ملخص
تشهد القاهرة أزمة خانقة في سوق الصرف منذ مارس (آذار) 2022 مع تبخر أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق
زادت وكالات التصنيف الائتماني العالمية من أوجاع الاقتصاد المصري المأزوم منذ أكثر من 13 شهراً، لتلقي بتقييماتها الداعمة لزيادة كلفة الإقراض بمزيد من العقبات التي تعرقل مساعي انتشال اقتصاد القاهرة من عثرته، إذ خفضت الوكالات الواحدة تلو الأخرى من نظرتها ناحية الاقتصاد من مستقرة إلى سلبية، وكانت آخر تلك النظرات السلبية بعين وكالة "فيتش" للتصنيف الائتماني، بعد أن خفضت السبت التصنيف السيادي لإصدارات الدين الطويلة الأجل بالعملات الأجنبية إلى "B" بدلاً من "+B" مع إبقاء النظرة المستقبلية سلبية.
عزت "فيتش" قرارها إلى توقعات سلبية، من بينها ازدياد أخطار التمويل الخارجي لارتفاع متطلبات هذا التمويل وقيود ظروفه، وذكرت أن "ذلك يأتي على خلفية ارتفاع درجة عدم اليقين في شأن مسار سعر الصرف، وانخفاض احتياطات السيولة الخارجية".
ترى الوكالة أن هناك "خطراً يتمثل في أن مزيداً من التأخير في الانتقال إلى سعر صرف مرن سيؤدي إلى مزيد من تقويض الثقة، وربما يؤدي إلى تأخير برنامج صندوق النقد الدولي"، مشيرة إلى أن "خفض التصنيف يجسد أيضاً تدهوراً ملحوظاً في مقاييس الدين العام، بما في ذلك التدهور المتجدد في كلفة وإيرادات الفوائد الحكومية، والتي، إذا لم يتم عكسها، ستعرض القدرة على تحمل الدين على المدى المتوسط للخطر".
قيود على الطريق
سجل حجم الدين الخارجي لمصر في نهاية شهر سبتمبر (أيلول) 2022 نحو 155 مليار دولار، متراجعاً بنحو 700 مليون دولار، بمعدل 0.5 في المئة عند المقارنة بشهر يونيو (حزيران) 2022، بينما هبط صافي احتياطي القاهرة من العملات الأجنبية في نهاية أبريل (نيسان) الماضي إلى نحو 34.4 مليار دولار، مقارنة بـ33.1 مليار دولار في أغسطس (آب) الماضي وهبوطاً من 41 مليار دولار في فبراير (شباط) 2022، وفقاً لبيانات البنك المركزي المصري.
وحول قدرة القاهرة على تدبير حاجاتها من التمويل الخارجي، تقول وكالة "فيتش" إن "حالة عدم اليقين زادت في شأن قدرة مصر على تلبية حاجاتها من التمويل الخارجي، مما يعكس استمرار القيود على الوصول إلى الأسواق، وانعدام ثقة السوق في نظام سعر الصرف الجديد للبنك المركزي المصري، الأمر الذي أعاق تدفقات العملات الأجنبية".
وفي شأن أسعار الصرف أشارت الوكالة الدولية إلى أن "ظاهرة النقص في العملات الأجنبية عادت إلى الظهور من جديد في فبراير 2023، في الوقت الذي استقر فيه سعر الصرف الرسمي بعد التخفيضات المتتالية لقيمة العملة التي أدت إلى تراجع الجنيه المصري أمام الدولار بأكثر من نصف قيمته مقابل الدولار الأميركي".
وتابعت الوكالة "يعكس الاستقرار جزئياً (في قيمة الجنيه المصري) إحجام المشاركين في السوق عن التعامل في سوق الصرف الأجنبي، نظراً إلى ارتفاع درجة عدم اليقين في شأن مستوى سعر الصرف المستقبلي، وكذلك التدخلات من جانب بنوك القطاع العام، مما يزيد من الإضرار بالثقة في نظام سعر الصرف المرن الدائم وقيمة العملة".
التمويل صعب ومكلف
وترى "فيتش" أن "متطلبات التمويل الخارجي لمصر ستكون أكثر صعوبة في السنة المالية 2023-2024 بسبب زيادة آجال استحقاق الديون الخارجية الحكومية بنحو 7.2 مليار دولار، ارتفاعاً من 4.3 مليار دولار في السنة المالية 2022-2023"، متوقعة في الوقت ذاته أن "يبلغ عجز الحساب الجاري 3.3 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي في السنتين الماليتين الحالية والمقبلة، مقابل 3.5 في المئة في السنة المالية الماضية، إذ يأتي معظم التحسن من ارتفاع عائدات السياحة وقناة السويس".
اقرأ المزيد
يحتوي هذا القسم على المقلات ذات صلة, الموضوعة في (Related Nodes field)
على الجانب الآخر، ردت وزارة المالية المصرية على تقرير وكالة "فيتش" في بيان رسمي قال فيه وزير المالية محمد معيط إن "قرار مؤسسة (فيتش) بخفض التصنيف الائتماني لمصر بالعملتين المحلية والأجنبية إلى درجة B مع نظرة مستقبلية سلبية يعكس نظرة المؤسسة إلى تقديرات الحاجات التمويلية الخارجية للاقتصاد المصري، مع ظروف أسواق المال العالمية غير المواتية لكل الدول الناشئة"، مضيفاً أنه "يعكس أيضاً تقديرات وتحليلات المؤسسة في ظل استمرار تعرض الاقتصاد المصري لضغوط خارجية صعبة نتيجة للتحديات العالمية المركبة المتمثلة في التداعيات السلبية للحرب في أوروبا، وموجة التضخم العالمية، وارتفاع أسعار الفائدة والإقراض، وكلفة التمويل بسبب السياسات التقييدية للبنوك المركزية حول العالم، مما أدى إلى موجة من خروج رؤوس الأموال من الأسواق الناشئة، ومن بينها مصر لصالح الدول والأسواق المتقدمة، وهو ما يتزامن مع صعوبة الوصول إلى الأسواق العالمية، وما تعانيه من حالة عدم اليقين لدى المستثمرين".
الإصلاح الاقتصادي مستمر
وأشار وزير المالية إلى أن "الاقتصاد المصري جذب استثمارات أجنبية كبيرة خلال النصف الأول من العام المالي، كما جذب أيضاً موارد مالية من مؤسسات دولية عدة، على رغم شدة الضغوط والتحديات العالمية، وما زال الاقتصاد يمتلك القدرة على جذب التدفقات الأجنبية، وما تتخذه الحكومة من إجراءات وتدابير وما تنفذه من إصلاحات لتمكين القطاع الخاص المحلي والأجنبي يسهم في سرعة عودة الاقتصاد المصري إلى النمو القوي والمستدام". موضحاً أن برنامج الطروحات الحكومية في إطار وثيقة سياسة ملكية الدولة يفتح آفاقاً للاستثمارات الأجنبية، وسط استهداف بلاده منها ملياري دولار قبل نهاية العام المالي الحالي.
وحول عمليات الإصلاح الاقتصادي، قال الوزير المصري إن وزاته ماضية في تنفيذ حزمة متكاملة من الإصلاحات لتعزيز المسار الاقتصادي الآمن في مواجهة الصدمات الخارجية، وإن هناك حزمة إجراءات مالية ونقدية وهيكلية، للتعامل الإيجابي مع توفير الحاجات التمويلية الخارجية للبلاد، إضافة إلى الالتزام الكامل ببرنامج الإصلاح الاقتصادي المدعوم من صندوق النقد الدولي، على نحو يساعد في امتلاك القدرة على تعظيم الموارد من النقد الأجنبي للبلاد.
وتابع معيط أن "تقرير وكالة التصنيف أشار إلى زيادة الصادرات المصرية بشكل كبير، خصوصاً من الغاز الطبيعي أخيراً، إلى جانب ارتفاع حصيلة الصادرات غير البترولية، إذ شهدت نمواً ملحوظاً خلال العام المالي السابق، إضافة إلى التعافي الذي يشهده قطاع السياحة سواء من حيث عدد وتنوع أسواق السياحة الواردة أو تنامي عدد الليالي السياحية، وزيادة إيرادات قناة السويس بشكل ملحوظ ومستدام أيضاً"، لافتاً إلى ارتفاع رصيد الاحتياطات الأجنبية لتصل إلى 34.5 مليار دولار في نهاية الشهر الماضي.
قرار وكالة "فيتش" يأتي بعد أسبوع من قرار مماثل لوكالة "ستاندرد أند بورز" للتصنيف الائتماني، والتي خفضت نظرتها المستقبلية لبنكي "الأهلي المصري" و"مصر" التابعين للدولة، إضافة إلى البنك التجاري الدولي - أكبر بنوك القطاع الخاص في مصر - من مستقرة إلى سلبية، وبعد أقل من ثلاثة أسابيع من خفض المؤسسة من نظرتها المستقبلية لآفاق الدين السيادي المصري من مستقرة إلى سلبية، محذرة من "أخطار عدم القدرة على تلبية حاجات البلاد التمويلية الخارجية، إذا لم تنفذ الإصلاحات الاقتصادية المرتبطة ببرنامج قرض صندوق النقد الدولي".
بنوك في العاصفة
في وقت سابق من العام الحالي خفضت وكالة "موديز" التصنيف الائتماني لخمسة بنوك مصرية، هي "الأهلي المصري" و"مصر" و"القاهرة" و"التجاري الدولي" وبنك الإسكندرية عقب تخفيض التصنيف الائتماني للبلاد، وهو ما قلل من شأنه المتخصص في شؤون الاقتصاد هاني توفيق، بتعليق آنذاك على حسابه بموقع التواصل الاجتماعي "فيسبوك" قال فيه إن "خفض التصنيف الائتماني للبنوك المحلية أو تغير النظرة المستقبلية لها من مستقرة إلى سلبية شكلاً لا يعني شيئاً"، موضحاً أن "النظرة المستقبلية السلبية للبنوك تتبع التصنيف الائتماني للدولة صعوداً أو هبوطاً، ولا خوف على أموال المودعين بالبنوك"، وأن "استمرار خفض التصنيف الائتماني من قبل الوكالات الدولية ما هو إلا تذكير للسلطات المصرية بضرورة البدء فوراً بإصلاح المنظومة الاقتصادية بالكامل".
تشهد القاهرة أزمة خانقة في سوق الصرف منذ مارس (آذار) 2022 مع تبخر أكثر من 20 مليار دولار من الأموال الساخنة من السوق وتخارج المستثمرين الأجانب في أدوات الدين السيادية المصرية على أثر دورة التشديد النقدي التي يتبعها المجلس الاحتياطي (البنك المركزي الأميركي) منذ نهاية عام 2021، وهو ما دفع الحكومة إلى بدء مفاوضات مع صندوق النقد الدولي للحصول على تسهيل ائتماني جديد بقيمة ثلاثة مليارات دولار بفترة سداد تصل إلى 48 شهراً وحصلت على الشريحة الأولى من القرض في ديسمبر (كانون الأول) الماضي بقيمة 347 مليون دولار.
تأخر المراجعة الأولى
لا يرى رئيس لجنة الخطة والموازنة بمجلس النواب المصري فخري الفقي في استمرار وكالات التصنيف الائتماني العالمية خفض توقعاتها المستقبلية حول أداء الاقتصاد المصري أمراً غير طبيعي، موضحاً أن "تأخر الحكومة في إجراء الإصلاحات الاقتصادية الواجبة أحد أبرز الأسباب التي استندت إليها وكالات التصنيف".
يشير الفقي في حديثه لـ"اندبندنت عربية" إلى أن "القاهرة تأخرت كثيراً في إجراء المراجعة الأولى مع مسؤولي صندوق النقد الدولي بعد الحصول على أولى شرائح القرض بقيمة 347 مليون دولار نهاية العام الماضي"، لافتاً إلى أن "الموعد المحدد لإجراء المراجعة الأولى مع الصندوق الدولي مر عليه أكثر من شهرين، إذ كان محدداً منتصف مارس الماضي، وهو ما لم يحدث حتى الآن".
يضيف رئيس لجنة الخطة والموازنة أن "عملية إخراج الاقتصاد من وضعه المتأزم تبدأ بتنفيذ الإصلاحات الاقتصادية المالية والهيكلية التي تعهدت بها الحكومة لصندوق النقد، ومن أبرزها اتباع سعر صرف مرن واختفاء الأسواق الموازية (السوداء) لتشجيع المستثمرين على ضخ استثمارات جديدة تجلب مزيداً من العملات الصعبة لضخها في جسد الاقتصاد حتى يستعيد عافيته المنهكة منذ أكثر من عام تقريباً".
وألقى التضخم المرتفع بمزيد من الضغوط على الاقتصاد بشكل عام وعلى القطاع المصرفي بشكل خاص، في ظل مواصلة رفع أسعار الفائدة منذ الربع الأول من العام الماضي، وسط توقعات باستمرار تشديد السياسة النقدية حتى هدوء التضخم ونزوله من أعلى مستوى تشهده البلاد منذ خمس سنوات.
وفق بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء في مصر بلغ الرقم القياسي العام لأسعار المستهلكين لإجمالي الجمهورية نحو 166.5 نقطة في مارس الماضي، مسجلاً بذلك ارتفاعاً قدره 3.2 في المئة عن فبراير السابق له، كما سجل معدل التضـخم السنوي لإجمالي الجمهورية نحو 34 في المئة مارس 2023 مقابل نحو 12.1 في المئة للشهـر نفسه من العام السابق.