Sorry, you need to enable JavaScript to visit this website.

"الناي المسحور" أوبرا حولتها السياسة من مسرح الدمى إلى الاحتجاج

غريب كيف نسي المؤرخون بسرعة أن موتسارت لحنها بوصفها رسمياً: مغناة مصرية

مشهد من تقديم معاصر لـ"الناي المسحور" (موقع الأوبرا)

ملخص

كيف نسي المؤرخون بسرعة أن أوبرا "الناي المسحور" أن موتسارت لحنها بوصفها رسمياً: مغناة مصرية؟

لعل من أغرب الأمور المتعلقة بأوبرا موتسارت الشهيرة "الناي المسحور" أنه حين تذكر مساهمات الموسيقي النمسوي الكبير وولفغانغ آماديوس موتسارت في إبداع الفنون الاستشراقية خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر يؤتى عادة على ذكر أوبراه "خطف في السرايا"، لتغيب عن البال أوبراه الكبيرة الأخرى "الناي المسحور"، على رغم أن التعريف الرسمي للأوبرا والذي يكاد يغيب اليوم تماماً عن الذاكرة إنما هو "مغناة مصرية". ومهما يكن من أمر قد يكون علينا هنا أن نوضح الأمور بعض الشيء، لافتين أولاً إلى أن هذه الأوبرا لا يمكن أن تعتبر استشراقية على رغم "مصريتها" المعلنة بكل وضوح. فهي لا تخوض في عالم الشرق كما تفعل "خطف في السرايا" الاستشراقية العثمانية بكل وضوح ولا كما تفعل أوبرات لغير موتسارت. ففي نهاية الأمر لا بد من توضيح أن البعد المصري في الأوبرا التي نحن في صددها هنا ليس مصرياً إلا من طريق ارتباطها المقصود، لأسباب سنوضحها بعد سطور، بالفكر الماسوني الذي يعود أصحابه بجذوره إلى مصر الفرعونية وتحديداً إلى أسطورة إيزيس وأوزيريس. وهو فكر مصري بالتأكيد لكنه ليس استشراقياً وإن كانت صفة شرقي تطلق عليه وتعتبر من مبادئ وجوده. ومن هنا يمكننا أن نقول هنا إن "الناي المسحور" شرقية في فكرانيتها لكنها لم تكن كذلك حين ولدت فكرتها للمرة الأولى كما سنرى الآن.

الفن في معمعان السياسة

في البداية كانت فكرة "الناي المسحور" فكرة راودت ذهن صديق لموتسارت، هو ممثل مشرف على فرقة غنائية وجد نفسه وفرقته ذات يوم على وشك الإفلاس فرأى أن ما أحد يمكنه أن ينقذه الآن وينقذ فرقته أكثر من صديقه ذي الموهبة الاستثنائية، والذي كان لا يزال في شرخ شبابه وبات يملك من الشهرة والتراث الفني ما يضمن النجاح. وهكذا قصد إيمانويل شيكندر، وذلك كان اسمه، موتسارت ليقترح الفكرة عليه طالباً منه أن يموسق نصاً أعده عن حكاية مكتوبة أصلاً للصغار، شارحاً أنه يريد تحويلها إلى مغناة بسيطة تقدم من خلال فرقة مسرح دمى يكتبها. يومها وافق موتسارت على ما طلبه منه شيكندر وبخاصة أن هذا الأخير كان رفيقه في محفل ماسوني من النوع الذي كان منتشراً في ذلك الحين ويعتبر كالعادة "محفلاً شرقياً" يطلب من أعضائه مساعدة بعضهم بعضاً حين يكونون قادرين على ذلك. وهكذا انطلاقاً من واجب الصداقة والرغبة في دعم هذا الصديق وافق موتسارت، بل شرع من فوره يكتب النوتات الأولى من تلك الموسيقى البسيطة التي رأى أنها ستلائم عملاً غنائياً يكتب للصغار، ولكن وكما تفعل صروف الدهر فعلها عادة، حدث في تلك الآونة أن راح خطر الماسونيين يتمظهر للسلطات فما كان من الإمبراطورة ماريا تيريزا إلا أن أصدرت قراراً بحل الجماعات الماسونية وإقفال محافلها في طول الإمبراطورية وعرضها.

تحول استفزازي ولكن مبطن

وهنا بدلاً من أن ينأى شيكندر وموتسارت عن الانتماء الماسوني متابعين العمل على أوبرا الدمى تلك، وجدا معاً أن ثمة الآن واجباً اجتماعياً وسياسياً طارئاً يحتم عليهما الاشتغال بشكل مختلف على تلك الأوبرا كي تصبح أوبرا ماسونية عن حق وحقيق، بل أكثر من هذا "أوبرا ماسونية تتلطى خلف الأفكار الحكائية البسيطة لتنشر الأفكار الماسونية من خلال تركيزها على ارتباط الحكاية بأسطورة إيزيس وأوزيريس من دون أن تبدو وكأنها ترسخ الأفكار الماسونية وتتحدى السلطات الإمبراطورية". ومن هنا سرعان ما صارت "الناي المسحور" شيئاً آخر مختلفاً تماماً عما بدأت به. وكل هذا من دون أن يبدو وكأن خالقي العمل قد تعمدا إحداث تبديلات جذرية فيه تبتعد كثيراً عما كانت الرقابة قد سمحت به أول الأمر، بل لا بد من الإشارة هنا إلى أن صفة "أوبرا مصرية" قد انطلت على الرقابة التي فاتها، كما يبدو، أن تتنبه كيف أن الساحر الشرير، في النص الأصلي، ساراسترو بات الآن من كهنة معبد إيزيس وحكيماً بين الحكماء. وكيف أن المحن العديدة التي يمر بها حبيبا الأوبرا الأمير تامينو وبامينا ابنة "ملكة الليل" ليست في حقيقة أمرها سوى نسخة من الطقوس المعتادة لدى الماسونيين.

يحدث في مصر القديمة

وكل هذا يحدث الآن في مصر القديمة التي يعتبرها الماسونيون كما أشرنا، مهد ولادة مذاهبهم ومآل تراثهم وتاريخهم. ولعل كل هذا قد جعل موتسارت ينحرف عما كان قد قرره أول الأمر من إضفاء طابع البساطة على الموسيقى التي خص بها العمل، ليعيد كتابة ألحان ومقطوعات موسيقية بدت هذه المرة، في صيغتها الجديدة، أقرب إلى أن تكون موسيقى احتفالية قدسية ذات قوة وغموض فاتنين. ولعل في مقدورنا هنا أن ننقل عن مؤرخي عمل موتسارت الكبير هذا، كيف أن كثراً من النقاد والباحثين تمكنوا، وبعد أن مرت عاصفة الحملة ضد الماسونيين بسلام فاستعادوا محافلهم، تمكنوا من أن يماهوا في تحليلات - ظلت على الدوام مثيرة للسجال - بين عديد من شخصيات الأوبرا، وبين عدد من كبار رجالات السلطة والمعارضة، في ذلك الحين. وعلى سبيل المثال اعتبر تامينو شخصية تمثل الإمبراطور جوزيف الثاني، ونظر إلى بامينا باعتبارها تمثل الشعب النمسوي كله، وساراسترو صورة من إغناز فون بورن القائد الماسوني المعروف حينها ورجل العلم البارز، بينما تمت المماهاة بين الانتقام الذي مارسته ملكة الليل في الأوبرا بما اقترفته الإمبراطورة في حق الماسونيين. أما الشرير مونوستاتوس فشوهد من خلاله قادة الجماعات اليسوعية الذين كانوا هم من ألب الإمبراطورة ضد المحافل الماسونية.

اقرأ المزيد

يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)

سرعة قياسية

وهنا لا بد أن نذكر أن موتسارت قد انصرف تماماً للاشتغال على هذه الأوبرا بصيغتها الجديدة التي شاءها استفزازية إلى أقصى حدود الاستفزاز، بين مارس (آذار) ويوليو (تموز) 1791 ليعود إليها في شهر سبتمبر (أيلول) من العام نفسه، وينجزها تماماً وهو مدرك مقدار المجازفة التي يقوم بها مع رفيقه شيكندر وكيف أن عليه أن يسابق الزمن، وهو الذي نعرف أنه سيرحل في العام نفسه عن عالمنا على أية حال. وبالفعل جرى الافتتاح في اليوم الأخير من سبتمبر في فيينا، محققاً نجاحاً كبيراً. وكان من حسن الحظ أن الحملة ضد الماسونيين كانت قد خفت، مما مكن النقاد من إبداء إشارات سياسية زادت من الأهمية المضفاة على العمل. وستقدم الأوبرا بعد ذلك بعشر سنوات في باريس ولكن تلك المرة تحت عنوان "أسرار إيزيس" ثم تتنقل في المدن الأخرى وتقتبس وتحاكى حتى وصلت إلى السينما حيث استلهمت في عدد لا بأس به من أفلام، لعل أقواها الفيلم الذي حققه السويدي إنغمار برغمان ولو مكتفياً بتصوير - أخاذ على أية حال - لتقديم مسرحي معاصر للأوبرا بعنوانها الأصلي.

الحكاية

وبقي أن نذكر أخيراً بأن الأوبرا، وفي صياغتها الراسخة تتحدث في فصلين عن الأمير تامينو وهو يحاول الهرب من ثعبان ضخم مميت حاول قتله. وهو حين يغمى عليه بعد أن توسل إلى الآلهة كي تنقذه تتمكن وصيفات ملكة الليل من إنقاذه على الضد من ادعاء الشرير باباغانو بأنه هو منقذه. وحين يفيق تامينو في حضرة ملكة الليل تريه هذه صورة ابنتها بامينا التي كان الشرير ساراسترو قد خطفها وتطلب من الأمير إنقاذها فتكون له. وتدور الأحداث تالياً في قصر ساراسترو حيث تسجن بامينا ويصل تامينو إلى القصر مزوداً بالناي المسحور الذي أعطته إياه ملكة الليل كي ينقذه حين تدعو الحاجة. وفي القصر يعبر تامينو أبواب الطبيعة والعقل والحكمة ليلتقي إثر ذلك بامينا بعد أن يسحر بنايه الحيوانات التي أرسلها مونوستاتوس لقتله، لكن مونوستاتوس يتمكن من أسر تامينو ويقوده إلى مكان وجود بامينا فما إن تراه هذه حتى تغرم به.

ويدور الفصل الثاني والأخير من حول توسل الكاهن الطيب ساراسترو إلى إيزيس وأوزيريس كي ينقذا الحبيبين فيقبلان شرط أن يتمكن الأمير وبامينا من النجاح في التصدي للمحن العديدة فيفعلان ودائماً بمساعدة ساراسترو، وعلى رغم لحظات يأس تدفع بامينا إلى محاولة الانتحار وعلى رغم محاولات أمها ملكة الليل الغدر بها حتى يلوح النور في نهاية الأمر وينتصر الحب على الظلام والليل وملكتهما.

المزيد من ثقافة