز البوليسية تدور في لندن الصمت والليل والضباب، وتتحلى بمذاق العيش المخملي، ناهيك بأن شخصياتها الأساسية شخصيات مثقفة تستشهد بأشعار القرون الوسطى ولا تكف عن ذكر أفلاطون ووليام بليك، كما يفعل اللورد بيتر وكأن السيدة التي كانت واحدة من أولى النساء اللاتي تخرجن في جامعة أوكسفورد شاءت أن تثبت دائماً أنها سيدة ثقافة رفيعة حتى ولو كتبت روايات بوليسية ستباع بأثمان زهيدة. ولعل هذا كله جعل رواياتها تفتقر إلى بساطة روايات كريستي التي تبدت شعبيتها دائماً كاسحة. وطوال أكثر من خمسة عشر عاماً، أصدرت دوروثي صايرز نحو 30 رواية بوليسية، ولقد حول بعض رواياتها إلى أفلام سينمائية حققت شهرة لا بأس بها، بخاصة أن هذه الكاتبة المثقفة بل حتى ذات الثقافة النخبوية الرفيعة كانت تتوقف طويلاً عند التحولات السيكولوجية لشخصياتها، مما أضفى على عملها مسحة أنيقة وأدبية لا لبس فيها. وفي بعض رواياتها غاب لورد بيتر، الذي كانت في بعض الأحيان تعلن سأمها منه ومن تصرفاته، ليحل محله تحر آخر حمل اسم مونتاغ ايغ، لكنه لم يحقق من النجاح ذلك القدر الذي كان لورد بيتر قد حققه.
عودة إلى الكاثوليكية
وخلال العقدين الأخيرين من حياتها، كفت دوروثي صايرز عن كتابة الروايات البوليسية لتنصرف إلى كتابة مسرحيات دينية انطبعت بطابع كاثوليكي واضح، وكان ذلك في الوقت الذي انكبت فيه على ترجمة "الكوميديا الإلهية" التي أصدرت منها خلال حياتها جزأين: "الجحيم" و"المطهر" وكانت في صدد الانتهاء من ترجمة الجزء الثالث "الفردوس" حين رحلت عن عالمنا.