ملخص
على مشارف الذكرى المئوية الأولى لإصدار الشاعر أندريه بريتون بيان تأسيس الحركة السوريالية
"السوريالية: فعل تلقائي نفسي، يصار عبره إلى التعبير، إما لفظياً وإما عن طريق الكتابة وإما بأي وسيلة أخرى، عن الوظائفية الحقيقية للفكر. إنه فعل يمليه الفكر، في غياب أي رقابة تمارس عن طريق العقل، وخارج إطار أي اهتمام جمالي أو أخلاقي". هذه الكلمات الواضحة، قد تبدو اليوم شديدة العادية، بل وحتى متخلفة إلى حد بعيد، إن نحن سقناها في إطار التطورات الهائلة التي طرأت على الميادين الفكرية والفنية خلال السنوات الأخيرة، غير أنها كانت، في الواقع، يوم ظهرت للمرة الأولى، إشارة البدء لواحدة من "أعنف" الثورات الجمالية والفكرية التي اجتاحت الإبداع، منذ عصر النهضة الأوروبي على الأقل. فهذه الكلمات التي تقدم تعريفاً أولياً وبسيطاً للسوريالية، تشكل جزءاً من الفقرات الأولى من "بيان السوريالية" الذي أطلقه أندريه بريتون في بداية العشرينيات، فأعلن عبره ولادة ذلك الشيء الذي اعتبر جديداً آنذاك، لكن مصيره كان أن يبدع فهماً جديداً لكثير من المدارس والتصورات السابقة عليه، إضافة إلى كونه يرمز إلى تيار متكامل مع ذاته تضافر فيه الفن والأدب والفكر، وصولاً إلى السياسة، بل انطلاقاً من السياسة، على رغم أن سوء فهم مقصود كان قد أوحى على الدوام بأن التيار السوريالي لا شأن له بالسياسة إطلاقاً.
سوء فهم متواصل
لكن سوء الفهم هذا، لم يكن الوحيد الذي جابه السوريالية في مسار تاريخها. فالواقع أن السوريالية قامت أصلاً على سوء تفاهم بين، وذلك ربما بسبب كونها أول تيار إبداعي في تاريخ الفن يكون نفسه نظرياً ويعطي لذاته طابع الشمولية، من قبل تشكله في بعده العملي، بمعنى أن السوريالية، كما صاغها بريتون ونفر من صحبه الأوائل، كانت، في المقام الأول، نظرية تحاول التأريخ لباطن العقل الإنساني، أكثر مما كانت تفسيراً يحاول أن يربط بين عدة تيارات أو مدارس ممارسة للفن وقائمة بالفعل خارج التصنيف النظري، كما كانت حال الانطباعية أو التعبيرية أو التكعيبية.. على سبيل المثال.
عندما بدأ أندريه بريتون يبث الأفكار السوريالية، في مثل هذه الأيام تماماً قبل 100 عام، كان من الواضح أنه ليس مجرد ناقد أدبي أو فني أو أستاذ جامعة أكاديمياً، يحاول أن يواكب ظواهر فنية قائمة، بل إنه صاحب ثورة سياسية –فكرية– جمالية، تحاول أن تجد في مكتسبات العصر، على صعيد تفسير الأحلام والتحليل النفسي، والقراءة السيكولوجية لتاريخ الفن، سبيلاً لقيام فن جديد يمارس، في ذاته، ثورة تواكب الثورات السياسية التي كانت تعد بالكثير في العشرينيات والثلاثينيات وسط أزمات فكرية وفنية طاحنة. وهل نحن حقاً بحاجة إلى أن نفسر السبب الذي يجعلنا، في هذا السياق، نتحدث عن أزمة الفكر وعن أزمة الفن؟ إن البعد الذي اتخذته السوريالية دائماً، ربما يكون واحداً من الأشكال الأساسية التي تعزز فكرة ارتباط الفكر (والحساسية الاجتماعية والسياسية، تالياً) بالفن. وفي هذه النقطة يكمن واحد من الإشكالات التي تجابه النظرة العامة إلى السوريالية، إذ إننا نعلم أن نصف القرن الذي مضى، أعطى دائماً للسوريالية شكلاً يشبه الشكل المعطى للفوضوية أو للعدمية: شكل الابتعاد التام عن قضايا الحياة الإنسانية، والانخراط في أنواع من الممارسة العابثة التي تعزز فردية الفنان وتمرديته. وقد يكون في هذا التفسير جزء من الصحة، لكن هذا الجزء يرتبط بفكرة التمرد، أكثر مما يرتبط بفكرة الفردية.
التمرد في خدمة الفن والحياة
فالسوريالي، ومنذ كتابات بريتون الأولى، متمرد، لكنه لا ينطوي بتمرده على ذاته، ويجعل منه مبرراً لعدمية ما، بل إنه يضع هذا التمرد في خدمة الفن، ويضع الفن نفسه في خدمة الثورة. وحتى إذا كان قد وجد دائماً سورياليون يعارضون بريتون وأساطين السوريالية الآخرين في نظرتهم هذه، فإن الذي لا شك فيه هو أن السوريالية كما تخيلها بريتون ورفاقه من الموقعين الأوائل على البيانات السوريالية، ثورة مسؤولة، تنطلق من تمرد على الأوضاع القائمة ومن نظرة إلى العالم، ومن فلسفة ذات وضوح ومن رؤية لمستقبل البشرية، بعيدة جداً عن رؤى التشاؤم والفناء. وإذا كنا في هذا الحيز، غير قادرين على رسم تاريخ السوريالية كله أو على مناقشة ضروب سوء التفاهم التي أحاطت بالسوريالية، نعتقد أن بإمكاننا على الأقل أن نقدم بعض الملاحظات الأولية التي ستحاول أن تقول إن "السوريالية ربما كانت شيئاً آخر تماماً غير ما نعرفه". والملاحظة الأولى تتعلق بولادة السوريالية، فإذا كان بريتون يقول في كتابه "السوريالية والرسم": "إن فهماً ضيقاً لمفهوم المحاكاة وقد أعطيت كهدف للفن، هو في أساس سوء التفاهم الخطر الذي نراه متواصلاً حتى أيامنا هذه. على أساس أن الإنسان غير قادر على أكثر من إعادة إنتاج الصورة التي يعبر بها عما يلامسه، اكتفى الرسامون دائماً بإبداء كثير من التسامح في مجال اختيارهم للنماذج التي يصورونها. والخطأ المقترف يكمن في الاعتقاد أن النموذج لا يمكنه أن يؤخذ إلا من نموذج خارجي (...). صحيح أن الحساسية البشرية يمكنها أن تسبغ على الشيء ذي المظهر العادي جداً، اختلافاً غير متوقع (...)، لكن ثمة هنا تنازلاً لا يغتفر، إذ من المستحيل، في الوضعية الراهنة للفكر، القبول بمثل هذه التضحية. من هنا يكون على العمل التشكيلي، لكي يستجيب لضرورة إعادة النظر المطلقة في القيم الحقيقية التي تتوافق عليها اليوم كل العقول، عليه أن يستند إذن إلى نموذج داخلي صرف... وإلا فلن تقوم له قائمة". من الواضح هنا أن هذه الإشارة إلى "النموذج الداخلي" ليست سوى الخطوة الأولى التي كان على الفكر السوريالي أن يخطوها قبل أن يصل إلى فرض تعريف جديد للفن يستند إلى وثبة الروح الداخلية ولهيبها، كنقيض للتعريف الآخر الذي يرتاح إلى محاكاة النماذج الخارجية وتصويرها، ولو بحرفية شديدة الإتقان. إذن ما يقترحه بريتون، والسورياليون، هو عودة إلى داخل الروح لكي يتم عبر ذلك الداخل اكتشاف ما يحدث في العالم الخارجي. بالنسبة إلى السورياليين ليست المسألة مسألة مشاهدة العالم من خلال صورة الواقع الخارجي التي يقدمها. وما هذا إلا لأن شعلة الثورة الإنسانية الحقيقية توجد هناك في أعماق الروح.
واقع مركب
مقابل الواقع الظاهر والبسيط إذا، طرح السورياليون واقعاً ينبع من الأعماق ومركباً... طرحوا واقعاً يرسم مسيرة اللهيب في داخل الروح.. وقد أدركوا أنهم لا يقدمون جديداً خالصاً بقدر ما يقدمون تفسيراً جديداً لنتاجات فنية تعاطت مع "الواقع الداخلي" وظلت غير مفهومة لفترة من الوقت طويلة: أخذ السورياليون رسوم جيرنيموس بوش مثلاً، وبعض لوحات بروغل، والموت كما صوره عديد من الفنانين، وأخذوا تشويهات ماتانيا الشكلية، فرأوا فيها جميعاً إرهاصاً بما يريدون قوله.. إرهاصاً بذلك الفن المطلوب، الذي في صيغته الأكثر تبسيطاً يجمع "واقعين" أو "ثلاثة" في لحظة واحدة ما ينتج واقعاً جديداً، ولكن أين يمكن أن يكون المكان الذي ينوجد فيه هذا الواقع الجديد؟ في ثلاثة أماكن، أجاب السورياليون: في الحلم، وفي داخل الروح، ثم في العمل الفني. من هنا ذلك التضافر بين النفس والحلم والفن.
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
حيوان يحلم
ولنأخذ هنا مثلاً لوحة لماكس إرنست أو لدى شيريكو أو لسلفادور دالي (وكل من هؤلاء الثلاثة كان سوريالياً على طريقته الخاصة)، أن لوحات هؤلاء، تقدم على المسطح الملون عالماً قائماً في ذاته، يقول جوهره من دون أن يكون بحاجة إلى أن يكون متكاملاً مع لوحات أخرى أو مع عوالم أخرى: على اللوحة تتضافر أشكال لو أخذنا كل شكل منها على حدة لتبدى شكلاً عادياً (قد يكون فيه شيء من التشويه، أجل، لكنه عادي في منطلقه: ساعة، أو ثدي، أو شجرة، أو ظل بناية، أو حصان أو قط)، لكن تضافر هذه الأشكال معاً سيبديها وكأنها تتحدى الصيرورة الزمنية السياق ذاته الخطي، تضافر هذه الأشكال والأزمنة، يعطي إشارة انطلاق الروح من أسرها في المكان والزمان. فعلى اللوحة يحدث ما يحدث في داخل الروح (تضارب الأفكار، أحلام اليقظة، الجنون اليومي الذي يعود ويستقيم في خطية الواقع وامتثالية السلوك الاجتماعي والبيولوجي)، يحدث في اللوحة ما يحدث في الحلم. والحلم – بحسب السورياليين، هو جزء من الحياة، حتى ولو لم يكن جزءاً من الواقع، وليس صدفة هنا أن يقدم بريتون ذات مرة تعريفاً للإنسان يقول، "الإنسان حيوان يحلم"!